خبر اليمين الإسرائيلي ومأزق «المعتدلين» العرب ..خليل العناني

الساعة 11:55 ص|25 فبراير 2009

ـ الحياة 25/2/2009

تتجاوز دلالات صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف الى السلطة مجرد نهاية خيار السلام، وهو الذي انتهى عملياً بفعل المراوغات الإسرائيلية على مدار الأعوام الثمانية الماضية فضلاً عن حربي إسرائيل على لبنان وغزة، وذلك كي تصل إلى حد خلط الأوراق الإقليمية، وزيادة احتمالات التوتر بين قوى الممانعة والاعتدال في المنطقة.

ويصبح من الاختزال قراءة نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في مجرد صعود اليمين المتطرف مقابل تراجع الوسط واليسار، وذلك ليس فقط بسبب انعدام الفوارق العملية بين كلا التيارين طيلة فترة ما بعد الانتفاضة الثانية منذ ايلول (سبتمبر) 2000، وإنما أيضا لانعدام أجواء الحل السياسي إقليمياً ودولياً.

وبتوسيع الصورة، فإن أهم التداعيات السلبية لما حدث في إسرائيل هو إضعاف مواقف من يوصفون بالمعتدلين العرب وذلك في مواجهة ممانعيهم. فوصول اليمين المتطرف في إسرائيل لا يقوّض فقط فرص إنجاز تسوية سلمية كان يمكن لها البزوغ بمجيء إدارة أميركية «معتدلة» إلى السلطة، وإنما أيضا يزيد من توتير الأجواء في المنطقة وربما يدفعها إلى حرب جديدة قد تكون الأعنف منذ عقود بين تل أبيب وطهران.

فمن جهة أولى يبدو صعود اليمين الإسرائيلي إكمالاً لدورة «شارونية» كانت قد بدأت قبل سنوات قليلة، ضاعت فيها فرص الحل الأقرب الى اليد، وانتقلت فيها الساحة الفلسطينية من النقيض إلى النقيض، وباتت المعضلة فيها مزدوجة فلسطينياً وإسرائيلياً. ومن جهة ثانية، اكتملت دورة «الوعي» العربي كي تغلق أبوابها على أرجحية خيار المقاومة والمواجهة مع إسرائيل عوضاً عن خيارات السلام والحل الديبلوماسي، تغذيها في ذلك «جلجلة» أصوات الممانعين والمقاومين. ومن جهة ثالثة، تغيّرت معادلة التوازن الإقليمي بين العرب وإسرائيل، وانتفت معها أية مصلحة لاسرائيل في تحقيق السلام مع العرب والفلسطينيين. في حين يظل دخول إيران على خط الصراع عنصراً دافعاً لاستمرار التوتر في المنطقة.

الآن يحق للفلسطينيين والعرب الحديث عن عدم وجود شريك «إسرائيلي» للسلام (وكأنه كان موجوداً من قبل؟)، في حين أن نظيره الفلسطيني يئن تحت وطأة جدران العزل والانقسام والمزايدات، ويبدو خيار السلام كما لو كان إرثاً من الماضي. وهي تقريباً الحال نفسها التي وصلت إليها الأوضاع في 29 ايار (مايو) 1996 حين فاز نتانياهو بفارق 0.5 فقط على منافسه «اليساري» شمعون بيريز. وقتذاك توقفت مسارات التفاوض على الجبهات كافة، وباستثناء قرار الانسحاب من معظم أراضي مدينة الخليل، لم يتخذ نتانياهو أية خطوة جدية باتجاه تحريك عملية السلام «المشلولة» إلى الأمام. وقد كان الخاسر الحقيقي في تلك الانتخابات هو الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي كان يخطط لإنجاز تسوية تاريخية للصراع العربي - الإسرائيلي قبل رحيله من البيت الأبيض.

وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأنها دورات متماثلة للصراع، فإذا ما توافرت إدارة أميركية معتدلة ولديها رؤية وقدرة على حل الصراع، جاءها اليمين الإسرائيلي كي يفسد تحركاتها ويعيد الكرّة من جديد ممهداً الأرض لصعود اليمين الفلسطيني.

والآن لن يكون بمقدور باراك أوباما المضي قدماً في أية خطط للحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الذي لا يملك رؤية واضحة للسلام، على الأقل حتى الآن، وستكون وظيفته من الآن فصاعداً ليس القيام بدور «البروكر» أو الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن على الأرجح بين هؤلاء الأخيرين وإيران وذلك من أجل منع اندلاع أي توترات قد تفضي إلى حرب إقليمية، بخاصة إذا احتفظ اليمين الإيراني بالسلطة في انتخابات حزيران (يونيو) 2009. وسوف يقتصر دور اوباما فلسطينياً على مجرد رعاية التهدئة «الهشة» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتجميد محادثات السلام بينهم حتى يتم البت في الملف الإيراني.

اليمين إذاً جوهره واحد، وأشكاله متعددة، وهي حلقات تؤدي الى بعضها البعض في انتظام دائري عجيب. فلولا اليمين الإسلامي (تنظيم «القاعدة» وأسراب المجاهدين) لما تفرّد اليمين الأميركي بالمنطقة يخرّبها ويعيد هيكلة اصطفافاتها على غرار ما حدث طيلة الأعوام الثمانية الماضية. ولولا اليمين الأميركي لما اكتسب اليمين الإسرائيلي (ارييل شارون) زخمه وقوته، ولما دخلت معه القضية الفلسطينية وراعيها التاريخي ياسر عرفات غرفة الإنعاش قبل أن يودعا المنطقة سوية قبل أربعة أعوام. ولولا اليمين الإسرائيلي لما وصل اليمين الفلسطيني («حماس») الى السلطة بفعل «الخيبة» التي لقيها فريق رام الله، ونهاية خيار السلام عملياً. ولولا اليمين الفلسطيني («حماس») لما هيمن اليمين الإسرائيلي مجدداً (ليكود وكاديما ومعهما الوافد العنصري الجديد حزب «إسرائيل بيتنا») على السلطة في إسرائيل. وفي الصورة الخلفية يقبع اليمين الإيراني (أحمدي نجاد ورفاقه) متفرجاً ومحركاً لقوى اليمين الصاعدة في المنطقة.

وعملياً فإن الرابحين من هذه الدورة هم الإسرائيليون والإيرانيون، في حين خسر العرب والفلسطينيون معاً. فاليمين الإسرائيلي بات على يقين بأنه لا جدوى من إكمال مسيرة السلام، وهو الآن يعد العدّة لمواجهة ما أسماه بالخطر «الوجودي» على دولة إسرائيل والقادم من طهران. ولن يكون بمقدور أوباما زحزحة مواقف اليمين الإسرائيلي باتجاه التهدئة مع إيران، إلا من خلال عقد صفقة إقليمية «كبرى» لا تزال محل شك كبير حتى الآن. وهو لن يضحي بعلاقته مع الإسرائيليين، ومن خلفهم اللوبي اليهودي الأميركي، من أجل إرضاء الملالي ومن يعاونهم.

وقد بدأت ملامح التوتر في العلاقة بين إسرائيل ودول الاعتدال من خلال إصرار إسرائيل على إحراج هذه الدول، بخاصة مصر، التي تقبض الآن على «جمر» التهدئة بين إسرائيل و «حماس» من دون طائل. وسيتوجب على المصريين إعادة تكييف علاقتهم باليمين الإسرائيلي خلال المرحلة المقبلة، إن لم يكن حفاظاً على الحقوق الفلسطينية، فعلى الأقل حماية لمصالحهم وأمنهم القومي من تهور اليمين الإسرائيلي ورعونة زعيمه.

من جهته يبدو الأردن مثقلاً بتقاطعاته وتشابكات علاقاته مع الإسرائيليين من جهة، و «حماس» وفلسطينيي الداخل من جهة أخرى. وللأردن تجارب مريرة مع اليمين الإسرائيلي الذي ما فتئ يردد خيار «الضفة الغربية»، وتهجير عرب إسرائيل إلى الخارج القريب. وقد بدت عمّان طيلة الحرب الأخيرة على غزة كمن يسير على الحبال، وذلك خوفاً من تداعيات اتخاذ مواقف صريحة قد تزيد من أعباء القضية الفلسطينية عليها. وقد بدا جلياً أن الإسرائيليين لا يكترثون لمخاوف الأردنيين، وأن «الخيار الأردني» يجب أن يظل مطروحاً على الطاولة بخاصة في ظل الانقسام «العملي» الراهن بين الضفة وغزة.

ومن جهة أخيرة، فإن صعود اليمين الإسرائيلي يمثل هبوطاً قوياً لفريق رام الله وانسداداً في خياراته، (وربما فقداناً لشرعيته المتآكلة أصلاً)، وذلك ليس فقط بسبب مراوغات اليمين وألاعيبه (وهنا لا فرق بينه وبين اليسار)، وإنما بسبب السقف المرتفع الذي يضعه هذا اليمين لأية تسوية محتملة مع الفلسطينيين، والتي قد تأتي على ما تبقى من شرعية لحركة «فتح» ومعها منظمة التحرير الفلسطينية.

وعليه، يبدو ملحّاً أن يعيد المعتدلون العرب التفكير في حساباتهم وعلاقتهم مع إسرائيل، ليس فقط حفاظاً على شرعيتهم وبقائهم كأطراف فاعلة في القضية، وإنما أيضا لحماية المنطقة من الانزلاق نحو حرب جديدة قد يدفع الجميع أكلافها.