خبر تصعيد جديد في العلاقات العربية ـ الإيرانية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 10:43 ص|19 فبراير 2009

ـ القدس العربي 19/2/2009

خلال الأسبوعين التاليين لنهاية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، شهدت العلاقات العربية - الإيرانية مستوىً جديداً من التوتر. أحد أسباب هذا التوتر كان التصريح الذي أطلقته شخصية إيرانية كبيرة حول أن البحرين محافظة سابقة من المحافظات الإيرانية، وهو التصريح الذي أثار عدداً من التصريحات العربية المضادة، وتفسيراً إيرانياً متأخراً.

العودة المتكررة إلى تاريخ علاقة البحرين بإيران في أحاديث المسؤولين الإيرانيين هي على الأغلب مؤشر على أسباب أعمق للتوتر، وليست بالضرورة السبب المباشر أو الوحيد له. في الوقت نفسه، كان وزير الخارجية الإيراني، منوشهر متكي، ومستشار المرشد الأعلى، علي أكبر ولابييتي، يزوران العراق؛ بينما أعلن في طهران أن الشيخ رافسنجاني سيتبعهما قريباً في زيارة لافتة للجارة العربية المرهقة بالاحتلال وتبعات الخروج من مظلته. من وجهة نظر بعض العرب، على الأقل، العرب المعتدلون كما باتوا يعرفون، لم تكن الأسابيع الأخيرة في العلاقات العربية - الإيرانية مصدراً للارتياح.

خلال الحرب على قطاع غزة، وقفت طهران بوضوح لا يحتمل الشك إلى جانب قوى المقاومة الفلسطينية وأهالي القطاع؛ ويعتقد على نطاق واسع أن الصواريخ التي استخدمتها حماس لضرب أهداف إسرائيلية بعيدة نسبياً كان مصدرها إيران أو حزب الله. في نهاية الحرب، توجه قادة حماس والجهاد إلى طهران في زيارتين متتاليتين، توكيداً على الشراكة الإيرانية في صمود قطاع غزة وأهله. في المقابل، اتسم موقف العرب المعتدلين من الحرب بالارتباك، وأثار الكثير من التساؤلات لدى الرأي العام العربي. رافق اندلاع الحرب تصريحات لمسؤولين عرب، توجه اللوم لحماس وقوى المقاومة؛ ثم دارت عجلة الحرب الدموية وعواصم عربية ترفض عقد قمة عربية عاجلة؛ وتوقف إطلاق النار والحصار العربي على قطاع غزة في مكانه. وبينما يؤكد الإيرانيون، بين مرحلة وأخرى، على نفوذهم واسع النطاق في العراق، لم يكن غريباً أن ترى كتلة الاعتدال العربية في الحرب على قطاع غزة تعزيزاً للنفوذ الإيراني السياسي والمعنوي في الساحة الفلسطينية. ومهما كان تفسير التصريحات الإيرانية بخصوص البحرين، فإن هذه التصريحات ذكرت من جديد بأهمية وحساسية منطقة الخليج في خارطة العلاقات العربية - الإيرانية.

موقف العرب المعتدلين من إيران تجلى في لقاء أبوظبي، الذي نظم على عجل، وضم وزراء خارجية وإعلام دول الكتلة العربية المعتدلة، حتى إن كان بعضهم قد ذهب للقاء وهو يجر أقدامه جراً. وليس صحيحاً أن اللقاء تمحور حول الشأن الفلسطيني في أعقاب الحرب على قطاع غزة، أو أنه مجرد لقاء أولي في سلسلة لقاءات، ستضم دولاً أخرى، تستهدف تنقية الأجواء العربية. الحقيقة أن محور اللقاء كان الموقف من إيران، وأن خلفيته المباشرة تمثلت في خشية العرب المعتدلين من اتساع نطاق النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. وقد بدا في أجواء اللقاء أن هناك جهداً عربياً لاستيعاب تصاعد العداء العربي الشعبي للدولة العبرية، وتوجيه بوصلة العداء لإيران، وما يمثله مشروعها النووي من 'تهديد للمصالح العربية'. مثل هذه السياسة لا يمكن أن ترى باعتبارها مجرد مماحكة بين دول متجاورة، لم تكن العلاقات بينها دائماً علاقات صحية؛ ولكنها أقرب إلى إعلان حرب، ولابد أن ترى في سياق السياسة الأمريكية تجاه إيران، والتي لا يبدو أنها في طريقها لتغيير جوهري في عهد إدارة أوباما.

وعد أوباما خلال الحملة الانتخابية بفتح مسار تفاوض مباشر مع إيران، وأعاد التوكيد على وعده هذا بعد تسلم مقاليد الرئاسة. ولكن تصريحات الرئيس وعدد من مسؤولي إدارته تشير بوضوح إلى أن الهدف الأمريكي من هذه المفاوضات ما يزال الهدف نفسه لإدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن: إيقاف البرنامج النووي الإيراني في صورته الحالية، بما في ذلك تخلي طهران عن تخصيب اليورانيوم. إن كان هذا الهدف سيشكل المرجعية الاستراتيجية لسياسة إدارة أوباما تجاه إيران، وواجه بالتالي رفض القيادة الإيرانية، في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، التخلي عن تخصيب اليورانيوم، فإن المنطقة تمضي نحو حرب أخرى، حرب أمريكية، أو إسرائيلية مدعومة أمريكياً، على إيران. في حال وصلت الأمور إلى الحرب، فإن تواطؤ أو دعم بعض العرب لضربة موجهة ضد إيران سيشكل خطراً على المصالح العربية، لا يقل، إن لم يزد عن خسارة النفوذ الإقليمي التي مني بها معسكر الاعتدال العربي خلال السنوات الأخيرة. إن عقد الأمريكيون والإسرائيليون العزم في النهاية على توجيه ضربة ما للمنشآت والمؤسسات الإيرانية النووية والعسكرية، فلن تتجاوز هذه الضربة سلسلة من الغارات الجوية. بعد ما حدث في العراق، وبعد الصعوبات التي تواجهها القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو في أفغانستان، فإن أحداً لن يجرؤ على خوض معركة برية في إيران. ومهما بلغت حدة الضربة الجوية، فإن النظام الإيراني يستطيع استيعابها، حتى بدون أن يضطر إلى تصعيد إقليمي خطير على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، أو في منطقة الخليج. وما أن ينتهي القصف، وتغادر الطائرات الأجنبية سماء المنطقة، سيكون على الجوار الإقليمي التعامل مع العواقب.

إيران، بالطبع، تعدت حدود نفوذها الطبيعي في العراق، وبين حين وآخر، تصدر عن دوائرها الرسمية أو غير الرسمية مؤشرات على أطماع توسعية في الخليج. في هذين الملفين، بالتأكيد، ثمة مصلحة عربية جمعية للتوصل إلى تفاهم واضح مع إيران. ولكن الدور الإيراني في لبنان وفلسطين سيبقى محل جدل لفترة طويلة، ربما، ليس فقط لأن السياسة الإيرانية في لبنان وفلسطين تجد صدىً شعبياً واسعاً في العالم العربي، ولكن أيضاً لأن الموقف العربي الرسمي من القضيتين منقسم على نفسه أصلاً، ومن الصعب بالتالي أن يصبح محل إجماع. فكيف يمكن إذن أن يتعامل العرب مع المسألة الإيرانية، أن يجدوا طريقاً لوضع النفوذ الإيراني في العراق والخليج في حدوده، أن يتوصلوا إلى تفاهم حول المشروع النووي الإيراني، وأن يحددوا نقاط الاتفاق والاختلاف في لبنان وفلسطين، بدون أن يتحملوا أعباء ومخاطر المشاركة أو التواطؤ في حرب أخرى في المنطقة؟

المسألة الأولى التي ينبغي التذكير بها، تتعلق ببديهيات التاريخ والجغرافيا في الإقليم المشرقي. إيران شريك تاريخي وجغرافي قديم؛ وهي في صورتها الحالية، على الأقل، شريك منذ بداية العهد الصفوي. وفي حين مرت الإمبراطوريات الغربية بهذا الإقليم منذ القرن التاسع عشر، الواحدة تلو الأخرى، وغادرت؛ فإن إيران ستبقى شريكاً إلى أمد طويل قادم. في مراحل سابقة، وجدت العواصم العربية المعتدلة، من القاهرة إلى الرياض، صيغة مرضية للتفاهم مع إيران الشاه، بل وإلى التحالف. أما وقد أصبحت إيران أكثر تعاطفاً مع القضايا العربية، وأكثر توكيداً على المشترك الإسلامي بما لا يقارن، فلابد أن يكون التفاهم أسهل وأقرب منالاً. ولكن ثمة وجهاً آخر لهذا الملف لابد أن يرى، حتى في صورته البراغماتية البحتة. فقد تعرضت إيران لدرجات متفاوتة من الحصار الدولي خلال العقود الثلاث التي مرت على تأسيس الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك عدد من قرارات مجلس الأمن الصادرة منذ فتح الملف النووي. بالرغم من ذلك، فإن نظام الجمهورية الإسلامية يتمتع بدعم ليس صغيراً من الشعب الإيراني، وقد استطاع المضي قدماً في تطوير برنامجه النووي، إضافة إلى تطوير برنامج تسلح صاروخي، سمح مؤخراً بإطلاق قمر صناعي إيراني مصنع ذاتياً إلى الفضاء. إيران هي إحدى أكبر منتجين الغاز في العالم، منتج رئيسي للنفط، وقد أقامت مؤسسة عسكرية هائلة، تفوق تلك التي أقامها نظام الشاه. مثل هذه الدولة في الجوار العربي لا يمكن تجاهلها، لا يمكن التفكير فيها من مجرد باب التعويل على الحليف الأمريكي (المنهك، والمثقل بالإخفاق العراقي - الأفغاني، وبالأزمة الاقتصادية/ المالية). المراهنات على الضربات العسكرية في لبنان وقطاع غزة لم ينجم عنها إلا الفشل الإسرائيلي والارتباك المحرج للسياسة الأمريكية وللحلفاء المعتدلين العرب.

الوسيلة الوحيدة للتعامل العربي مع الملف الإيراني هي تلك التي يمكن أن تتبلور من مصالحة عربية حقيقية وجادة، ليس بالضرورة على أساس الاتفاق على كل القضايا محل التدافع والانقسام. وبتبلور مصالحة وتفاهم عربيين، يمكن التحرك نحو بناء إجماع عربي حول قضايا الخلاف مع إيران، أو على بعض منها على الأقل. وعندها، وعندها فقط، يمكن أن يبدأ تفاوض عربي - إيراني جاد وذو معنى، تلعب تركيا، دولة الجوار الهامة الأخرى المعنية بشؤون المنطقة، دور الشريك أو العامل المساعد فيه. ولكن من الضروري، على أية حال، أن نتذكر أن إيران لا تحركها طموحات توسعية ورغبة مجردة في تعظيم القوة الذاتية وحسب، بل وتحركها المخاوف أيضاً، المخاوف من القوى الغربية الكبرى، من الدولة العبرية، ومن بعض الجوار العربي كذلك. وإن كان من المسوغ أن يطلب العرب إجابات واضحة على بعض من الأسئلة، وتطمينات تتعلق بأسئلة أخرى، فإن من حق إيران أن تطالب من جهتها بتطمينات كافية لتهدئة هذه المخاوف. هذا، أو أن تترك المنطقة مجالاً مفتوحاً للقوى الخارجية، ليس فقط لتحديد جدول الأولويات، ولكن أيضاً لدفع شعوبها جميعاً إلى مزيد من الحروب والدمار.