خبر ما بعد غزة.. الناخب الإسرائيلي ورهانات تسوويي العرب../ عبداللطيف مهنا

الساعة 12:50 م|16 فبراير 2009

16/02/2009  07:59 

 

ليست نتائج الانتخابات الإسرائيلية، أو هذا الحدث الذي شغل ويشغل هذه الأيام المنطقة والعالم، أول وآخر ما أثبت ويثبت حقيقة ليست في حاجة إلى برهان... حقيقة لطالما حاول دعاة مقولة "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً" من العرب تجاهلها، أودأبوا على تغييبها وهم يصرّون على انتهاج خيارهم هذا بتهالك عجيب جافى ويجافي أبسط قواعد المنطق الذي يحكم طبيعة الصراع في بلادنا... حاولوا تغييبها، رغم أنه بإمكاننا القول أنها لم تغب يوماً عن ذهن سواهم، ولطالما كانت واردةً في أدبيات الصراع على فلسطين، وماثلة للعيان دائماً في حقب مواجهة المشروع الصهيوني ومن خلفه صانعيه وحماته الغربيين، ومنذ أن كان... الحقيقة الغائبة الحاضرة إسرائيلية تقول بأن وجود مثل هذا الكيان الإستعماري العنصري الغاصب، ذو السمة الإحلالية القائمة على نفي الآخر والحلول محله، والمشبع بالإحساس بأنه كان ويظل غريباً عن المنطقة، هو أصلاً نقيض لمفهوم السلام. وأن طبيعته هذه لا تفهم سلاماً لا يعدل إستسلام أصحاب الحق المعتدى عليهم، بل وحتى لو كان هذا الإستسلام، فليس من شأنه أن يشفيه من عقدة قلقه الأبدي المستحكم على هذا الوجود المفتعل المبني على أنقاض حق مغتصب يطالب أصحابه باستعادته.

 

في الإنتخابات الإسرائيلية هذه صوّت الإسرائيلييون لصالح منطق سائد لديهم، ترسخه قناعة تلازم طبيعتهم وعقدتهم، يقول بأن القوة هي فقط ضمانة وجود مرفوض تم فرضه بالتآمر والقوة، وعليه كان التصويت لصالح الأقوى، والأكثر مغالاةً وتطرفاً كان هو الفائز. وجاء هذا في سياق انسجام نزوع موضوعي لمجتمع له طبيعة مجتمعهم ينحو باستمرار نحو اليمين، واليوم أسهمت جملة عوامل مضافة في وصوله إلى مثل هذه الدرجة الفاقعة التي كشفت عنها صناديق الانتخابات الأخيرة، والتي تقول أنه حتى مجرد الكلام عن "سلام"، ولو وفق الترجمة الإسرائيلية لمفهومه، لم يعد مقبولاً لدى الشارع الإسرائيلي، لاسيما وأن أكثر من ثلثيه هم مع طرد من تبقى من الفلسطينيين على أرض وطنهم السليب في العام 1948، بل ولاحقاً باقي الفلسطينيين في المحتل منه في العام 1967، إذا ما سنحت الفرص ومكنت الظروف من ذلك.

 

كان الدم الفلسطيني هو وقود هذه العملية الانتخابية التي غابت عنها البرامج وعزّ ما هو مختلف عليه، وكان محركها فحسب هو كراهية العرب المستحكمة لدى الإسرائيليين، أما نجمها فكان أفيغدور ليبرمان، الأكثر تعبيراً عن العنصرية الإسرائيلية وثقافة "الغيتو" ومحزون أحقادها المعتقة. والذي كان الفائز الأكبر، في حين أعلن المتقدمان الآخران، تسيبي ليفني وبينيامين نتنياهو فوزهما أيضاً... بل وحتى الخاسر أيهود باراك أعلن فوزه المتمثل في نظره في بقائه واقفاً في الحلبة السياسية، هذه التي كان حزبه فيها هو الخاسر الأكبر.

 

اليمين المتطرف، من شاكلة "إسرائيل بيتنا"، "شاس"، "يهدوت هاتوراه"، "البيت اليهودي"، "الليكود"، أصبح يمتلك أكثر من نصف مقاعد الكنيست. أي خمسة وستين مقعداً، ثلثاها للمتطرفين منه أما الثلث الباقي فلغلاة التطرف. أما من هم على يسار هؤلاء، ولا نقول اليسار، إذ لا ندري كيف نفرّق بين يسار أو يمين في إسرائيل، حيث لا نجد فارقاً حقيقياً هنا فيما يتعلق بالإستراتيجيا أو ما هو خارج التكتيك والمماحكات السياسية، ونعني "كاديما" الخارج من رحم الليكود، ومن على يساره من بقايا حزب العمل، ويسار هذه البقايا، أي بقية "ميرتس"، فيمتلكون 44 مقعداً.

 

وعليه، لا حكومة إسرائيلية بدون موافقة متطرفي اليمين أو مشاركتهم، بمعنى إما يشكلونها هم أو يمنعون سواهم من تشكيلها، وعليه نرى الفائزين اللذين لا يسبق أحدهما الآخر إلا بمقعد واحد، ونعني ليفني ونتنياهو، يتسابقان لإسترضاء ليبرمان، والحظوة ببركات الحاخام عوباديا يوسف! حيث أعلن الأول شرطيه: القضاء على حماس، ووقف ما تدعى "العملية السياسية" مع فلسطينيي أوسلو، أما الثاني، فربما يبحث الآن عن نص تلمودي مناسب لطرحه تعقيباً على نتائج هذه الإنتخابات التي تثلج صدره!

 

ولعل أهم ما كشفت عنه صناديق الإقتراع هو إضمحلال ما كان يدعى "معسكر السلام" المزعوم، بعد أن لم يحظ "ميرتس" إلا بثلاث مقاعد، وبعد أن غنم "كاديما" بعضاً من حصة من هم على يساره وفاز عليه من هم على يمينه!

لقد عبّر الكثيرون من فريق "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً"، وبالطبع في المقدمة منهم فلسطينيو أوسلو، عن قلقهم على مسوغات تمسكهم بخيارهم البائس بالكلام عن خشيتهم من مرحلة من "شلل سياسي" إسرائيلي، أو حكومة برأسين، إلى ما إلى ذلك، بيد أن المرجح هو أن تستسلم ليفني لحقيقة أنها وإن فاز حزبها بمقعد واحدٍ أكثر من غريمها نتنياهو فإن هذا الأخير قد فاز بأغلبية الكنيست، وأنه عملياً الأكثر قدرة على انتزاع قرار تكليفه من قبل بيريز في الأيام القادمة وعليه، ربما تستعد إسرائيل الآن لما تدعوها "حكومة وحدة وطنية"، تجمع المتطرف مع المغالي تطرفاً... ويستعد نتنياهو إلى محرقة قادمة في الضفة على غرار مذبحة أولمرت، ليفني، باراك في غزة ليستفرد وحده بالفوز في الإنتخابات الإسرائيلية القادمة!

 

وحيث الإسرائيليون منشغلون بما أسفرت عنه إنتخاباتهم، ربما سوف ينشغل معسكر "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً" من العرب بالبحث عن ثمة أعذار لراعي هذا الخيار الأمريكي ذي الوجه الأوبامي لفقدانه الحيلة أمام جنوح الإسرائيليين في هذه الإنتخابات يميناً! وسيشجعهم في بحثهم طبعاً من لم يعترفوا سابقاً بنتائج الإنتخابات الأوسلوية الفلسطينية ويحترمون الآن نتائج الإنتخابات الإسرائيلية من الأوروبيين! وكأنما هذه الإنتخابات قد سارت بالإسرائيليين بما قد يؤدي بهم للسير بعكس ما تشتهيه سفن إدارة أوباما، حيث يتجاهل هؤلاء أن أمريكا عند اللزوم هي من تأمر وإسرائيل في مثل هذه الحالة هي من تلبي وتنصاع فحسب. وحيث العلاقة استراتيجية وحتى عضوية وأكثر من تحالف وفي النهاية إندراج مصالح الأخيرة تحت مظلة مصالح الأولى، فهي تظل بمنأى عن حسابات وتداعيات نتائج الإنتخابات الإسرائيلية، وتدوم ثوابتها بغض النظر عن ما هو اسم من يحكم في إسرائيل، أكان ليفني أونتنياهو وحتى ليبرمان!

 

لقد ذكّرت نتائج الإنتخابات الإسرائيلية العرب، مثلاً، بأن شارون كان قد وأد مبادرة سلامهم المرحومة فور ولادتها ذات يوم في قمة بيروت قبل سبعة أعوام، وجرفت محرقة غزة قبرها، وجاءت هذه الإنتخابات لتذرو رمادها وتزدري بأولئك المصرّين على عدم قراءة الفاتحة على روحها... وفضحت التالي:

 

لقد أطلق فشل الإسرائيليين في حربيهما العدوانيتين على المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين، اللتين فلّتا بصمودهما الاسطوري قدرة آلتهم العسكرية الهائلة وأثبتتا نجاح ما يعرف بحرب الشعب كبديل للحروب الكلاسيكية، وحشيتهم وعنصريتهم وتطرفهم الكامن من العقال، كما أجج كوامن ثقافة الغيتو وأحقاد أساطير الأزمنة الغابرة، وعزز من هذا التليد الإسرائيلي المتفاقم هذه البوارج الأطلسية الحربية التي خفت للإسهام في أحكام الحصار على غزة وإكمال ما عجز عنه الإسرائيليون، وزاد من الغلو الإسرائيلي استفحال الخنوع الرسمي العربي ومن سببوه ممن جنحوا لمسالمة عدو قلنا أن وجوده أصلاً هو نقيض للسلام، فكسروا بما هم عليه أجنحة أمتهم وثلموا وجدانها وأهانوا أجيالها اللاحقة... والأهم: لقد أسقط الناخب الإسرائيلي رهانات عربان التسوية!