خبر الحوار الفلسطيني الذي لا يحتمل ترف الفشل ..بلال الحسن

الساعة 10:00 ص|01 مارس 2009

ـ الشرق الأوسط 1/3/2009

حوار المصالحة الفلسطينية الذي بدأ في القاهرة قبل أيام، حوار يحمل في داخله عوامل نجاح بنفس نسبة عوامل الفشل. ولا يتعلق الأمر هنا بالأفراد، ولا بالفصائل، ولا بالنوايا الحسنة أو السيئة لهذا الطرف أو ذاك. فقضية المصالحة ذات أبعاد محلية وعربية ودولية، وبحسب القدرة على فهم تلك الأبعاد ستتحدد النتائج.

المصالحة ضرورية ويجب أن تنجح؛ لأنها مصلحة فلسطينية أولا وآخرا، مصلحة من أجل مواجهة الاحتلال، ومن أجل منعه من مواصلة ابتلاع الأرض الفلسطينية. وحتى تنجح المصالحة ببعدها المحلي هذا، لا بد لحركة حماس من إدراك قيمة حركة فتح التاريخية، والتعامل معها كتيار عريض داخل الشعب الفلسطيني، وتجاوز قاعدة التعامل معها كأفراد، سواء أجادوا أم أساءوا، فالأفراد سيذهبون مع حسناتهم وسيئاتهم، ولكن تيار حركة فتح، تيار النضال الوطني الموحد ضد الاحتلال، سيبقى. وبالمقابل فإن على حركة فتح إدراك قيمة حركة حماس، كتيار شعبي فاعل، والاعتراف بهذا التيار، والتعامل معه كأمر واقع لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه. ليس لأن حركة حماس قوية، بل لأن العمل النضالي الفلسطيني يحتاج إلى تكريس القاعدة القائلة بضرورة استيعاب أية قوة شعبية تظهر أثناء مسيرة النضال، وباعتبار أن عملية الاستيعاب هذه ضرورة من ضرورات الوحدة الوطنية.

ويقتضي هذا الأمر، أن تتجاوز حركة فتح نظريتها القائلة بأن حركة حماس قد نفذت انقلابا في غزة، وعليها أن تتراجع عنه أولا لكي تتم المصالحة. كما يقتضي هذا الأمر أن تتراجع حركة حماس، عما فعله تيار جهاز الأمن الوقائي، سواء حمل في حينه اسم دحلان أو اسم دايتون أو أي اسم مستعار آخر. لقد حدث ما حدث في «الماضي»، ولا يمكن الوقوف عند هذا «الماضي»، وجعله عقبة في طريق المصالحة.

وإذا تمكن الطرفان من ترسيخ هذا النهج في الحوار، يستطيعان إنجاز مصالحة بينهما، إنما في إطار البعد المحلي، البعد الفلسطيني الداخلي فقط. وهو أمر على صغره، لا يمكن التقليل من أهميته أو من قيمته، لأنه لا يمكن الذهاب لتطوير المصالحة نحو أبعادها العربية والدولية إذا لم تكن مصالحة البعد المحلي قد أنجزت بعد.

نحن نعرف طبعا أنه لا يمكن فصل الأبعاد السياسية عن بعضها بعضا. ولكن ما يجب أن نعرفه أيضا أننا دخلنا مرحلة تغيرت فيها الأسئلة، وتغيرت الأهداف. سؤال الحوار والتسوية السياسية الذي طرح نفسه دوليا وعربيا عام 1991، وعبر مؤتمر مدريد، لم يعد مطروحا الآن، لأن ما ثبت بعد تجربة سبعة عشر عاما من التفاوض، برهن بشكل قطعي أن إسرائيل لا تريد حوارا مع الفلسطينيين، إنما تريد أن تفرض عليهم ما تريده هي، وأن يوافق الفلسطينيون على قبول ما تفرضه عليهم. وقد تحطمت على صخرة هذا التكتيك الإسرائيلي كل مفاوضات التسوية والسلام، من مدريد، إلى واشنطن، إلى أوسلو، إلى كامب ديفيد، وأخيرا إلى مؤتمر أنابوليس. وما ثبت بعد سبعة عشر عاما من التفاوض أن إسرائيل لا ترغب بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وأن أقصى ما يمكن أن توافق عليه هو إنشاء كيان فلسطيني خاضع للهيمنة الإسرائيلية اقتصاديا وأمنيا واستيطانيا، بعد أن يتم الاستيلاء على نصف أراضي الضفة الغربية. وما ثبت بعد سبعة عشر عاما من التفاوض، أن الولايات المتحدة الأميركية، التي تحتكر الإشراف على التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية، لا تريد هي بدورها إنجاز سلام فلسطيني - إسرائيلي، إلا إذا كانت صيغته تتوافق مع المطلب الإسرائيلي، ومع التصور الإسرائيلي. وما ثبت بعد سبعة عشر عاما من التفاوض، أن المجتمع الإسرائيلي نفسه، يفرز في كل دورة انتخابية بعد أخرى، قوى سياسية يمينية ومتطرفة، تجاهر علنا برفضها للتسوية، وبرفضها لإنشاء الدولة الفلسطينية. ويقول أبرز زعماء هذا التيار بنيامين نتنياهو أنه يؤمن بالسلام الاقتصادي (تأمين المعيشة) ولا يؤمن بقيام دولة فلسطينية.

وبسبب اتضاح هذه المسائل على مستوى العالم، بدأنا نسمع آراء غريبة، يروج لها أقطاب المحافظين الجدد، الذين غادروا السلطة في واشنطن غير مأسوف عليهم. أحدهم (جون بولتون) وهو الوجه الكريه الذي مثل الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، اخترع لنا نظرية الدول الثلاث: إسرائيل والأردن ومصر، حيث تتلاشى بينهم الدولة الفلسطينية وحقوق شعب فلسطين. والثاني هو (إليوت أبرامز) الذي بدأ يروج أن «التسوية ليست مسألة واقعية الآن». وأن الصراع في المنطقة لم يعد صراعا إسرائيليا - فلسطينيا، بل أصبح «جزءا من صراع أوسع نطاقا يدور حول قوة وتطرف إيران». وأن انسحاب إسرائيل ينطوي على خطر نمو الإرهاب، كما حدث بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان (حزب الله) ومن غزة (حماس). وتلتقي هذه النظرية بشكل كامل مع نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وتقدم للناجحين فيها نظرية سياسية كاملة، يمكن لهم أن يتبنوها في المرحلة المقبلة. (مقالة في جريدة هآرتس 24/2/2009).

على ضوء هذه الوقائع والتطورات والمواقف الجديدة، يتضح أن انشغال الفلسطينيين في الحوار بالقضايا النظرية المعلنة ضد بعضهم بعضا، من نوع: هل الهدف هو التحرير أم دولة فلسطينية؟ ومن نوع ما هو أسلوب النضال: المقاومة أم المفاوضات؟ سيكون حوارا وجدلا ونقاشا لا طائل منه، فهو من النوع الذي لا يوصل إلى أية نتيجة، وهو لا يقدم أية إجابة على المخططات الإسرائيلية والأميركية العلنية. إن الانشغال بهذا النوع من النقاشات هو انشغال نظري، لأن الانشغال الحقيقي المطلوب هو مواجهة النمو اليميني المتطرف داخل المجتمع الإسرائيلي، ثم مواجهة أفكار التسوية الجديدة التي تخدم الموقفين الأميركي والإسرائيلي، وعلى حساب المواقف الفلسطينية والعربية كلها.

وهناك سبب آخر يدعونا إلى ضرورة التركيز على البعد المحلي للحوار الوطني الفلسطيني، هو أن تقديم إجابة فلسطينية لمواجهة المخططات الإسرائيلية والأميركية الجديدة، أصبح يتطلب جوابا عربيا لا جوابا فلسطينيا فقط. ولا لزوم لأن ينقسم الفلسطينيون حول جواب له مقتضيات أكبر منهم بكثير. وهم يستطيعون، بعد وحدة وطنية فلسطينية في بعدها المحلي، أن يذهبوا إلى العرب سائلين ومحاورين، من أجل بلورة جواب عربي فاعل، هو بالضرورة جواب استراتيجي، يحتاج تنفيذه إلى سنوات من العمل الجماعي الدءوب. وإذا سار هذا النهج إلى نهايته، يصبح الجواب العربي تدعيما للاتفاق الوطني الفلسطيني.

إن بعض الفلسطينيين يتغنون بالقرار الفلسطيني المستقل. ولكن هناك من يؤمن أنه ما لم تعد القضية الفلسطينية إلى إطارها العربي، فإن الاسفنجة الأميركية - الإسرائيلية ستمتصها بالكامل. مع علمنا أن هناك من العرب من يرفض الآن، العودة إلى تحمل هذه المسؤولية التاريخية الكبيرة.

إذا لم يركز الفلسطينيون على حلقتهم المحلية الأصغر في الحوار. وإذا دخلوا في مناقشة المؤامرات الدولية. وإذا طرحوا على أنفسهم قضايا من نوع: جدوى المفاوضات، أو جدوى عدم التفاوض، أو جدوى المقاومة وحدها، فإنهم يرجحون كفة الفشل أمام حوارهم. وهم لديهم اتفاق شبه مفصل اسمه (اتفاق مكة)، قدم لهم حلولا مقبولة للتعاون المشترك، وللتفاوض المقبول من كل الأطراف. وقد أثبتت التجربة العملية أن هذا الاتفاق يحتاج إلى تفصيل وتوضيح في قضايا: مدى المشاركة بحيث لا تقتصر على الحكومة فقط. وفي كيفية بناء أجهزة الأمن ولمن تكون تبعيتها، وفي قضايا منظمة التحرير وضرورة أن يشارك الجميع في تكوينها وتنشيطها وإعادة بنائها. وكل هذا يمكن التحاور حوله وتطويره في حوارات القاهرة، لنجد أنفسنا أمام اتفاق يحدد مسؤولية الفلسطينيين بدقة، ويؤهلهم بعد ذلك للمشاركة مع العرب في ما يتعلق بمسؤولياتهم بدقة.

إن الجميع ينتظرون النتائج. ودماء غزة لا تسمح لأحد بترف الفشل.