خبر موجات التهدئة والمصالحات ... لماذا؟ .. جميل مطر

الساعة 11:25 ص|23 فبراير 2009

بقلم: جميل مطر

قضينا ساعات نحاول التوصل إلى فهم متبادل ومعان مناسبة لكلمات لم تخل منها صحيفة من الصحف أو تصريح لمسؤول سياسي على امتداد الأسابيع الأخيرة. لم نفلح، وبقينا نستخدم كلمات التهدئة والمصالحات والمهادنات في سياقات لا تعني تماماً ما تقصده فعجز المتلقي عن فهمها، وإن فهمها عجز عن التعامل بها خطابة أو كتابة.

ومع ذلك تبدو محل اتفاق عام فكرة أن نبرة الخطاب السياسي الدولي هدأت، وأن القادة والسياسيين في كل مكان تقريباً بما فيها أماكن القتل والتخريب يتناقشون ويتحاورون بخشونة أقل، إن لم يكن بنعومة، وأن الناس في بلادنا على الاقل، وبعضهم متعب إلى حد الإنهاك وفقير إلى حد الإملاق ومقهور إلى حد فقدان الأمل في حرية أو استعادة حق أو الحصول على استقلال، جميعهم في وضع انتظار. وأظن أن قليلين يعرفون ماذا ينتظرون أو من ينتظرون وإلى متى سينتظرون.

نسمع عن التهدئة في غزة كما كنا نسمع منذ شهور عن التهدئة في الضفة الغربية والتهدئة في لبنان السياسي ولبنان الجنوبي. ونسمع عن تهدئة في السودان بين وسطه وغربه وبين وسطه وجنوبه. ونقرأ عن مصالحات تقررت على عجل في الرياض وتوسعت في الكويت وتتلاحق تنفيذاً ولقاءات في أنقرة وباريس وواشنطن وموسكو. وقرأنا عن مهادنات بعضها في العراق. خلاصة الأمر أن النظام العربي يشهد حالة مفاجئة من هدوء يحتار العارف بأمره إن كان من نوع هدوء يسبق العاصفة أم هدوء تصنعه العاصفة. ولكن الحيرة تتوقف هنا، فالأكيد المستقر في أذهان معظم من تحدثت معهم من المحللين المتابعين للشأن العربي أن العاصفة في حال كمون لا أكثر ولا أقل.

لسنا وحدنا على كل حال. ففي الغرب «تهدئة مثيرة». لم يحدث أن دورة من دورات مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ التي تعقد عادة في مثل هذا الشهر من كل عام خلت من فرقعات ولم ترتفع فيها نبرة التعبير عن الخلافات بين الدول الكبرى. لم تنعقد دورة الا وانطلقت فيها وبعدها تهديدات ضد روسيا ومن جانب روسيا وضد إيران وضد التطرف الإسلامي. أما هذه الدورة فانعقدت في جوّ من الرغبة في التهدئة بدت لأكثر من معلّق مصطنعة أكثر منها حقيقية. وبدت لآخرين مرآة تعكس أو تعبّر عن نمط ناشئ في العلاقات بين المؤسسات العسكرية في روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، أو بين كل هذه المؤسسات والمؤسسة الإيرانية. بل ولاحظنا أن الأصوات الناطقة عادة باسم إسرائيل كانت خافتة أو راعت على الأقل نية «مجتمع الأمن الدولي» ورغبته في تحقيق تهدئة.

وفي مؤتمر وزراء مال الدول الصناعية العظمى، خرج البيان النهائي معبراً بصدق عن حقيقة ما دار بين قادة أهم اقتصادات العالم. فقد اختارت الدول الأغنى انتهاز فرصة انعقاد هذه الدورة لتقديم ما يشبه الاعتذار للصين عن اتهامات الغرب السابقة لها بسبب سلوكياتها التجارية والنقدية. بل وقرأنا مديحاً غير معهود في الصين باعتبار ما سيكون، أي باعتبار دورها في إنقاذ العالم من كارثة كساد تبدو محققة.

وفي هذا المؤتمر كما في غيره من المؤتمرات الدولية التي عقدت خلال الأسابيع الأخيرة لم يصدر انتقاد حاد عن أساليب تعامل حكومة الصين مع شعب التبت أو عن حقوقه أو عن أحلامه في الاستقلال الذاتي. أقصى ما قيل في العتاب كان التعبير عن أمنيات غربية بأن تحترم الصين خصوصيات التبت الدينية. في أميركا الجنوبية، ما زالت دول متعددة تموج بتطورات مذهلة أغلبها متناقض جذرياً مع كل ما سعت لتحقيقه الولايات المتحدة عبر تاريخها الإمبراطوري في القارة الجنوبية. ففي بوليفيا تحقق النصر دستورياً لمطالب السكان الأصليين من الهنود في الاستفادة من عائدات ثروات الأراضي التي يعيشون فوقها منذ آلاف السنين فلا تذهب إلى شركات متعددة الجنسيات مقارها في اسبانيا أو الولايات المتحدة أو غيرهما. وفي فنزويلا وافق الشعب على دستور جديد يمنح الرئيس حق الاستمرار في حكم البلاد فترات أكثر عدداً. وفي المؤتمر الشعبي العالمي الذي عقد في البرازيل قاد الزعماء «الإصلاحيون» وبينهم دي لولا رئيس البرازيل حملة لمناهضة سلبيات العولمة التي أفقرت الشعوب وأخضعتها للمصالح الأجنبية. حدث كل هذا وغيره كثير في أميركا الجنوبية من دون توجيه الإساءات الشديدة المعتادة إلى الولايات المتحدة ومن دون ردود فعل عنيفة أو متوترة من جانب واشنطن على عكس ما كان يحدث في السنوات السابقة. وبدأنا نقرأ لمفكرين أمريكيين رسائل ومقالات يدعون فيها الرئيس أوباما إلى أن يبادر فيعلن إلغاء مبدأ مونرو، وهو المبدأ المؤسس لسياسة الولايات المتحدة تجاه أميركا الجنوبية منذ مطلع القرن التاسع عشر، أي منذ قرنين من الزمان، وبموجبه كان من حق واشنطن فرض الحصار على القارة بأكملها إذا دعت الحاجة لحماية مصالح أميركا الاقتصادية والأمنية، وحرمان أي قوة معادية للولايات المتحدة من إقامة قواعد سياسية أو عسكرية لها في القارة الجنوبية.

وتشهد مواقع أخرى أشكالاً متباينة من موجات التهدئة، إذ تتردد شائعات عن احتمالات التوصل إلى تهدئة مع الطالبان في باكستان وأفغانستان وشائعات عن التوصل فعلاً إلى مهادنة وربما تعاون في الصومال مع التيارات الإسلامية وبعضها شديد التطرف. ومع سورية تجري مصالحات ومن سورية صدرت توجيهات صارمة بالتزام التهدئة إلى زبائن في عادتهم نشطين. وإلى إيران يسعى رسل ورسائل للوصول إلى مهادنة ولا يخفي العائدون من طهران شعوراً شائعاً بأن الاجابات على نيات وعروض المهادنة جاهزة وكذلك هادئة. في كل مكان دعوة الى التهدئة أو المصالحة أو المهادنة وكلمات أخرى ليس بينها بالقطع كلمة تشي بالتصعيد إلا إذا استثنينا ساسة إسرائيل والنسبة الغالبة من الشعب الإسرائيلي حسبما كشفت الحملة الانتخابية.

أستطيع أن أنقل هنا عديداً من التحليلات التي حاولت تفسير هذا التطور في العلاقات الدولية وأقصد موجات التهدئة. ولكن اكتفي هنا بما أراه أقرب إلى فهمي ورؤيتي للمرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولي. لقد وقع في الشهور الأخيرة تطوران مشهودان لن يغفلهما المؤرخون الذين سيسجلون في المستقبل تاريخ هذه المرحلة. أما التطوران فهما:

أولاً: أمسكت بخناق العالم أزمة بدأت مالية وتدهورت إلى أزمة اقتصادية وتكاد الآن، لولا «الذاكرة المهيمنة» لدى النخب الحاكمة في الغرب والقوى الديموقراطية في أنحاء كثيرة من العالم، تتدهور بشدة إلى أزمة سياسية وللأسف الشديد هناك بوادر أو على الأقل مؤشرات لا شك في أهميتها ومغزاها. إذ تضاعفت القيود على الحقوق والحريات، وزادت بشكل ملحوظ مظاهرات الاحتجاج والاضطرابات، وتعددت الإجراءات المتطرفة لتقييد حرية التجارة تحت عناوين مختلفة مثل حماية الاقتصاد الوطني والأمن الوطني والقومية الاقتصادية. لقد دفعت الأزمة المالية الاقتصادية والخوف من تداعياتها السياسية والاجتماعية الحكومات في أكثر بلاد العالم إلى تهدئة نزاعاتها الخارجية، وترطيب أجواء العلاقات الدولية، خشية أن تجر التوترات إن تفاقمت في ظل الأزمة الراهنة العالم بأسره أو أقاليم فيه، إلى كوارث أفدح من كارثة الحرب العالمية الثانية.

ثانياً: أطل على العالم، في الوقت نفسه ومع بدايات الأزمة المالية، وربما بسببها، قائد بملامح «استثنائية»، كان لا بد لكي يؤثر ويهدئ ويقود، أن يظهر في موقع القيادة الدولية فظهر في أميركا، وكان لا بد أن يكون استثناء عن القاعدة السائدة في الحضارة الغربية، فظهر أسمر اللون مجعد الشعر شديد الذكاء مختلط الأصول العرقية الدينية، وقبل هذا وذاك ينتمي إلى فئة الحكام المثقفين، أي الحكام الذين بتجربتهم الثقافية يستطيعون الاحتفاظ باحترام شريحة الطبقة المثقفة، المؤثرة سياسياً، لأطول فترة ممكنة، وهي الفترة التي يحلم بها الحاكم المنتخب ديموقراطياً قبل أن تنهال عليه معاول النقد والمعارضة. هذا «الاستثناء» (الذي يجسّده باراك أوباما) جاء في وقت شديد الدقة والحساسية ليس فقط بالنسبة لأميركا ولكن أيضاً بالنسبة لدول كثيرة أكثرها مرتبك بسبب الأزمة الاقتصادية والخوف من تداعياتها، ليساعد الجميع على التزام التهدئة والمصالحة والمهادنة.. أو ليتوسل منها مجرد الانتظار.