خبر إسرائيل في ضوء الانتخابات الأخيرة: العنصرية تكسب والمتدينون يخسرون ..صقر ابو فخر

الساعة 07:32 م|18 فبراير 2009

 

أمران لافتان أسفرت عنهما الانتخابات النيابية الإسرائيلية التي جرت في 10/2/2009. الأول: انقراض «حزب المتقاعدون» الذي حصد 7 مقاعد في انتخابات 2005، ولم ينل أي مقعد على الإطلاق في الكنيست الحالي. والثاني: تراجع اليمين الديني في الوقت الذي ازداد فيه حضور اليمين القومي المتطرف. وظاهرة انقراض الأحزاب السياسية في إسرائيل ليست شأناً جديداً تماماً في الحياة السياسية الإسرائيلية، فبعض الأحزاب يموت بموت مؤسسها. هكذا اندثرت حركة «داش» بعد موت يغئيل يادين، وتطاير هباءً حزب «ياحد» الذي أسسه عيزر وايزمان، وكذلك حزب «غيشر» (أي «الجسر») لصاحبه دافيد ليفي. حتى أريئيل شارون كان أسس حزبا دعاه «شلومو تسيون» (أي «السلام لصهيون») ثم انضم به الى الليكود. وهذا ما كان من أمر حركة «شينوي» الليبرالية التي فازت في سنة 2003 بخمسة عشر مقعداً، ثم لم تلبث أن اضمحلت تماماً.

إن نشوء بعض الأحزاب الاسرائيلية لا يرتبط، جوهريا، بقاعدة اجتماعية متينة، ولا بإرث طبقي تاريخي، بل، في الكثير من الحالات، بالمؤسس نفسه. وعلى العموم يكون المؤسس أحد الجنرالات الذين اكتسبوا سمعة جيدة في الحروب ضد الفلسطينيين والعرب أمثال موشي دايان (أسس حزب «تيلم»)، أو أساف ياغوري («ياعد»)، او أفيغدور كهلاني («الطريق الثالث»)، او يتسحاق مردخاي («المركز»)... وغيرهم.

مهما يكن الأمر، فإن هذه الانتخابات برهنت، بوضوح، على ان المنتصر الأول والأخير فيها ليس بالضرورة بنيامين نتنياهو او تسيبي ليفني، وهما من منشأ يميني واحد هو الليكود، بل العنصرية الإسرائيلية. فحزب «كديما»، وهو المحسوب على الوسط مع انه حزب شارون الليكودي، تمكن بالحرب على الفلسطينيين في غزة أن يكسب مقاعد إضافية في الكنيست إذا احتسبنا، لا عدد مقاعده في الكنيست السابق (كان له 29 مقعداً وتراجع الى 28 مقعداً)، بل عدد المقاعد التي منحته إياها الاستطلاعات قبل عشرة أيام من الانتخابات وهي 22 مقعداً. وأفيغدور ليبرمان زعيم حزب «اسرائيل بتينو» تمكن، بالكراهية والتحريض ضد فلسطينيي 48 وضد عزمي بشارة بالتحديد، من ان يكسب مقاعد إضافية (من 11 مقعداً في الكنيست السابق إلى 15 مقعداً). واستطاع الليكود بموقفه الرافض لاتفاق أوسلو ولفكرة الدولة الفلسطينية ان يزيد مقاعده بصورة غير متوقعة تماماً من 12 مقعداً الى 27 مقعداً (125 في المئة). والمفارقة ان إيهود باراك الذي خاض الحرب على غزة بصفة كونه وزيراً للدفاع، لم يتمكن حتى من المحافظة على وضعه السابق، فانخفضت مقاعد حزبه من 19 مقعداً الى 13 مقعداً. وهذا الأمر ربما يعني، بقراءة أولى، ان «كديما» الذي هزم حليفه اليساري حزب العمل، جاء اليمين ليهزمه في الوقت نفسه، كأن اللوحة السياسية في إسرائيل تشير الآن الى قيام نظام حكم جديد تسيطر عليه ثلاثة أحزاب ليكودية خالصة: كديما وإسرائيل بيتنا والليكود نفسه.

قراءة مختلفة

ليس صحيحاً أن اليمين الديني المتطرف قد ازدادت قوته في الكنيست الإسرائيلي. فحركة «شاس» مثلاً هبط عدد مقاعدها من 12 مقعداً إلى 11 مقعداً. و«يهدوت هتوراه» هبط تمثيله من 6 مقاعد إلى 5 مقاعد. و«الاتحاد القومي» تراجع من 9 مقاعد إلى 4 مقاعد. لنلاحظ ان «اليسار» تراجع أيضاً: فحركة «ميرتس» انخفض تمثيلها من 5 مقاعد إلى ثلاثة. وحزب العمل هبط، كما هو واضح، من 19 مقعداً إلى 13 مقعداً، بينما بقيت حال الأحزاب العربية تقريباً على حالها: 10 مقاعد مع مقعد إضافي ناله دوف حنين من «حداش»، وثلاثة مقاعد أخرى على قوائم الاحزاب الصهيونية ذهبت إلى كل من أيوب قِرّا على قائمة «الليكود»، وحمد عامر على قائمة «إسرائيل بيتنا»، ومجلّي وهبة على قائمة «كديما». وفي المناسبة ليست حنين الزعبي التي فازت على قائمة التجمع الوطني الديموقراطي (بلد) هي أول امرأة عربية تدخل إلى الكنيست كما يرد أحيانا في الصحافة العربية، بل إنها أول امرأة عربية تفوز على القوائم العربية، وكانت سبقتها حسنية جبارة على قائمة «ميرتس» في سنة 1999، ونادية الحلو على قائمة حزب العمل في سنة 2003.

اليمين الذي تمكن من ان يزيح حزب العمل «اليساري» من الموقع الثالث على لائحة الأحزاب الاسرائيلية، ويتقدم على حركة «شاس»، وهي من اليمين الديني، كان «اسرائيل بتينو»، وهو يمثل اليمين القومي العنصري. وهنا بالذات يميط المجتمع الاسرائيلي اللثام عما يجري فيه حقا. وقد كان ثمة رأي يقول إن المجتمع الإسرائيلي يتجه أكثر فأكثر نحو اليمين الديني جراء الخواء الفكري الذي يعانيه بعد نهاية جاذبية الصهيونية، ولأن الدين راح يتقدم بالتدريج لملء الفراغ الأيديولوجي، لكن هذا الرأي تهتك الآن بعد ظهور نتائج الانتخابات الاسرائيلية التي كشفت كيف ان حركة دينية مثل «شاس» تراجعت كثيرا من 17 مقعداً في انتخابات سنة 1999 إلى 12 مقعداً في انتخابات سنة 2005 فإلى 11 مقعداً في الانتخابات الحالية. وكيف أن حزباً تاريخياً مثل «المفدال» (الحزب القومي الديني) قد حُلّ وحل في محله حزب جديد اسمه «البيت اليهودي»، لم ينل إلا ثلاثة مقاعد فقط. وفي هذا السياق يمكن الاستنتاج، ولو موقتاً، أن اليمين الديني الذي يشمل «شاس» و«يهدوت هتوراه» و«البيت اليهودي» تراجع من 34 مقعداً في الانتخابات الماضية إلى 19 مقعداً، مع أن في الإمكان احتساب بعض المتدينين في الأحزاب اليمينية الأخرى لمصلحته. وتراجع اليمين الديني يقابله تراجع اليسار الصهيوني شبه العلماني أيضاً. أما اليمين القومي من طراز أفيغدور ليبرمان وحزبه شبه العلماني فهو الذي تقدم انتخابياً بالفعل (لنتذكر ان أبرز مطالب حزب ليبرمان هو الزواج المدني الذي يعارضه المتدينون حتى في لبنان). والمعروف تاريخياً أن اليمين بوجهيه الديني والقومي نشأ لدى الأشكيناز الذين عاشوا في مجتمعات علمانية. هكذا كان منشأ حركة «كاخ» في سنة 1971 على أيدي الحاخام مئير كهانا في بروكلين، أي في قلب نيويورك، وهكذا نشأ «إسرائيل بعلياه»، في سياق ثقافة علمانية روسية.

العرب الحائرون

ثمة ظاهرة لافتة أفصحت عنها الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة هي أن 73 في المئة من اليهود باتوا يعتبرون العرب خطراً على الدولة الإسرائيلية وعلى مصيرها كدولة يهودية. ومن بين هؤلاء هناك 31 في المئة يريدون ترحيل العرب من ديارهم. ومع ذلك فإن 30 في المئة من المقترعين العرب كانوا يصوتون للقوائم الصهيونية لأسباب غير عقيدية بالطبع، بل لأسباب انتهازية ومصلحية. لكن، في انتخابات 2009 هبطت هذه النسبة من 30 في المئة الى 18 في المئة فقط، وهبطت نسبة التصويت لدى العرب الى نحو 54 في المئة بعدما كانت نحو 63 في المئة، وهي أدنى نسبة منذ زمن طويل، وهي علامة محيرة في أي حال. أولاً، هل ان هبوط نسبة؟ التصويت للأحزاب الصهيونية من 30 في المئة الى 18 في المئة قد حدث لأسباب تتعلق بالوعي الوطني، أم جراء تراجع النسبة العامة للتصويت؟ والمحير حقا هو أن العرب، حيال الدعوات العنصرية التي لا تنفك محرضة على ترحيلهم، كان من المتوقع ان يخرجوا بكثرة الى الاقتراع لمصلحة القوائم العربية بالدرجة الأولى. ولو فعلوا ذلك حقاً، لتمكنوا، على الأرجح، من زيادة محصلة مقاعدهم إلى 17 مقعداً: ثلاثة مقاعد على قوائم حزب العمل، ومقعد على قائمة التجمع الوطني الديموقراطي.

ما الذي تغير في إسرائيل؟

خضعت اسرائيل، منذ سنة 1977 حينما وقع الانقلاب الكبير الذي تمثل بوصول «الليكود» الى السلطة، لتغيرات طبقية عميقة. وانقلاب 1977 نفسه كان حصيلة تغير طبقي جدي. ومنذ ذلك التاريخ راحت النخبة الأشكينازية التي قادت مراحل تأسيس إسرائيل منذ ما قبل قيامها في سنة 1948 إلى ما بعد حرب تشرين الأول 1973، تتحلل تدريجاً. أما النخبة السفاردية التي تحسنت مواقعها كثيرا فيبدو انها، حتى اليوم، غير قادرة على الحلول محل الأشكيناز في قيادة الدولة، وأبعد ما تطمح إليه هذه النخبة هو ان تكون شريكة للأشكيناز في الحكم لا بديلة منهم.

لقد انتهى عصر الرواد الأوائل أمثال دافيد بن غوريون وحاييم وايزمن وموشي شاريت، وانتهى العهد بالقادة المبجلين أمثال غولدا مئير وموشي دايان ويتسحاق رابين، وربما كان أريئيل شارون هو آخر القادة مع انه انتهى، في آخر أيامه إلى الانهماك في إنقاذ سمعته من فضائح إبنيه عومري وجلعاد التي لم يكن هو نفسه بعيداً عن الانغماس فيها.

نعم. لقد خضعت إسرائيل لقانون التغير، فما عادت دولة من العالم الأول تماماً. صحيح أنها ليست من العالم الثالث، لكنها واقعة، جغرافيا على الأقل، في منطقة تنتمي إلى العالم الثالث، وأكثر من 60 في المئة من سكانها أتوا من العالم الثالث (20 في المئة فلسطينيون و45 في المئة هم إما من الصابرا او سفارديون هاجروا من العالم الثالث). واليسار الاسرائيلي الأشكينازي كان، منذ البداية، مبتدع فكرة الانفصال الديموغرافي عن الفلسطينيين، وصانع ترحيلهم عن أراضيهم باستخدام المجازر المعروفة والتطهير العرقي. وجوهر نظرية الانفصال يعني المحافظة على هوية الدولة الإسرائيلية كدولة يهودية. وهذا هو الموقف الحقيقي لحزب العمل واليسار الصهيوني اللذين صنعا النكبة الفلسطينية في سنة .1948 أما اليمين القومي ذو القاعدة السفاردية والقيادة الاشكينازية، فلم يتبن فكرة الانفصال الديموغرافي عن الفلسطينيين، بل كان يتبنى صيغة «أرض اسرائيل الكاملة» من دان حتى بير السبع، مع منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً، أي لا انفصال ولا ضم. وهذا يعني عدم رغبة اسرائيل في الانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967، وعدم قدرتها، في الوقت نفسه، على ضمها.

إن التغير الاولي الذي خضعت له اسرائيل وقع في عهد يتسحاق شامير في خضم حرب الخليج الاولى ومؤتمر مدريد سنة 1991، حينما تبنى اليمين القومي، والليكود بالدرجة الاولى، موقف اليسار الصهيوني، أي ضرورة الانفصال الديموغرافي عن الفلسطينيين. وفي تلك الحقبة بدأ اليمين الديني يحقق تقدماً وطيداً. لكن اسرائيل اليوم، تبدو كأنها تعود الى زمن مناحيم بيغن في رفض فكرة الانفصال الديموغرافي والانسحاب من الضفة الغربية، وتنعطف نحو صيغة «الحكم الذاتي» في اطار «أرض اسرائيل الكاملة». وهذا هو التغير الجديد الذي ارغم اليمين الديني على التنحي، ولو قليلا، لمصلحة اليمين القومي، وكان سبباً في عودة اليقظة الى اليمين القومي نفسه. ومهما يكن امر هذا التغير، عميقاً أكان أم مؤقتاً، فإن يهودية الدولة الاسرائيلية التي باتت تحظى بإجماع اليمين واليسار معا، تعني أمرين لا ثالث لهما: الاول، هو رفض حق العودة للفلسطينيين. والثاني، هو عدم إمكان تغيير الصيغة التعاقدية لنظام الحكم في الدولة الاسرائيلية مهما صار عدد الفلسطينيين فيها، الامر الذي قد يجدد، في احوال ملائمة، خيار «الترانسفير».

تجديد خيار «الترانسفير»

إن افيغدور ليبرمان (ومعه بيني أيلون ايضا) هو الرابح الاول في الانتخابات، وهو ضمير جماعات كثيرة في المجتمع الاسرائيلي من التي تستنكف عن البوح بما تعتقد. وهو لا يجد حرجاً في اعلان كراهيته للفلسطينيين في مناطق 48، ويجهد لترحيل 300 ألف من سكان المثلث الى البلاد العربية، أي ايجاد مشكلة لاجئين جديدة، وإرغام من سيبقى على اعلان الولاء للعلم الاسرائيلي والنشيد القومي، وعلى الخدمة في الجيش الاسرائيلي، وأن يحول الباقين الى مقيمين دائمين، أي غير مواطنين، وان يطبق الحل القبرصي في جميع الاحوال، أي الفصل بين اليهود والفلسطينيين. أما بيني أيلون فهو يعتقد ان المشكلة ليست فلسطينيي 48 بل مخيمات غزة والضفة الغربية، وهو يقترح ترحيلهم الى بلاد الله الواسعة مثل بلغاريا والبوسنة، ثم تجري معالجة اوضاع «عرب اسرائيل» في ما بعد. وتقوم خطته على إغراء كل عائلة فلسطينية توافق على الرحيل بمبلغ مئة ألف دولار (يدفعها العرب النفطيون)، ومن يرغب في البقاء يتحول الى مواطن اردني يمكنه الاقتراع للبرلمان الاردني، على ان يتم تقويض السلطة الفلسطينية والحؤول دون قيام دولة فلسطينية في المستقبل.

[ [ [

من غير المتوقع أن يتم التقدم على مسار العملية السلمية تحت راية الحكومة الإسرائيلية المقبلة، أكانت يمينية خالصة ام حكومة اتفاق وطني، لأن اليمين الصهيوني بزعامة نتنياهو يعرض الحل الاقتصادي على الفلسطينيين مع قليل من الحكم الذاتي، واليمين القومي المتطرف من عيار ليبرمان وأيلون يعرض الترحيل، والوسط الصهيوني من طراز تسيبي ليفني يعرض التفاوض ثم التفاوض ولا شيء غير التفاوض. لهذا يمكن ان نجازف بالقول إن المنطقة العربية ستراوح عند تخوم حال اللاحرب واللاسلم، مع اشتعال حرائق عدة في فلسطين والعالم العربي، إلا اذا تقدمت المسألة النووية الإيرانية لتصبح خطراً داهماً على اسرائيل، وحينئذ سيصبح اللاسلم واللاحرب في مهب الرياح الدولية التي من شأنها تغيير الستاتيكو القائم حالياً الى ستاتيكو جديد لا يمكن التكهن بصورته وعناصره ولاعبيه وميدانه منذ الآن.