خبر غزة: الحرب الوسطى ..أنيس نقاش

الساعة 10:25 ص|16 فبراير 2009

ـ السفير 16/2/2009

انتهت الحرب على غزة، كما توقعنا وسبق واعلنا بنصر المقاومة وفشل العدو بتحقيق أهدافه، فلا الصواريخ توقفت، الا بعد إعلان قيادة المقاومة وقف إطلاق النار من جهتها، وذلك بعد ساعات طوال من موعد اعلان العدو وقفه لاطلاق النار من جهة واحدة. كما فشل العدو بضرب البنية التحتية للمقاومة، بل وتؤكد المعلومات الواردة من غزة على ان جسم المقاومة الاساسي لم يتأثر ولم تتأثر منظومتها الصاروخية التي كانت وما زالت قادرة على خوض حرب صاروخية طويلة النفس والمدى. كما جاءت ضربة نتساريم لتؤكد أن الردع الإسرائيلي لم يرمم، وان المقاومة ما زالت تملك زمام المبادرة، والحرب لم تنته بعد.

كما أن الجندي جلعاد شاليط، الأسير لدى المقاومة ما زال بالأسر ولم يتم تحريره، بل ان المعلومات الواردة من داخل الكيان الصهيوني الإرهابي تقول بأن الوزراء الذين كانوا يمانعون الانصياع لشروط المقاومة قد بدأوا بتغيير مواقفهم لمصلحة هذه الشروط.

الانسحاب تم من غزة بناء للمدة التي حددتها المقاومة وبسابقة لم يشبهها شيء سوى الانسحاب السريع من لبنان، بعد حرب تموز المنتصرة، بدون اية مفاوضات سياسية او اية شروط ما على المقاومة، وبعكس ما تعودت إسرائيل عليه من التلكؤ والمماطلة للحصول على مكاسب سياسية او جغرافية كما فعلت وتفعل مع الدول العربية وأثناء مفاوضاتها معها او مع السلطة الفلسطينية. ولجأت إلى معاهدات دولية، تتحدث عن منع التهريب تعويضاً لها عن عدم الحصول على اية تنازل او تعهد من المقاومة، لعل ذلك يعوضها امام الرأي العام لديها لتخفي فشلها الذريع.

حقيقة خطة الهجوم على غزة:

لا يمكن تعريف النصر او الهزيمة في مثل هذه المعارك التي لا تتواجه فيها جيوش نظامية، الا من خلال معرفة الأهداف السياسية لحملة العدو وحلفائه، فيكون القياس على مدى تحقيق تلك الأهداف من عدمه، هو الدليل على الفشل والهزيمة او العكس.

لقد اصبح من الواضح، من خلال المعلومات التي توفرت للأحداث والحوارات التي جرت قبل شن الحرب، والى ما جرى اثناء الحرب وما يجري بعدها ما يلي:

ـ لقد سبق شن الحرب إقفال للمعابر، بما فيها معبر رفح المشترك مع مصر، وجرى التهديد بتدمير المقاومة وتلقينها درساً قوياً، وهي تهديدات جاءت من قبل العدو ومن قبل المسؤولين المصريين في الغرف المغلقة وفي التصريحات العلنية، «فلقد سبق وحذرنا، ولكن أحداً لم يسمع لنا»، كما قال وزير الخارجية المصري، ابو الغيط، والتحذير كان يأتي دائماً بنصائح من نوع تقديم التنازلات للعدو ولمحمود عباس، وإلا فالدمار بانتظار المقاومة.

ـ لقد سبقت هذه الحرب، اكبر عملية تمويه وتعمية، هدفت للمباغتة والاستفادة من المفاجآت المطلقة من اجل تحقيق أكبر عدد من الخسائر في صفوف المقاومة. فقام رئيس وزراء العدو بزيارة لتركيا وتحدث مع رجب طيب اردوغان عن اهمية دفع عملية السلام مع سوريا، وعندما جاء الحديث عن غزة، رد رئيس وزراء العدو بأنه لا نية لضرب غزة، في حين أن القرار، كما تبين لاحقاً، كان قد اتخذ. وقد أعلن ان رئيس الجبهة الجنوبية قد ذهب بعطلة عائلية، كذلك للتعمية عن إمكانية شن الضربة في هذه الفترة. اشترك وزير الدفاع في عملية التمويه، فأعلن ضرورة تخفيف الضغط عن القطاع، بعد ساعات من إعلان ليفني في القاهرة، إنه آن الاوان لتغيير الاوضاع في غزة، وعند الاستفسار عن معاني هذه التصريحات من قبل قيادة المقاومة من الطرف المصري، أجيب بأنها مجرد تصريحات انتخابية، وان ما جرى في الغرف المغلقة هو شيء آخر، وهكذا تورطت السلطات المصرية في عملية التعمية والتمويه على العملية. وقد شن العدو هجومه يوم السبت هو يوم العطلة عند الطائفة اليهودية، في ساعة الذروة، أي عند الظهر، ظنا منه انه سيحصد العدد الأكبر من قيادات المقاومة وجسمها المقاوم.

فشلت خطة التعمية والتمويه في تحقيق أغراضها وبقي الجسم المقاوم سالماً، وذهبت جهود التعمية على الضربة الاولى هباء الرياح. فكان الانتقال الى الخطوة التالية وهي استخدام قوة الدمار الشامل وبأسلحة استعراضية سنتحدث عنها لاحقاً، وضرب المدنيين بالأساس، بهدف ضرب معنوياتهم وردعهم عن مواقفهم السابقة المتجلية في دعم المقاومة، ان كان من خلال صناديق الاقتراع كما حصل سابقاً، او كما حصل لاحقاً من خلال المهرجان الجماهيري الذي حشدت له الجماهير حشداً مشهوداً في ذكرى تأسيس حركة حماس، وذلك أياماً معدودات قبل شن الهجوم. وفشلت هذه الخطة أيضاً ولم نشاهد، لا تظاهرات ضد المقاومة، ولا تظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار، من منطلق رفض المقاومة أيضاً، والاهم انه لم نشاهد مجموعات من المواطنين مثلاً تسعى للجوء الى مصر عبر معبر رفح، بل شاهدنا العكس، وهو سعي البعض من الفلسطينيين للعودة الى غزة أثناء القصف الهمجي. والجميع كان قد شاهد قبل ذلك، ان جماهير غزة كانت قد أسقطت معبر رفح وفتحته بالقوة ودخلت الى سيناء عندما ارادت ان تعلن رفضها لهذا الإغلاق، وسعت للتسوق في أسواق رفح المصرية والعريش، ثم عادت الى غزة، وهي كانت من أولى بشائر الصمود، حيث لم يحاول احد البقاء في سيناء هرباً من الحصار المفروض.

ومع فشل العدو في تحقيق أهدافه من خلال الخطوات التي ذكرناها. تقدم الى خطوات عسكرية توحي وكأنه يريد التقدم لاحتلال غزة من اجل ضرب المقاومة، فكانت حرب المحاور التي لم يستطع ان يثبت تفوقه فيها، لأن المقاومة كانت له بالمرصاد وأوقعت فيه الخسائر كلما تقدم.

فشلت الخطوات العسكرية والحملة الهمجية وعندها أصبحت اسرائيل مجبرة على وقف إطلاق النار من طرف واحد، كما أعلنت. وهكذا فالنصر كان حليف المقاومة والفشل من نصيب العدو.

أسلحة جديدة وكي الوعي:

استخدم العدو في هذه الحرب على غزة اسلحة محرمة دولياً، ولكن الملفت في هذه الاسلحة، ليس قدرتها التدميرية فقط، بل شكلها الاستعراضي الملفت للنظر والجالب لعدسات الكاميرات، فهي أشبه بالألعاب النارية المبهرة تقترب من مقولة الآية الكريمة «ترميهم بحجارة من سجيل»، وكأن العدو كان يحاكي شعبنا وأمتنا، بمفاهيم دينية أراد بها كي الوعي، كما يعلنون. هذه الاسلحة تشبه تماما وصف حرب «ارماجدون»، التي جاء وصفها في الكتاب المقدس في النسخة اليونانية العبرية، فكان سلاح «الدايم» الذي هو عبارة عن «تنغيستان» محمى على درجة عالية، يشطر الأجسام ويحرقها، ويتحول الى شظايا صغيرة جداً تفتح الجروح ولا تسمح بإعادة لحمها طبياً. واذا كان القتل هو المقصود، فإننا نعلم ان الاسلحة الكلاسيكية وغير محرمة دولياً، كانت لتسمح له بالوصول للنتيجة نفسها، فلماذا استعمل هذه الاسلحة اذا لم تكن لغاية في نفسه، وذلك من اجل المزيد من الإبهار والتخويف والترويع؟

فاستعمال الأسلحة المتقدمة بالحروب عادة ما يكون لتدمير اسلحة متقدمة، او منظومات معينة، او لوقف تقدم العدو، او تدمير تحصيناته، اما المدنيون، وهم من كان مقصوداً بهذا القتل فليست هناك حاجة لتطوير سلاح كهذا لقتلهم، لان أي سلاح متعارف عليه كفيل بقتلهم، كما حصل في قانا واخواتها، ومجازر اخرى ارتكبها العدو على مر تاريخه، وارتكبها حلفاؤه في حروبهم الاستعمارية الأخرى. الهدف اذا هو الترويع والإخافة وبث الرعب. كذلك في أهداف التدمير الكبير للمساجد والمباني الآهلة بالسكان تحت ذرائع واهية.

هذا يعيدنا الى نظرية «الضاحية» بالتأكيد، التي وعدنا العدو بها بعد فشله في حرب تموز، ولعدم استطاعته إسكات صواريخ المقاومة، وفشله بالتقدم والاحتلال، وفشله في ضرب البنية التحتية للمقاومة، وتدمير دباباته، وفشل منظوماته الأمنية والاستخباراتية، وفشله بالتنسيق بين الأسلحة المختلفة، وهي كلها من نقاط تقرير فينوغراد وسجلت بناء على شهادات مسؤولي العدو السياسيين وضباطه العسكريين.

توصيات تقرير فينوغراد أوصت بمعالجة كل هذه الأخطاء، واوصت بضرورة اعادة الهيبة للردع الاسرائيلي التي تضررت وسقطت. ولكن متابعة العدو لاستعدادات المقاومة التي أعادت بناء قوتها من جديد وعلى أفضل وأقوى مما كانت عليه قبل حرب تموز، أجبرت قادة العدو على التفكير بنوع آخر من الحروب ليست له علاقة بالمواجهة بين القوات المسلحة للاطراف المتحاربة بقدر ما له علاقة بأخذ المدنيين رهينة في أية حرب، وجعل التدمير للمباني المدنية والبنية التحتية وقتل العدد الأكبر من المدنيين وإرعابهم هي الاستراتيجية الجديدة لحروبه.

فالنظرية تقول: ما لم يفعله ردع ضرب المدنيين والبنى التحتية لتأليبهم على المقاومة، يفعله المزيد من ضرب المدنيين والبنى التحتية والترويع، لعلهم ينقلبون على المقاومة. ولذلك كان لا بد من اسلحة جديدة، ورعب جديد، وجرائم بلا عقاب مدعومة مما يسمى المجتمع الدولي وبتواطؤ منه، وهذا التواطؤ هو جزء من الردع الإسرائيلي، «أنا اقتل بلا حساب، والعالم لا يحاسبني بل يدعمني، فانتبهوا».

من هنا خرج علينا العدو، خلافاً لتقرير فينوغراد الذي أوصى بمزيد من التدريب، والمزيد من التنسيق بين القوات والاسلحة، ورفع الكفاءة القتالية الخ... خرج علينا بنظرية الضاحية، التي شاهدناها في غزة. فلم تكن هناك كفاءة إضافية لقوات العدو، ولا مناورات ملفتة للنظر ولا تخطيط عالٍ، اللهم الا عملية التعمية والتمويه على النية بشن الهجوم لتأمين عامل المفاجأة، والتي شارك فيها بعض العرب، للأسف، ومحاصرة الاعلام الدولي والمحلي والسيطرة على الصورة والمعلومة، لكي يحتفظ بسلاح الحرب النفسية بيده الى أبعد الحدود. كما انه هرب من مسألة تحديد أهداف الحرب بشكل واضح وتركها لتصريحات متباينة وهلامية، لانه كان يدرك ان التزامه بأهداف ما، وهو لا يعرف ما اذا كان سيحققها ام لا، سيجعل عدم تحقيقها خسارة له. وبقي فقط مقولة ضرب الصواريخ والإفراج عن الجندي الاسير وهما أيضا هدفان لم يتحققا.

ما حصل عليه العدو هو قوة تدميرية للمدنيين في مبانيهم وحياتهم، انها نظرية الضاحية، هي أيضاً فشلت، لانها في لبنان رفعت شعار، «فدا المقاومة» وفي غزة رفعت شعار «فدا فلسطين»، وفي كلتا الحالتين يثبت شعبنا بأنه اقوى بايمانه من قوة العدو واسلحته الفتاكة.

المعارك السياسية:

المعارك السياسية التي سبقت الحرب والتي بدأت اثناء الحرب وبعدها، اثبتت ان العدو وحلفاءه يحاولون الأخذ بالسياسة والمفاوضات والمقاولات ما عجزوا عن تحقيقه في الحرب، قبل الحرب كانت هناك تهديدات من اطراف عربية، وخاصة مصرية لتقديم تنازلات، واثناء الحرب تجددت هذه التهديدات ظنا من المتقدمين بها بأن الحملة العسكرية ستصل الى اهدافها، واستمرت هذه المحاولات متسلحة ومستقوية، كما تظن، بعملية اعادة الاعمار، وبالتلويح بالمساعدات المالية من اجل الحصول على تنازلات لمصلحة العدو ولمصلحة سلطة محمود عباس المنتهية ولايته دستورياً. وبدأت كل هذه المحاولات بالفشل. لان شعار وموقف المقاومة يقوم على قاعدة أن ما لم يستطع العدو تحقيقه في ارض المعركة، لا داعي للتنازل عنه في المفاوضات. «ما لم يؤخذ من المقاومة لا يؤخذ بالمقاولة».

المعارك السياسية تمظهرت في فشل ذريع للنظام الرسمي العربي، مما يؤكد ويثبت نظريات المقاومة المرتكزة اساساً على العمل الشعبي. فقد فشل النظام الرسمي في عقد قمة لمجرد بحث قضية الحرب. وعندما عقدت القمم عقدت قمم عدة كرست الانقسام، وعندما عقدت قمة واحدة لم تكن موحدة بل بلا معنى ولا رائحة وخرج عنها بيان لا يؤسس لشيء.

ان هذا يؤسس للمزيد من التنسيق بين القوى المقاومة في الساحات المختلفة ويؤكد ان «قمم القوى الجهادية» أهم من قمم القوى النظامية الرسمية.

كما ان المعارك السياسية التي اثبتت، اكثر من المعارك العسكرية، مدى التماهي بين العدو وبين بعض القوى العربية المتحالفة معه في هذه المعركة وفي معارك قد تأتي في المستقبل، وقد تمظهر المعنى العملي لاتفاقية كامب ديفيد ومدى البعد الاستراتيجي لها، الذي وضع مصر ودولاً تسير في مسار الجهود والمخططات الاميركية في المنطقة، في قلب المشاريع الاميركية والاستراتيجية الاميركية للمنطقة، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية المصري، ابو الغيط افضل تعليق، عندما اتهم إيران بأنها تريد إعادة مصر الى زمن الصدام المسلح مع العدو في حين ان مصر قد اتخذت قرارها بالصلح مع اسرائيل. والمعلوم ان اتفاقية كامب ديفيد تمنع على مصر، حتى مجرد التحريض الإعلامي على إسرائيل. فكيف بتأييد عمل عنفي ضدها او فتح المعبر أمام شعب يقاوم وقوى مقاومة ضد هذا العدو؟

لقد أظهرت المعارك السياسية ان المجتمع الدولي والمنظمات الدولية تتخلى عن واجباتها، بل تتواطأ مع العدو احياناً، ولو على حساب موظفيها ومدارسها ومخازنها، فتقضي على أدوارها وعلى جوهر ضرورة وجودها. لذا فالمعارك السياسية تظهر الى أي مدى هوت هذه المنظمات في الحضيض، وكم هي متخلية عن واجباتها ومنحرفة عن مهماتها.

إن الحديث الدولي عن منع التهريب للسلاح، وسعي بعض الدول للمشاركة العسكرية والفنية لمنع هذا التهريب، وهو الإمداد الضروري للمقاومة لكي تدافع عن أهلها، لهو أكبر دليل على أن هذه القوى لا تعترف بحق هذا الشعب بالدفاع عن نفسه، ولا لمقاومته حق التمكن بالتسلح للدفاع عن شعبها. وهو موقف ضمني بالعنصرية والانحياز للعدو. وقلب الحقائق لا بمساواة الضحية بالجلاد، بل بتحويل الجلاد إلى ضحية والضحية الى جلاد. وهنا أهمية الحديث العلني والجريء عن حقنا بالتسلح وحق المقاومة به ورفض أي مقررات وترتيبات لمنع هذا التسلح.

من المعارك السياسية تأتي معركة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهي ضرورية بالبديهية ولا يرفض أحد مبدأ الوحدة الوطنية، ولكن شرطها الاول ان تكون وطنية. بمعنى ان تكون بين قوى غير مرهونة للعدو، مستقلة الإرادة عن قوى الضغط وخاصة المعادية للقضية وللشعب ولمقاومته، فكيف اذا كان المطلوب الاتحاد مع مجموعة سياسية قد أبرمت اتفاقيات أمنية مع العدو، وتتعهد فيها بمنع اعمال المقاومة ضده، والتعاون معه في المجال الاستخباراتي والقمعي لضرب هذه المقاومة؟ كيف يكون العمل الوطني ان لم يكن أساسه احترام ارادة الشعب الذي هو عماد الوطن، فهل يجوز الاتحاد مع من استهان، بل انصاع لإرادة الأعداء وأعد الخطط معه واستضاف ونسق مع مسـؤوليه العسكريين، من اجل ضرب القوى التي فازت بالانتخابات الشعبية؟

ومن المعارك السياسية معركة الرأي العام العالمي الذي بدا ينظر إلى كيان العدو على انه مهدد للسلم العالمي وانه كيان عدواني يتخطى القوانين الدولية ويرتكب جرائم حرب، ولذلك فإن معركة الحديث عن ضرورة إنهاء كيان كهذا، بناء لما تقدم وليس من منظور إبادة الشعب، تصبح معركة واقعية ومطلوبة من أجل خوض المعركة الفاصلة من خلال نزع المشروعية عنه، كمحتل وكغاصب وكقاتل ومجرم وإرهابي وعنصري في الوقت نفسه.

ومن المعارك السياسية أيضاً سؤال النظام المصري، علناً وليشهد الشعب العربي على ذلك: هل ستشارك أنت في عملية منع وصول الأسلحة للمقاومة لضمان تفوق العدو ومنع تسلح الفلسطينيين؟ وإذا أجاب بالإيجاب، كما نتوقع، فإن هذا يسقط عنه صفة الحيادية ويضعه في خانة الانحياز للعدو. لان هناك فرقاً بين المساعدة على التسلح، وهذا ما لا قدرة له عليه، وبين عدم التدخل في أية جهود ومنظومات وبرامج أمنية تحول دون التسلح، وبين التدخل في المنظومات والمشاركة فيها، وهو موقف محايد، والعمل على منع تسليح المقاومة وهو موقف معاد يخدم العدو. كما ان موقف العداء هذا يخرج مصر من موقع الوسيط والمحاور المحايد.

إن المعارك السياسية هي الفرصة المناسبة لإعادة ترتيب المفاهيم وترتيب الأسس الوطنية للخطاب الفلسطيني، وللتأسيس لمفاهيم العمل الشعبي الجماهيري الذي اثبت فعاليته أمام فشل، بل وتواطؤ النظام العربي الرسمي أحياناً وفي أكثر الأحيان.

نتائج المعركة وما بعدها:

لو جمعنا نتائج حرب تموز التي جرت على الجبهة الشمالية لفلسطين، ونتائج حرب غزة التي جرت على الجبهة الجنوبية لفلسطين لوجدنا النتائج التالية:

ـ إن العدو في كلتا الحالتين لم يستطع ولم يعد باستطاعته احتلال ارض عربية. إما بسبب المقاومة الضارية أثناء الحرب والتي ترد قواته، وإما بسبب خوفه من الوقوع في مستنقع المقاومة إن هو احتل ارضاً، لان المقاومة أصبحت من سمات هذه المنطقة. وقد انسحب من جنوب لبنان بناء لهذه القاعدة، ومن غزة أيضاً بناء لهذه القاعدة.

ـ ان العدو من خلال الحرب وقوة النيران لم يستطع، وفي كلتا الحالتين، ان يفرض شروطا سياسية على المقاومة، تؤدي الى استسلامها، او الحد من قدرتها على الحركة في المستقبل، بل ومن خلال اعترافاته في لبنان، ان المقاومة قد زادت من امكانياتها وقدراتها. وفي فلسطين اليوم هو يحاول التركيز على منع التهريب، لأنه يعلم أنها ستزيد من إمكانياتها وستستفيد من تجاربها لتطوير أدائها. وبالتالي استمرار الصراع وتحقيق المزيد من الانتصارات عليه.

ـ ان العدو سلم بفشله العسكري من خلال القتال العسكري مع القوى المتفانية والمستبسلة، فلجأ الى قوة الدمار وضرب المدنيين، وهي مناورة نجحت في صربيا مع الناتو، ولكنها فشلت في فيتنام مع الولايات المتحدة، التي ما إن استوحشت في القصف على هانوي العاصمة والمدن الأخرى الفيتنامية، كتسليم بخسارة حربها العسكرية أمام المقاومة الفيتنامية، حتى خسرت حربها في فيتنام. والفرق بين صرب البلقان، ذوي الحس القومي العالي، ولكن القدرة على التضحية المتدنية، والشعب الفيتنامي الذي كان يشعر بعدالة قضيته واستعد للتضحيات الجسام، هو ما جعل النصر الفيتنامي حقيقة والهزيمة الصربية حتمية.

فالعدو اذا وصل الى الحائط المسدود والنتائج التالية، خاصة اذا ما سحبنا أسماء التنظيمات المختلفة، وتخطينا اتفاقية سايكس بيكو ونظرنا الى خريطة الصراع على أنه كل متكامل لوجدنا التالي:

ـ إن العدو كان يحتل ما يريد ومتى يريد، فأصبح عاجزاً عن ذلك الآن، ولم يعد باستطاعته التهديد باحتلال أي ارض عربية.

ـ إن العدو أجبر على الانسحاب من أراض كان قد احتلها تحت ضغط المقاومة، فهو إذاً غير قادر في البقاء في الاراضي التي احتلها وهو يستمر في التراجع أمام هذه الظاهرة وأمام احتمال كهذا.

ـ ان العدو فشل ويفشل في فرض إرادته السياسية تحت قوة النيران لفرض معادلات سياسية وشروط على قوى المقاومة.

ـ إن قوى المقاومة تحاصره على جبهات عدة: فهناك جبهة شمالية قوية جداً، وباعترافه، تشكل قوة ردعية امام أي تقدم، وتشكل قوة تدميرية تصيب كل مساحة كيانه. وفي الجنوب قوة صامدة تمنعه من تحقيق أهدافه لا في التوسع ولا في فرض الإرادة السياسية، كما ان غربه يحتوي قوة مقاومة كامنة قابلة للتفعيل بمجرد اكتمال استعداداتها وهي تغطي رقعة واسعة من فلسطين الطبيعية، قريبة جداً من مدن الكيان الرئيسية. في مدى النيران وفي الكثافة السكانية. كما أن العدو يعاني من كثافة سكانية معدية عالية في شمال كيانه، تعدادها مليون ونصف مليون عربي، هم معادون لكيانه ويشكلون نسيجاً وطنياً متكاملاً مع القوى الوطنية الفلسطينية المقاومة ولو بوتيرات مختلفة. كما أنه محاصر بجبهة الضفة الغربية المقاومة، ولو بوتيرة أقل من الجبهات الأخرى، وهي مستعدة للتفعيل مع تغير بعض الظروف.

ان هذه الوضعية الاستراتيجية التي ليست لمصلحة العدو بتاتا هي التي تفسر استنجاده بالقوى الدولية، طالبا منها التدخل لمنع التسلح، لانه يعرف ان الخطر اصبح يتخطى امكانياته الذاتية. وهو يحلم بتطوير هذا التعاون الذي قد يبدأ بمنع التهريب ليصل الى مرحلة المشاركة الفعلية بالدفاع عن كيانه.

اليوم يستحق جيش الكيان الصهيوني اسم «جيش الدفاع» فعلياً مع ما وصل اليه من فعالية اسقطت عنه قدرة الردع الاقليمية وقوة رسم الخرائط السياسية بالتوسع لتضعه في موقف الدفاع وحده. والدفاع لا يعني عدم شن الهجمات، ولكنها حتماً لن تكون الا في موقع الدفاع عن الكيان، لا في معرض توسعة الكيان ولا في معرض فرض الارادة على المحيط ولا في معرض الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للحلفاء الدوليين خارج الكيان.

كيان العدو وحفظ وجوده هي المهمة الاولى الملقاة على عاتق جيش الكيان، وجيوش حلفائه، في هذه اللحظة التاريخية، ولذلك لا نتوقع ان يقوم العدو بعد هذه التجارب بأية حرب هجومية على أي من الجبهات، بل ان كل حروبه ستكون دفاعية بامتياز وبأهداف دفاعية واضحة.

حتى هذه الحروب لن يجرؤ العدو على البدء بها دون ضمانات دولية واقليمية تؤمن له النصر، لذلك فإن الحرب القادمة يجب ان تكون بدفع من قوى المقاومة التي ما إن تتم استعداداتها حتى تلجأ إلى تقديم «الذريعة» له لشن الحرب. نعم تقديم «الذريعة» التي تدفعه لشن الحرب في الوقت والزمان اللذين تحددهما المقاومة، إن لم يستجب «للذريعة» ويشن الحرب، علينا أن نعطيه «ذريعة» أخرى لشن الحرب وهكذا حتى يشنها وتكون هي الحرب الأخيرة له ولكيانه تؤسس لنهايته.

خلاصة النتائج:

أرادوا إضعاف المقاومة وإنهاءها، ولكنها خرجت أقوى من أي يوم مضى، مؤيدة من جماهير الأمة العربية والاسلامية ومن احرار العالم، وعاد حق المقاومة في مقاومتها ومشروعيتها ليتصدر المبادئ العامة للصراع في المنطقة.

أرادوا انهاء سيطرة حماس على قطاع غزة وادارتها الثورية النظيفة المناقضة للنموذج السيئ للسلطة الفلسطينية التي ظهر تواطؤها أثناء هذه الحرب، وكأنها كانت تنتظر هزيمة المقاومة لترثها وتعود الى قيادة الشعب الفلسطيني نحو مزيد من التنازلات. ولكنهم فشلوا فها هي قيادة رام الله اقرب منها الى دمى من أمثال قرضاي الأفغاني وسعد حداد وانطوان لحد والمارشال بيتان وغيرهم منها إلى قيادة شعب حر تمثل قيادة حرة.

ان العدو أراد للحرب ان تكون تدميرية، والتدمير هو التتبير، كما جاء في كتابنا العزيز، وهي ستكون كذلك في المرة القادمة، ولكننا نقول له إنه لا يملك وحده قدرة التدمير، بل إن المقاومة تملكها ايضاً وهي تملك فوقها إرادة وقوة التحرير. فهي تملك قدرة تدمير جيشه وتدمير كيانه بناء على المعادلات الجديدة، بعد استخلاص العبر من كل الجبهات والحروب والتنسيق بين الجبهات والمقاومات كلها لتكون الحرب القادمة هي حرب التتبير، حرب نهاية الكيان الصهيوني. ولذلك فإن حرب غزة هي «الحرب الوسطى» بامتياز بين حرب تموز المنتصرة وحرب التتبير الموعودة والمنتظرة.