خبر في إسرائيل.. نوستالجيا « الجدار الحديدي » ..ماهر رجا

الساعة 06:44 ص|15 فبراير 2009

تقع الكثير من التحليلات السياسية والمناظرات المرتجلة على شاشات التلفزة العربية وأبواب الصحف هذه الأيام ، في فخ إغفال ـ كي لا نقول جهل ـ طبيعة إسرائيل والمشروع الصهيوني وسيكولوجيا السياسة الإسرائيلية عموماً.

ففي الأسابع الأخيرة بدا أن تلك التحليلات والقراءات تعرض  (اكتشافاً) مؤداه أن المجتمع الإسرائيلي يمضي بقوة نحو مزيد من التطرف ، بدلالة صعود نجم حزب (إسرائيل بيتنا) بزعامة أفيغيدور ليبرمان، وتقدمه على أحزاب تقليدية تاريخية كحزب العمل (الذي قاد الحياة السياسية في إسرائيل منذ قيامها عام 1948 وحتى أواخر السبعينات) ما يعني أن هذا الحزب الذي يدعو إلى ترانسفير جماعي لفلسطينيي 1984 ويحمل فكرة الحرب المستمرة كضمانة لما يسمى (أمن إسرائيل)، يحتل اليوم المركز الثاني وليس الثالث في الخريطة الحزبية الإسرائيلية بالنظر إلى أن  حزبي الليكود وكاديما ينتميان غلى نواة واحدة في الأساس دخلت الحياة السياسية منذ عام 1977.

وواقع الأمر أن النظر إلى التجمع الصهيوني وشارعه السياسي من هذه الزاوية التي تقسمه ما بين معتدلين ومتطرفين، أو ما بين يمين ويمين متطرف ويسار ويسار وسط ، لا تعكس الصورة الحقيقية لإسرائيل ويمكنها أن تحدث إرباكاً في المفاهيم . نعم هناك معتدلون ومتطرفون حين يتعلق الأمر بالأساليب والمقاربات المتباينة ، لكن ذلك لا يعبر بدقة عن تباين اتجاهات جدي بين التيارات الحزبية المختلفة في إسرائيل. وهذه التيارات بالمقابل لا تمثل، على الأغلب،  جمهوراً متبايناً (أو منقسماً) حيال ما يمكن تسميته بثوابت الدولة اليهودية واستراتيجيات أمنها ووجودها.  

وبهذا المعنى ، ظاهرة التطرف المعنونة اليوم باسم أفيغدور ليبرمان في إسرائيل لا تستوجب كل علامات الاستفهام  أو (الاكتشاف) التي تحاط بها ، وهي ليست ظاهرة لقيطة. ففي إسرائيل يختلفون كثيراً ، أحزاباً وفئات اجتماعية، وتتباين مواقفهم ، لكنهم يصبحون صفاً واحداً تقريباً في الحرب، خاصة إن كانت حرباً يمكن كسبها... هنا يصبح التطرف صفة المواطنية كما بدا الحال الصهيوني في مثال قطاع غزة حيث كانت استطلاعات الرأي في إسرائيل تظهر أن قرابة 90 بالمئة  من الإسرائيليين يؤيدون الحرب الأخيرة على غزة مهما كانت قوة التدمير والقتل.

على شاشة القناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة ، وفي أيام الحرب الأولى على غزة، وقفت امرأة إسرائيلية أمام الطبيب الفلسطيني عز الدين أبو العيش الذي قتل الرصاص الإسرائيلي بناته الثلاث في بيت لاهيا، وراحت تصرخ في وجهه "أنت إرهابي، وبناتك كنّ في المكان الذي أطلق منه الإرهابيون النار على أبنائي في فرقة المظليين". وعلى مدار اثنين وعشرين يوماً كانت الأكثرية الساحقة في إسرائيل، في غريزة قطيع جامعة،  تطالب باستمرار الحملة إلى النهاية وتبرر المحرقة وتدافع عن "أخلاقياتها".

يتعملق التطرف في إسرائيل مع ازدياد الإحساس بنشوة القوة العسكرية والتوهم بتحقيقها نتائج على الأرض، وفي المقابل يتخفى ويتقنع (دون أن يتراجع) حين تخفق القوة العسكرية كما حدث في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987 وشكلت تحدياً تاريخياً للسياسية الإسرائيلية وجعلتها تنعطف نحو اختبار طريق التسوية السياسية. وقد أثبتت التطورات اللاحقة أن الإسرائيليين لم يقبلوا على ذلك الطريق من واقع التخلي عن التطرف والمطلقات الصهيونية وتغيير الاستراتيجية الصهيونية كما فهمها المتحمسون لاتفاق أوسلو أنذاك، وإنما كان الأمر محاولة لتحقيق النصر على الشعب الفلسطيني بوسائل غير عسكرية.

 

استعادة إسرائيل

على أن حصاد الأصوات الوافر لما يسمى باليمين المتطرف في إسرائيل، يعود لأسباب كثيرة في الهامش، منها فقدان معظم الإسرائيليين الثقة برموز المستوى السياسي والحزبي وقياداته التقليدية أو تلك التاريخية في إسرائيل وارتباط صورة هذه الرموز بالعجز بعد غياب شارون عن الساحة السياسية بوصفه آخر ملوك إسرائيل كما لقبته الصحافة الإسرائيلية. ومن الأسباب أيضاً ، أن الخطاب السياسي لأحزاب مثل (الليكود) و (إسرائيل بيتنا) و (البيت اليهودي) و(الاتحاد القومي) و(شاس) يثير في التجمع الإسرائيلي "نوستالجيا" ـ الحنين -  للحلم الصهيوني بإسرائيل في صورتها الأولى قبل ستين عاماً .. محاولة لاستعادة إسرائيل الماضي والبطل ودون إضافات ومساحيق سياسية اضطر المستوى السياسي إليها بالتدريج عبر زمن سياسي شهد إحدى وثلاثين حكومة متعاقبة في إسرائيل.

بيد أن السبب الأساسي لظهور المشهد الإسرائيلي على هذه الدرجة من الوضوح فوق مسرح التطرف، هو تصور التجمع الصهيوني أنه ينتقل إلى مرحلة إعادة اعتبار للأمن والوجود.. فالحرب على غزة خلقت لدى الإسرائيليين اعتقاداً بأن إسرائيل استعادت هيبتها المحاربة وإكسير قوتها المتفرد في المنطقة وغادرت حالة الإحباط والخوف التي مرت بها خلال العامين الماضيين بعد هزيمة قوة الردع الإسرائيلية في تموز 2006.  هذه العودة للإيمان مجدداً "بالجدار الحديدي" وفق تعبير الكتاب الشهير للصهيوني زئيف جابوتنسكي، كانت هي ، كما يبدو، من أعاد الاعتبار في إسرائيل للروح الاسبارطية العسكرية وفكرة الثكنة العسكرية، وجاءت بهذا الزخم والتطرف لأنها أعقبت هزيمة مفاجئة كوت الوعي الصهيوني بشكل لم يسبق له مثيل.

لكن في اتضاح هذا التطرف الصهيوني آفاق أمل أمام الطرف الآخر من ميدان الصراع ومفازات مخاطر أمام إسرائيل.. ذلك ما تنبه إليه ناحوم غولدمان الرئيس الأسبق للمنظمة الصهيونية في العالم قبل عقود في كتابه "إسرائيل إلى أين".. فكلما ألقى التطرف قناعاً من أقنعة السياسة الإسرائيلية التي تخفي الوجه الدميم لهذا الكيان،  وكلما خلعت إسرائيل قفازاً حريرياً.. كلما اتسعت بقعة زيت التطرف، فإنها لن تكتفي بتعقيد علاقات إسرائيل بالمحيط وزيادة عزلتها، ولن تتوقف عند تدمير ما حققته عقلية التسوية السياسية الإسرائيلية من إنجازات ثمينة لإسرائيل.. كل هذا من المتوقع  أن يفعله ائتلاف يميني على رأس السلطة ، ولكن الأهم أن مزيداً من التطرف وصعوده إلى السطح السياسي واعتناقه علانية كثقافة سياسية، سوف يأكل إسرائيل من الداخل.. وإن ببطء.