خبر مصر والعرب وإسرائيل: حسابات الربح والخسارة ..طلال سلمان

الساعة 07:30 م|18 فبراير 2009

هناك شيء من سوء التفاهم الدائم بين المصريين وبين إخوانهم العرب ممن ينتشرون في البلاد العربية من حول مصر ويتطلعون اليها باستمرار، فيتصرفون ويتحدثون عنها وكأنهم منها أو كأنها «دولتهم»، أو «الشقيق الأكبر» الذي يقارب «ولي الأمر»، وبالتالي فهم يرونها مسؤولة - بدرجة ما- عن أحوالهم ولهم عليها حق الطلب، أقله في ما يتصل بحماية وجودهم وهويتهم العربية ومستقبلهم المشترك.

حتى بعدما تزايدت الدول العربية عدداً، وبعدما تعاظمت مداخيل بعضها حتى بلغت أرقاماً فلكية، ظل «العرب»، شعوباً بالأساس، و«مسؤولين» في موقع الحكم، بدرجة أو بأخرى، يتصرفون وعيونهم على مصر لمعرفة موقفها عبر ردود الفعل، ناطقة واضحة العبارة أو صامتة تترك المجال فسيحاً أمام تفسيرات شتى...

وحتى بعدما قررت السلطة في مصر فاختارت ان تنفرد باتباع طريق رأتها الأنسب لمصالحها، مبتعدة بذلك عن «شركائها» في قرار الحرب، ظل بسطاء العرب، أي الأكثرية الساحقة من شعوب هذه الأمة، يتطلعون الى القاهرة مفترضين ان هذا القرار «تكتيكي» ويهدف الى استعادة الأرض التي كانت محتلة، ثم بعد ذلك تعود مصر الى ذاتها وإليهم، ولأسباب تتجاوز العواطف الى المصالح الوطنية العليا لمصر.

.. خصوصاً ان هذه الأكثرية كانت ترى، بفهمها البسيط، ان مصر تكبر بدورها العربي، وهو شرعي ومؤثر، في حين ان غيابها عنه يضعفها أمام دول العالم عموماً، وأمام إسرائيل التي يثق العرب بان إخوانهم المصريين عموماً لم ينزعوا عنها( ولا هي حاولت ان تنزع عن ذاتها) صورة «العدو»... برغم كل الاتفاقات والمعاهدات وصور المصافحات والعناق وجائزة نوبل للسلام التي توجتها.

ثم ان إسرائيل أخذت تتمدد في المنطقة، مستفيدة من الفراغ الذي خلفه انطواء مصر على ذاتها وابتعادها عن «العرب» الذين بالغوا في اتهامها بارتكاب الكبائر، ثم اخذ بعض قياداتهم يسلك مسلك السلطة في مصر، فيتصل بالإسرائيليين سراً أو علناً، وبوساطة اميركية او أوروبية بقصد التمهيد لاتفاقات منفردة سرعان ما تبلورت في اتفاق اوسلو ( فلسطينياً) وفي اتفاق وادي عربه أردنياً.

وكان خروج كل دولة عربية عن إطار التضامن، ودائماً على قاعدة «سيروا بخطى أضعفكم»، يزيد من مساحة الفراغ المغري لإسرائيل بمزيد من التمدد، بحيث بلغت الوقاحة ببعض قادتها السياسيين حد المطالبة بأن تفتح لها أبواب جامعة الدول العربية وإلا فليتم إلغاؤها تمهيداً لقيام «الشرق الأوسط الجديد» اللاغي للهوية العربية لهذه الأرض وأهلها...

وصار التذرع بخروج مصر من موقعها الطبيعي التبرير الدائم لكل انحراف عربي كما للتباعد بين الأنظمة العربية التي ذهب كل منها في طريق، بذريعة البحث عن أمنه واستقراره ولو على حساب ما كان يسمى في الماضي «مقتضيات الأمن القومي» لعموم دول المحيط.

بالمقابل، كان المصريون يتأففون من مطالبات العرب المتكررة بأن تتولى مصر حل مشكلاتهم المعقدة والتي لا تقع تحت حصر.

ولعل المواطن المصري قد شعر في حالات كثيرة وكأن «العرب» يريدون ان يضيفوا مشكلاتهم (التي لا تعنيه مباشرة) الى همومه الثقيلة والتي لا يجد لها حلاً.

بل إن هذا المواطن المصري كان يرى بأم العين، أثرياء العرب وهم «ينهبون» بعض مصادر ثروته الوطنية، فيزداد كراهية لهم، وينسى ان يحاسب من تواطؤوا معهم من مسؤولي الإدارة وأهل القرار في مصر، فيطلق أحكامه ضد العرب أجمعين... في حين أن فقراء العرب هم مثله ضحايا التواطؤ الفاضح بين أصحاب الثروة وأصحاب القرار، في بلاده المحروسة كما في بلادهم غير المحروسة.

ثم إن هذا المواطن المصري كان يسمع ويقرأ ويرى على شاشات الفضائيات مسؤولين عرباً ينحون باللائمة على مصر ويهاجمون سلطاتها لأنها فرطت بالقضية الفلسطينية أو تخلت عنها، او أنها خضعت للابتزاز الإسرائيلي وللضغوط الاميركية أكثر مما يجوز، مما ارتد سلباً على الأوضاع العربية عموماً، فيثور لكرامة بلاده ويرد بأن يوجه الى العرب، عموماً، التهمة بالمسؤولية عن بؤس حاله، مفترضاً انهم بمزايداتهم قد أضاعوا فلسطين، متجاهلاً مثله مثل أخيه العربي خارج مصر، الأسباب الفعلية للعجز العربي عن مواجهة إسرائيل بتحالفاتها الدولية العاتية.

بالتأكيد فإن هذا المواطن المصري نفسه قد تساءل، قطعاً، وأكثر من مرة:

لماذا التركيز في الهجوم على مصر وحدها؟! لماذا لا يهاجمون سوريا، مثلاً، او ليبيا، او العراق (قبل الاحتلال الاميركي) او حتى السعودية ودول الخليج؟! لماذا لا يطلبون التضحية إلا من مصر بملايينها المنهكة بفقرها، ولماذا يريدونها أن تحارب عنهم، وأن تضحي بيومها وغدها، في حين إنهم يبنون بلادهم متجاوزين مصر في التقدم ومحاولة اللحاق بالعصر.

ولعل هذا المواطن قد تساءل: وماذا أعطى هؤلاء مصر لكي يحاسبوها؟!

لماذا ينسبون إليها نواحي قصورهم وتخليهم عما يسمونه «الواجب القومي»؟ ولماذا لا يحاسب العرب حكوماتهم عن قصورها وتخليها بل وتواطؤها على فلسطين وشعبها، ثم يصبون جام غضبهم على مصر وشعبها الذي دفع من دمه، مرات ومرات، ومن هناءة عيشه، ضريبة المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بينما كان أباطرة العرب يزحفون الى واشنطن يتوسطونها مع إسرائيل، أو يرهنون بلادهم لديها لكي يستمروا حكاماً بأي ثمن، او ينصرفون الى بناء بلادهم بعيداً عن الحرب وعن شعار تحرير فلسطين... بل ربما بالتواطؤ على فلسطين؟

الأسئلة التي قد تخطر ببال المواطن المصري كثيرة جداً، وشرعية جداً، ومقلقة، خصوصاً أن «الأجوبة الجاهزة» والمقصود بها تبرير العزلة والعجز وافتقاد الدور تلجأ الى دغدغة اعتداده بمصريته، وتعزز فيه نزعة الاستقواء بماضيه العريق (الفراعنة وممالكهم ووجوه التقدم المبهرة في مصر القديمة) على «هؤلاء البدو» الذين بالكاد قد تعرفوا الى المدينة بأفضال النفط الذي جاءهم دون جهد، أو نتيجة ارتباطهم بالأجنبي ومنحه القواعد العسكرية والامتيازات كافة،

في حقيقة الأمر فإن ثمة صورتين لمصر في ذهن العربي خارجها: الأولى حين كانت في موقع قائد حركة التحرر العربية و« المركز» في الإقليم، والقطب المؤثر في السياسات الدولية، والثانية هي الصورة الراهنة التي تبدو فيها منكفئة على ذاتها، محاصرة بهمومها الثقيلة، منصرفة عما يجري في المنطقة العربية من حولها مع وعيها بأن كل ذلك سيؤثر عليها سلباً في اللحظة الراهنة كما في المستقبل، وفي المكانة كما في الدور.

ولقد عاصرت وجيلي التأثير غير المحدود لمصر في محيطها، عربياً وأفريقياً وإسلامياً، وملأنا بالفخر دور مصر الدولي ونفوذها الذي امتد عبر العرب ودول عدم الانحياز الى عواصم القرار في الدنيا.

كذلك تجرعنا المرارة ونحن نشهد ضمور هذا الدور بل والتنصل منه، بعد ان انحسرت مصر، نتيجة اتفاق الصلح مع العدو الإسرائيلي، الذي رأى فيه البعض انعتاقاً من الدور العربي الباهظ الكلفة، وانطواء يهدف الى معالجة هموم الداخل، وهي ثقيلة، والتخفف من أعباء منهكة، في حين أن مردودها الفعلي محدود جداً، سواء على الصعيد الاقتصادي او حتى على الصعيد السياسي.

ولعلّي لا أتجاوز إن قلت إن المواطن العربي بات يشعر أن ذلك الاتفاق مع إسرائيل قد أقام فاصلاً حاجزاً بين مصر والعرب.

وليس صحيحاً أن هذا المواطن العربي كان يريد ان تظل مصر رهينة الصراع المفتوح، تقاتل بالنيابة عنه بينما هو يتجرأ على تراث شعبها النضالي ويحقر تضحيات جيشها البطل،

بل إن هذا المواطن العربي ما يزال يحفظ في وجدانه كما في وعيه السياسي حرب أكتوبر، ومن قبلها حرب الاستنزاف، ببطولات جيش مصر العظيم وصمود شعبها الأبي الذي ضحى بمستقبل جيل كامل من أجياله حتى كان له النصر في المواجهة، وهو إن كان ينتقد او يلوم على معاهدة الصلح مع إسرائيل فبدافع حرصه على مصر، أولاً، إذ من دونها سيكون مستقبله مهدداً ليس في فلسطين فحسب، بل في لبنان كما في سوريا، وفي الأردن كما في العراق، وصولاً الى ارض الذهب الأسود التي كانت ترى في مصر الحماية والأمان، فلما افتقدتهما فيها ذهبت نهائياً الى الأجنبي تستظل قوته وتبرر هذا الذهاب بغياب مصر وتفكك العرب بعدها... والأجنبي عموماً شريك لإسرائيل او حليف لها، ولو عتب عليه العرب، فكيف وهم يطلبونه منقذاً من مخاطر يرونها جدية ويراها غيرهم مضخمة وتهدف الى حماية عزلتهم وتفردهم بثروتهم بعيداً عن الإخوة- الأعداء من العرب العاربة او المستعربة، لا فرق.

ويمكن لأي من أبناء جيلي أن يروي ما يملأ كتباً عن مشاهداته في ديار العرب، مشرقاً ومغرباً، التي تؤكد نفوذ مصر ودورها القيادي الذي لم يكن موضع نقاش، وعرفان الجميل الذي حفظه العرب أجمعين، وأغنياؤهم قبل الفقراء، لمصر نتيجة ما قدمته اليهم ليكون كل وطن من أوطانهم مستقلاً وليحمي كرامته من إذلال الطامع او المستغل.

الأهم من هذا كله ما قدمته مصر للعرب جميعاً في مجال تأكيد الذات وإثبات الحضور وانتزاع الاعتراف بالقيمة الحقيقة لهذه الأمة واحترام حقها في الحياة.

لقد صار العرب أمة ذات دور مؤثر في العالم، بفضل قيادة مصر وشجاعتها في المواجهة، وتأكيد الحضور الذي احتل مكانته على خريطة القرار الدولي، اقله الخاص بمنطقتنا.

من المغرب الأقصى الى جزائر- الثورة، الى تونس الساعية في طلب الاستقلال، الى ليبيا العائدة بالثورة الى عروبتها، الى السودان توأم مصر المشدود اليها برباط الهوية والنيل، فإلى المشرق بأقطاره جميعاً لبنان وسوريا والأردن والعراق والجزيرة العربية بخليجها ذي الدول الغنية، وانتهاء باليمن الذي يوصف بالسعيد مجازاً، كان القرار حقاً مشروعاً لمصر بوصفها قيادة الأمة.

ومفهوم ان مثل هذا الدور مكلف، لكن مردوده أعلى بما لاً يقاس من كلفته اذا ما قسناه بتأثيره السياسي وناتجه الثقافي والاقتصادي، وإجمالا المعنوي، الذي رفع مصر الى مكانة لا يدانيها احد من «منافسيها» بين القيادات العربية التي بذلت مالها رخيصاً فلم تجن ما يقرّبها من مكانة مصر وقدرتها على التأثير.

من باب تأكيد المؤكد ليس إلا، فليسمح لي بإيراد واقعة شخصية كان مسرحها واحدة من أرقى الجامعات في لبنان، وعبر ندوة شاركت فيها نخبة من رجالات لبنان، في مجالات العمل السياسي والجهد الفكري او التدريس الجامعي، قبل أيام.

كان عنوان الحلقة الدراسية: «الرئاسة اللبنانية، حاضراً ومستقبلاً - دروس وتحديات».

وعبر الدراسات المقدمة الى هذه الندوة كان لا بد من وقفة أمام الدور الاستثنائي الذي كان لمصر في انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان منذ منتصف الخمسينيات وحتى أوائل السبعينيات.

لقد ترددت أسماء سفراء مصر في لبنان خلال تلك الفترة، باعتبارهم ناخبين كباراً، يتقدمون على سفراء الدول العظمى وموفديها، بمن فيهم الاميركي، وتكون لهم قوة الفصل، ليس لقدراتهم الشخصية او حتى لصفتهم التمثيلية، بل لأن اللبنانيين كانوا يثقون بأن القاهرة لا يمكن أن تنصر من لا يريده شعب لبنان ومن لا يستحق أن يحمل أمانة القيادة في هذا البلد الصغير الذي يزدحم في كواليسه السياسية العالم اجمع.

هل علينا أن نعترف أن إسرائيل قد فصلت مصر عن سائر العرب، ام علينا ان نقاوم هذا الفصل، وأن نناضل لكي نستعيد مصر او تستعيدنا بعد تجربة البعد التي كادت تبلغ حدود الجفاء بل القطيعة أحياناً.

في تقديري أن العرب سيواصلون مسيرتهم نحو مصر، عائدين اليها، ملحين في طلب عودتها اليهم، ولو كره الكارهون، من بين سياسييهم المستفيدين من غياب مصر لكي يمارسوا أدواراً اكبر من طاقتهم، ثم من بين «الدول» التي يهمها تصغير دور مصر لتتسع لها مساحة النفوذ الى حد الفرض.

وبالتأكيد فإن كل مواطن عربي كان يشتعل غضباً وهو يتابع وقائع الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة، ثم يتحول غضبه الى نقمة عارمة وهو يشهد كيف يتعنت الإسرائيليون في مواجهة «الوساطة المصرية» بينما هو يرفض أصلاً ان تكون مصر «وسيطاً» بين أهلها، ولو مخطئين في التقدير، وبين عدوهم - عدوها من قبل غزة ومن بعدها.

وفي كل الحالات فإن المستفيد الوحيد من انقطاع التواصل الحميم بين مصر وسائر العرب هو العدو الإسرائيلي العنصري، والذي نجح بفضل الدعم الأميركي المطلق على انتزاع الاعتراف الدولي «بحقه» في إقامة «دولة اليهود» فوق ارض فلسطين، بينما العرب جميعاً داخل مصر وخارجها في صفوف المتضررين في حاضرهم ومستقبلهم على وجه الخصوص... وهذه فلسطين شاهد وشهيد.

أي خسارة عربية تتوزع على الدول كل بحسب حجمها ودورها، وبطبيعة الحال فإن مصر تكون أول الخاسرين لأنها الأكبر بماضيها وبحاضرها وبمستقبلها الذي به يرتبط مستقبل الأمة جميعاً.