فلسطين هي التي تعترف بكم أو لا تعترف

الساعة 11:14 ص|19 سبتمبر 2020

فلسطين اليوم

بقلم: إبراهيم نصر الله  

مراحل متتالية للمحو تعرّضت لها فلسطين، وكل مرحلة تفرّعت عنها أشكال مختلفة من المحو، تُعزّز المسار الكبير لها. الآن وصلنا إلى المرحلة الثالثة التي ستشهد مسارات كثيرة ستعاني منها فلسطين طويلا، ويعاني شعبها.

مفارقة كبيرة تلك؛ أن يكون المحو الجديد المتمثل في احتضان الصهيونية من قبل النظام العربي على الهواء مباشرة، متزامنا مع وباء جديد، هو وباء كورونا، في حين انبثق المحو الأول المتمثّل في وعد بلفور متلازما مع وباء آخر، هو ذلك الذي عانت منه الإنسانية، ونعني الإنفلونزا الإسبانية التي حصدت عشرات الملايين من الأرواح.

وها هي فلسطين محاصرة بين وباءين سياسيين جديدين.

سار المحو الأول في مسارات كثيرة، سبقته أحيانا، وأحيانا لحقت به، فكانت البداية في الرواية الصهيونية عن شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، وكان هناك العمل الدؤوب لتحقيق فكرة محو المكان الفلسطيني، على الورق أولا، بتشكيل لجنة استعمارية لتغيير أسماء القرى والمدن الفلسطينية، وهكذا غيّروا أسماء 637 قرية ومدينة فلسطينية قبل أن يسيطروا عليها.

كل استعمار استيطاني يدرك أن محو الاسم فيه ترسيخ بالغ الدلالة والأثر، كي يحسّ كل قاتل يحمل بندقية بسهولة ممارسة القتل بعيدا عن الضمير، لأنه يأتي بفكرة واضحة بالنسبة له: إنه قادم ليحرِّر مكانا له، لا ليحتلّ مكان غيره!

من المهم التذكير هنا أن الصهيونية التي استطاعت أن تقنع كثيرا من البشر بأسطورة «أرض بلا شعب..» كان عليها أن تقنع المهاجرين حينما وصلوا فلسطين، أن من يرونهم في الشوارع اسمهم «عرب» ولذا لا وجود للفلسطيني في قاموس الاستعمار الصهيوني، لأن مجرد وجود اسمه، هو تأكيد لوجود وطن له.

.. وهكذا بدأ مسار جديد، ليس محو الاسم فحسب، بل محو المكان وزرْع مستوطنات جديدة فوقه لا تشير إلى ماض أو بشر؛ وبذلك تمّ محو أكثر من 450 قرية وبلدة فلسطينية.

هُزِمَ الفلسطيني بالاقتلاع من أرضه، لكن امتداده الحضاري والثقافي في وطنه تبرعم من جديد، وبات جزءا أساسا من مسارات الذاكرة والإبداع، بما أهّله أن يرمّم جراحه بسرعة، ويعيد بناء هويته بنصاعة لا تقلّ حضورا عما كانت عليه قبل النكبة.

كان الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني يقول: «إن لم تعترف بك فلسطين ككاتب، فلن يعترف بك العالم العربي». كان ذلك قبل النكبة، ولعل الأمر ليس بعيدا عن ذلك بعد النكبة، على الأقل في حالات كثيرة جدا، إذ شكّل اعتراف فلسطين بكاتب ما، جزءا أساسا من فكرة وجوده، ولن نبالغ إذا قلنا إن من لم يعترف بفلسطين من الكتّاب العرب بوضوح، لأنها بقيت على هامش مشاغله، بقي وجوده مجروحا بشيء من الأسى على الأقل مهما ارتفعت قيمته الأدبية.

قاتل الفلسطيني وحيدا، إلا من أحرار العرب الذين هبّوا أفرادا ومجموعات، من هنا وهناك، سنوات طويلة خلال ثورة 1936-1939، وقبلها وبعدها، وحافظوا على عروبة فلسطين وحريّتها عشرات السنوات، رغم شراسة الهجمة الاستعمارية البريطانية الصهيونية، ولكن ضياع فلسطين تحقق في أسابيع، بمجرد وصول «جيوش الإنقاذ» وخلال أقل من ستة أيام، ضاع الجزء الثاني منها مع الموجة الثانية من «جيوش الإنقاذ» التي وعدت الناس، من المحيط إلى الخليج، بعكا وحيفا. في وقت سنرى فيه بعد عام كيف يصمد الفدائي والجندي المتمرد في معركة الكرامة، وبعدها كيف يصمد مخيم تل الزعتر في وجه حرب الإبادة شهورا، وكيف تصمد بيروت، وكيف يصمد مخيم صغير اسمه مخيم جنين، وكيف تصمد غزة، وكيف تصمد الانتفاضة الأولى 1987-1993، سنوات، لتُهزَم فلسطين بعد ذلك بوصول النظام الفلسطيني الذي دمّرها منذ ذلك الوقت حتى اليوم أكثر مما دمَّرتها الآلة الصهيونية، مكانا وإنسانا ورمزية.

قدوم السلطة الفلسطينية كان بداية لعملية المحو الأخطر، فهي التي ساهمت في تحويل الرواية الصهيونية الكذبة، لأول مرة، إلى حقيقة، أو على الأقل ساهمت في منح الكذبة نصف مصداقية لتغدو نصف حقيقة بمجرد توقيع قيادة السلطة على اتفاقية أوسلو. وكان يمكن أن يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، لكنها عملت بوعي على تحويل النصف الكاذب الثاني من الرواية الصهيونية إلى حقيقة بترويضها لشعبها وكثير من مثقفيه، وتزوير مناهج التعليم بما يلبي مطالب العدو، وإحالة مقاتليها إلى التقاعد أو تحويلهم إلى موظفي مكاتب، وتحويل البنادق التي سُمح لها بإدخالها إلى أداة قمع لأبناء الانتفاضة وشبابها وشاباتها، بحيث وصلنا أخيرا إلى تصريح الرئيس الشهير حول تفتيش «شنط الأطفال»: أنا بدّي أتعامل مع الإسرائيليين، وهذا اتفاق بيني وبينهم وأنا لا أخجل من هذا، لازم يكون بيننا نوع من التعاون الأمني، وأنا أتحدّى إذا كان لديه (الكيان الصهيوني) أي معلومة (أمنية) فأنا سأقوم بها (أنفّذها) وإذا لم أقم بها فليأت هو وينفذها، صح؟! لا أن يقول لي إن لديه معلومة وهو سيقوم بالتنفيذ، فما الذي أفعله أنا، هنا؟».

محزن أن نستعيد هذا الشكل من المحو الذاتي، الذي مارسته السلطة الفلسطينية، ولكنها واحدة من الخطايا الكبرى التي ما كان على «فتح» التي يتربّع الرئيس على قمة هرمها أن تقبل بهذا «فتح» التي تمّ تذويبها، أو لنقل محوها على مراحل، ولا أن تقبل بذلك التنظيمات الأخرى.

لم يُذلّ الشعب الفلسطيني من قبل كما أذلتْه قيادته التي حجَّمت مكانته وبعثت الجرأة في أوصال المشيخات المرتعدة لكي تتنمّر عليه وعلى كل بارقة حرية في عالمنا العربي.

اليوم نشهد ميلاد مرحلة جديدة من المحو، بدأتها أمريكيا بنقل سفارتها إلى القدس، وتواصلت باتفاقيات الخنوع التي يوقّعها أعراب لا يكفرون بشيء مثلما يكفرون بالحرية، ولا يُبغضون قيمة مثلها، ولا يعبدون رذيلة كما يعبدون عبوديتهم، وهم يتوسلّون للقبول بهم خدما وعبيدا لأعتى فاشية عنصرية صهيونية. إنهم يعملون بكل ما لديهم لمحو اسم لا يُمحى، هو فلسطين.

وبعــد:

لم تكن فلسطين يوما وطنا في فراغ، بل كانت أرضا وخيرات وحضارة وجمالا وثقافة وإبداعا، وحرية، وحقيقة، وشهداء وأسرى.

الحرية ليست في حاجة لأن يعترف بها أحد، لأنها الحريّة.

الجمال ليس في حاجة لأن يعترف به أحد، لأنه الجمال.

والشهيد ليس في حاجة لأن يعترف به أحد، لأنه الشهيد.

ولذا، لا يمكن أن يكون لأي نظامٍ وجود إن لم تعترف به فلسطين.

أنتم لا تعترفون بفلسطين، فلسطين هي التي تعترف بكم، أو لا تعترف.

كلمات دلالية