خبر ما هو « المشروع الإيراني »؟ ... إجابة من وجهة نظر مؤيدة ؟؟طلال عتريسي

الساعة 10:28 ص|16 فبراير 2009

ـ النهار اللبنانية 16/2/2009

لتهمة الابرز التي رددها بعض الباحثين والكتاب والصحافيين العرب ضد ايران في السنوا ت القليلة الماضية تلخصت بـ"المشروع الايراني". والمقصود بهذه التهمة دور ايران السلبي ونياتها التوسعية تارة أو رغبتها في استعادة الطموحات الامبراطورية السابقة تحت ستار المواجهة مع الولايات المتحدة والدفاع عن الاسلام وعن القضية الفلسطينية تارة اخرى. وايران بحسب هذه التهمة تتخذ من دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين حجة لمد النفوذ والتأثير والهيمنة على شعوب المنطقة العربية والاسلامية...

لا يمكن انكار ان الطموحات الايرانية كانت كبيرة بعد انتصار الثورة مباشرة. وكان كثير من القادة ومن رجال الدين يتحدثون بسهولة وحتى ببساطة، عن توقعاتهم وتمنياتهم بحصول ثورات اخرى في المنطقة العربية على غرار ثورتهم التي قلبوا فيها نظام الشاه... بحيث يخيل للسامع آنذاك ان الشعوب الاخرى تأخرت كثيراً في الانقلاب على حكوماتها وفي جعلها حكومات اسلامية. ولم يخفِ هؤلاء القادة استعداد بلادهم لتقديم العون والمساعدة من اجل نجاح الثورات في البلدان المجاورة او حتى البعيدة. وما قيل عن تصدير الثورة في هذا الاطار لم يكن مشروعاً بل كان مجرد حماسة ثورية توافقت مع تلك الطموحات لرؤية التغيير الاسلامي يعم العالم.

وحتى لو كان تصدير الثورة مشروعاً واعياً على سبيل الافتراض، فإن الحرب العراقية التي اندلعت بعد سنة واحدة فقط على انتصار الثورة، عطلت هذا المشروع وجعلت النظام الاسلامي يغرق في الدفاع عن نفسه وعن وجوده طوال ثماني سنوات في واحدة من اطول الحروب في العصر الحديث (1980 - 1988). بحيث لم يعد تصدير الثورة أولوية بالنسبة الى النظام في ايران. وبحسب هذا الافتراض فقد نجحت ايران بعد الحرب في انقاذ النظام الذي كان مهدداً وتخلت عن، أو فشلت في تصدير الثورة الى البلدان العربية... والدليل على ذلك ايضاً ان أولوية ايران بعد الحرب في عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني وعلى امتداد ولايتين كاملتين أي ثماني سنوات أخرى بعد سنوات الحرب (1989 - 1997) كانت لاعادة الاعمار والتنمية والانفتاح على العالم. فكانت بمعنى ما سنوات التوجه نحو الداخل ولملمة جراح الحرب والقطيعة مع سياساتها التي اتسمت بالتوتر مع الدول العربية ومع اوروبا ومع معظم دول العالم، لأنها وقفت خلف العراق في الحرب فكان المشروع الايراني في هذه المرحلة وحتى عام 1997 مشروع الانفتاح على الخارج والبناء واعادة الاعمار في الداخل. ولم يكن في ذلك أي ضير على الدول العربية. ولم يثر حفيظتها ولم توجه الى ايران أي تهمة لا بل كانت بداية التسعينات مرحلة عودة العلاقات الديبلوماسية مع معظم الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.

بين 1997 و2005 كان محمد خاتمي رئيساً لايران. ومن المعلوم ان خاتمي كان صاحب رؤية اصلاحية اتسمت بدورها بمزيد من الانفتاح في الداخل الايراني وعلى الخارج الغربي والعربي. وقد لقي خاتمي الترحاب والاستقبال في معظم العواصم العربية والعالمية، ونال الاعجاب في الاوساط الثقافية والسياسية العربية المختلفة، وحظي بالتعاطف العربي في الكثير مما كتب عن ايران في تلك المرحلة في مواجهة خصومه من المحافظين في الداخل الايراني.

إذاً لم يكن ثمة "مشروع ايراني" مثير للقلق في الاذهان العربية منذ 1979 وعلى الاقل حتى سقوط بغداد عام 2003 (أي طوال 24 عاماً). ولم يكتب البعض عن هذا "المشروع" المفترض الا اثناء الحرب العراقية الايرانية فوصفوا ايران بالفارسية في مواجهة العروبة والقومية... وعندما توقفت الحرب تراجعت تلك الادبيات وتراجع معها التشكيك بـ"المشروع الايراني".

إن مراجعة وقائع وتحولات السنوات الماضية في ايران وفي الشرق الاوسط يمكن ان تسمح لنا بالفرضية التالية :ان ايران امتلكت طموحاً لتغيير العالم ودعوته الى الاسلام وليس لتغيير المنطقة العربية فقط. ولكنها لم تمتلك مشروعاً عملياً لهذا التغيير. وهذا امر طبيعي ومنطقي في دولة – وحتى في احزاب او في مجموعات ومنظمات - تتبنى إيديولوجية معينة او تعتنق ديناً سموياً تطمح معه الى هداية البشر جميعاً. كان مثل هذا الطموح موجوداً لدى القيادة الايرانية بعد انتصار الثورة وعند الامام الخميني بشكل خاص. لكن ايران في الوقت نفسه لم تمتلك لا تفاصيل هذا المشروع التغييري على المستوى العالمي ولا خططه ولا ادواته. وبقي الامر في حدود الدعوة والتمنيات والتطلعات والاقتناع بأن الاسلام هو البديل لكل الافكار والإيديولوجيات الاخرى في العالم...

ولم يظهر ما يدل على ان ايران تمتلك في الوقت نفسه أي مشروع لتغيير المنطقة او للسيطرة عليها. ومثل هذا الاعتقاد مبالغ فيه أصلا وينسب الى الثورة الفتية ما لم تمتلكه فعلياً، وما لم تقدر عليه في الوقت نفسه. اما ما حصل من دعم لبعض المجموعات او الاحزاب الاسلامية او الشيعية في بعض بلدان الخليج – وهو ابرز ما قامت به الثورة بعد انتصارها في اطار تهمة التمدد الى الخارج - فلم يكن جزءا من مشروع شامل او متكامل، لم نرَ عناصره الباقية او المكمله له في أي سلوك آخر. بل ارتبط هذا الدعم بمغامرات بعض الاتجاهات السياسية في الداخل الايراني حيناً (مثل مكتب حركات التحرير، الذي اعدم لاحقاً المسؤول عنه مهدي هاشمي) وحيناً آخر بالرغبة في مضايقة الحكومات الخليجية رداً على دعمها اللامحدود للعراق في حربه ضد ايران.

إن التهمة التي يوجهها البعض الى "المشروع الايراني" تتلخص بـ"الهيمنة الاقليمية". أي ان ايران وفقاً لهذه التهمة تعمل من اجل الهيمنة على الشرق الاوسط بما في ذلك الهيمنة على الدول العربية. ويستند من يذهب الى هذا الافتراض الى الدور الايراني المتنامي في العراق، ثم يوسع دائرة الربط مع الواقع العراقي الى علاقة ايران مع "حزب الله" في لبنان ومع حركة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" في فلسطين، وصولا الى العلاقة الاستراتيجية مع سوريا، كبراهين على مشروع الهيمنة التي تعمل ايران على تحقيقه منذ سنوات طويلة...

لكن علاقة ايران مع "حزب الله" على سبيل المثال لم تكن في دائرة التخطيط الاستراتيجي الايراني بعد انتصار الثورة مباشرة، باستثناء ما تعتبره ايران واجب دعم المسلمين في أي مكان انسجاماً مع إيديولوجيتها الاسلامية ومع طبيعة النظام الاسلامي. فقد نشأ الحزب في لبنان كحركة مقاومة بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. وقدمت ايران له الدعم والمساندة والتدريب. ونجح الحزب لاحقاً في التحول الى أهم مقاومة ضد اسرائيل منذ احتلال فلسطين قبل اكثر من نصف قرن. وكان من المحتمل ان يفشل الحزب وان لا يحقق كل تلك الانجازات التي حققها في مقاومته ضد اسرائيل على امتداد 28 عاما".

وفي مثل هذه الحالة – أي الفشل - لما تحدث احد بكل تأكيد عن مشروع ايراني للتمدد عبر "حزب الله" أو عبر الشيعة الى لبنان أو الى الشرق الاوسط. ولو لم يحصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان في ذلك العام (1982) لكان من الصعب ان نتخيل وجود "حزب الله" الحالي وطبيعة الدور الذي سيقوم به. وهذا ما نقصده بأن نشأة الحزب لم تكن في الاصل جزءا من منظور ايران الاستراتيجي للتمدد او للهيمنة. وحتى على مستوى فلسطين: ماذا لو كانت التسوية قد نجحت منذ اتفاق اوسلو عام 1993 وحصل الفلسطينيون بعدها على الدولة الموعودة؟ ألم تكن ابواب الدعم الايراني للحركات الاسلامية والجهادية (والتدخل) في فلسطين ستكون أكثر صعوبة أو حتى استحالة؟

إن ما جرى في لبنان بعد الاحتلال الاسرائيلي عام 1982 وأدى الى ولادة "حزب الله"، ينطبق على احتلال العراق عام 2003. فلو لم يحصل هذا الاحتلال وبقي النظام السابق على حاله لما شهدنا بكل تأكيد هذا التوسع في النفوذ الايراني الى الداخل العراقي. وما فعلته ايران لجهة ملء الفراغ الاستراتيجي الذي نجم عن سقوط النظام كان أمراً طبيعياً لسببين: الأول عجز العرب الفاضح عن المبادرة والارتباك في التعامل مع الواقع الجديد بعد سقوط النظام (الفراغ العربي). والثاني خوف ايران على أمنها القومي من الوجود الاميركي (150 ألف جندي) في العراق الذي تمتد حدوده مع ايران الى 1448 كلم.

ومن الطبيعي في هذه الحالة المركبة من الفراغ والاحتلال الا يكون هاجس ايران الاساس هو استعادة الدور العربي المفقود في العراق، أو تهدئة المخاوف، او بث الاطمئنان في نفوس الحكومات العربية من دورها ومن نشاطها المتسارع في العراق. فما يهم ايران هو ألا يعاد تركيب السلطة في العراق الجديد على القاعدة السابقة نفسها من العداء لها والتوتر معها والذي قاد قبل سنوات قليلة فقط، لم تمحَ بعد من ذاكرة الجيل الايراني الحالي، الى حرب طاحنة ومدمرة. ولذا عملت ايران على خطين متوازيين (وربما متناقضين): إرباك الوجود الاميركي في العراق من خلال دعم المقاومة - ، ودعم القوى الشيعية الصاعدة الى الحكم – وهي قوى صديقة لايران – بغضّ النظر عن شروط هذا الصعود وعلاقته بالاحتلال الذي اسقط النظام السابق.

ثمة مسألة لا يلتفت اليها كثيراً بعض المعنيين بقضية ايران في المجالات البحثية والسياسية في العالم العربي، ولا يعيرونها الاهتمام الذي تستحق. ذلك ان التهمة التي وجهت الى ايران بعلاقتها بالشيعة في المنطقة وبمحاولات الهيمنة على قرارهم (الهلال الشيعي) وبالتعاطف الشيعي معها، لا يمكن النظر اليها من زاوية واحدة فقط. بل ينبغي النظر الى هذا التعاطف - على الرغم من التفاوت الكبير فيه بين بيئة شيعية وأخرى - بما هو دليل على أزمة عميقة كانت موجودة في قلب المجتمعات العربية تعيشها الجماعات الشيعية التي لم تحصل على حقوقها أو على المساواة الكاملة مع مواطنيها الآخرين في هذا البلد أو ذاك في الخليج او في العراق أو حتى في لبنان.

لقد عمّ صمت طويل حول واقع الشيعة في بلدانهم طوال العقود الماضية ولكن هذا الصمت لم يكن يعني على الاطلاق ان المشكلة لم تكن موجودة. لذا كان من الطبيعي ان يتسارع الحراك الشيعي بكل تناقضاته وارتباكاته عندما انزاح السقف الصلب الذي كان يضغط لمنع التعبير او لمنع الحصول على الحقوق هنا او هناك. إن مفاجأة ما يسميه البعض "صعود الشيعة" لم تكن ايران وحدها هي المسؤولة عنها. بل كان للحكومات العربية أيضاً دورها (السلبي) في تشجيع هذا الصعود عندما لم تتمكن او لم تعمل بجهود أكبر على دمج هؤلاء الشيعة كمواطنين، لهم ما لغيرهم من دون أي تمييز او استثناء... بهذا المعنى لا يمكن ان نلوم ايران عندما تنظر الى احوال الشيعة بعين التعاطف او تفكر في جذبهم اليها، ولا يمكن ان تلقى التهم على الشيعة عندما يرون في ايران صديقاً او حليفا"... (فالفراغ الناتج عن تردي حال الشيعة يشبه الفراغ الناتج عن سقوط النظام في العراق).

إن الافتراض بأن مشروع ايران هو الهيمنة على الشرق الاوسط، تبسيطي. وهو افتراض يتجاهل أو يختزل ادوار القوى الاخرى الاقليمية والدولية التي لن تقف متفرجة على ايران وهي تهيمن على الشرق الاوسط، وهو عقدة الصراعات الدولية قديما وحديثا. فكيف يمكن على سبيل المثال ان تسمح الولايات المتحدة لدولة مثل ايران ان تسيطر على الشرق الاوسط بمثل تلك البساطة التي يفترضها البعض؟ او كيف يمكن ان تقبل الصين واوروبا واليابان، وحتى روسيا أن تكون ايران هي المهيمن الأوحد على أمن النفط، من دون ان يحرك احد منهم ساكنا"!!!

لقد ظهرالمشروع الايراني وكأنه مشروع هجومي بسبب الفراغ العربي الذي اشرنا اليه، وبسبب النجاحات التي حققها "حزب الله" كحركة مقاومة ضد الاحتلال، وبسبب فشل التسوية في فلسطين، ثم بسبب التراجع الاميركي العام، عن تحقيق الاهداف في المنطقة. وهو تراجع لعبت فيه ايران وحلفاؤها دوراً مهماً. لكن في واقع الامر إن المشروع الايراني لغاية اليوم مشروع دفاعي في جوهره. فالنظام الاسلامي منذ انتصار الثورة محاصر ومهدد. والعقوبات عليه لم تتوقف. ومنعه من الحصول على التقنيات المتقدمة متواصل. والاعتراف بدوره الاقليمي المتناسب مع حجمه وموقعه لم يحصل. والولايات المتحدة ربطت طوال سنوات بين برنامج ايران النووي وبين ضربة عسكرية توجه اليه وتقضي ليس فقط على هذا البرنامج بل وعلى النظام نفسه. واسرائيل ايضاً لم تكف عن توجيه التهديدات الى النظام ولا عن التلويح بشن عملية عسكرية للقضاء على منشآته النووية... وهذا النظام تعرض لحرب شنها النظام العراقي السابق عليه استمرت ثماني سنوات.

ومع الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الارهاب اصبحت ايران دولة في محور الشر، بعد ان كانت فقط دولة تدعم الارهاب. وإذا اضفنا الى ذلك كله الوجود العسكري الاميركي في الجوار الايراني في افغانستان والعراق وفي دول اخرى في آسيا الوسطى، والمحاولات الاميركية لزعزعة الاستقرار الداخلي عبر دعم الاقليات العرقية والدينية في الداخل الايراني... أمكن القول بفرضية البعد الدفاعي في السياسة الايرانية حتى لو اتخذ شكل الهجوم في هذا الموقع او ذاك وخاصة في العراق أو في أمكنة اخرى، سواء على المستويات السياسية (الدعوة لازالة اسرائيل من الوجود، والتشدد في الحق النووي) او العسكرية (استعراض القوة عبر المناورات والاسلحة المتطورة). وبالمقارنه مع انظمة أخرى في الشرق الاوسط تبدو ايران الدولة الوحيدة المهددة بإطاحة نظامها من الخارج،في حين تبدو معظم الدول الاخرى مهددة من الداخل، أي بالانقلاب او بالتمرد الشعبي.

إن الوضع الاقليمي والدولي من 2001 الى 2003 وحتى عام 2005 اتسم بالهجوم الاميركي الواسع والشامل. ومن المستحيل ان يترافق مثل هذا الهجوم مع هجوم ايراني مواز بهدف "الهيمنة" و"التمدد"، في الوقت الذي لم تتمكن باقي دول العالم من فعل ذلك، على الرغم من اعتراضها على الحرب الاميركية على العراق.

إن ما فعلته ايران في ظل الحصار والعقوبات ثم مع الوجود العسكري الاميركي في جوارها كان دفاعاً استراتيجياً عن نفسها وعن نظامها وعن أمنها القومي المهدد. وبما يتوافق الى حد بعيد مع "الثوابت" التي تتمسك بها في الاستقلال عن السياسات الاميركية، وفي العداء للكيان الصهيوني.