التسلل السعودي والخليجي عبر عقارات القدس.. قلق الأردن

الساعة 11:38 ص|08 فبراير 2020

فلسطين اليوم

بقلم :محمد هنية
شكَّل العام 2016 علامةً فارقةً في مسار الوصاية الهاشمية على مدينة القدس بعد دخول السعودية على الخط، في محاولةٍ للسيطرة عليها وإيجاد بديل عملي منها، لكنها لم تنجح في ذلك، ولا سيما أنّها ارتبطت بصفقات سياسية وعقارية تم تسريبها للاحتلال.

تعود جذور الوصاية الهاشمية إلى العام 1924، عندما بايع سكانها الشريف حسين وصياً على القدس. وقد استمرت هذه الوصاية على الرغم من حربي العام 1948 والعام 1967 وفكّ الارتباط بين الضفّتين في العام 1988.

منذ مطلع ذلك العام، ارتبط اسم الخليج العربيّ عموماً، ومحور السعودية تحديداً، بتسريب العقارات المقدسية لمصلحة المستوطنين على يد رجال أعمال وشركات، تزامناً مع دخول المملكة على خط التطبيع غير الرسمي بشكل علنيّ للمرة الأولى، بإيفادها شخصيات سعودية لمقابلة مسؤولين إسرائيليين في القدس وتل أبيب، على غرار ما فعله المسؤول السابق في جهاز مخابرات المملكة اللواء أنور عشقي.

شكَّل النشاط السعودي في القدس حالة قلق للمملكة الأردنية، وخصوصاً مع بدء التحرّك في العام 2016 لتشكيل وفد من سكان المدينة لإجراء زيارة للملك سلمان بهدف مبايعته بعد عام من توليه الحكم في السعودية، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل.

محطات النزاع

يمكن القول إنّ العام 2016 شهد 3 محطات أساسية، تمثلت بتسريب عقارات في القدس، وما يمكن تسميته "قناع التمثيل"، عبر افتتاح مقار ثقافية في المدينة، والنزاع الرسمي على التمثيل الرسمي فيها.

المحطّة الأولى: مرحلة التّسريب

شكَّلت مرحلة تسريب العقارات بداية الخلاف المقدسي الخليجي، ولا سيما بعد ارتباط دول خليجية، مثل الإمارات والبحرين، بتمويل صفقات لبيع هذه الشقق، وذلك بعد تحقيقات أجرتها لجان مقدسية، كشفت تورط هذه الدول بشكل مباشر في تمويل هذه الصّفقات.

بدأ التدفّق الخليجيّ إلى المدينة بالتزامن مع فتوى أطلقها الشيخ محمد حسين، دعا فيها إلى وجوب زيارة القدس، وذلك بعد لقاء جمعه بشخصيات خليجية في القاهرة، بذريعة أنَّ "زيارة السجين لا تعني الاعتراف بالسجّان"

وعلى خلفية هذه الزيارات، تسرَّبت 27 شقة في سلوان في عهد وزير إسكان الاحتلال أوري أرائيل. وتركَّزت عملية البيع على شراء منازل أثرية في منطقة "جنوب الأقصى"، وتحديداً منطقة وادي حلوة، بجوار منطقة القصور الأموية والعباسية، وهي منطقة تمتدّ من محراب الأقصى القبلي نزولاً إلى مسجد سلوان.

وبموجب الصّفقات التي قام بها وسيط معروف لأهل المدينة، جرى شراء شقق من مستأجرين لا يملكون هذه البيوت، وسمح لبعضهم ببناء طوابق عديدة فوق بيوتهم المهترئة. وبعد تحقيق اللجان المقدسيّة، ثبت وقوف جهات خليجية خلف المشتري.

وإلى جانب التّمويل الخليجيّ لشراء هذه المنازل، تنشط 27 مؤسَّسة إسرائيلية في عملية البيع والشراء، أهمها شركات "إلعاد" و"بيت كوهنيم" و"غوش أمونيم"، وهي تقدم دعماً سنوياً بـقرابة 40 مليون دولار. وقد أنيط بها التصرف بالعقارات في محيط الأقصى وحفر الأنفاق في أعماقه، وهي المسؤولة عن تشييد "مدينة داوود" أسفل الأقصى.

وكان الأكثر فظاعة من بين الصّفقات بيع "بيت حي السعدية" لصاحبه "أديب جودة"، وهو يعمل محققاً في شرطة الاحتلال، ومسؤولاً حصرياً عن مفتاح كنيسة القيامة.

باع جودة منزله بمبلغ 17 مليون دولار، تقاضى منها مليوني دولار، كما اعترف في لجان تحقيق شكّلت لاحقاً. وكانت الإمارات حاضرة بالاسم، وإن أشارت أصابع الاتهام إلى تورط أجهزة فلسطينية في القضية.

المحطة الثانية: محاولات التغلغل

أغرت عمليّة تسريب العقارات الدول الخليجية ذات العلاقة، فلجأت إلى مرحلة ثانية، في محاولةٍ لشراء عقارات دينية تاريخية وافتتاحها كعقارٍ لممثليات ثقافية تابعة لها، بهدف إيجاد موطئ قدمٍ لها في عملية التمثيل في المدينة والتسلّل عن طريق تمثيلٍ رسميٍّ فيها.

فطن المقدسيّون لهذه المحاولة التي تمثّلت في السعي لشراء زاوية الغوانمة بمليونين ونصف مليون دولار، لجعلها مركزاً بحثياً بحرينياً، فطلبت وزارة الأوقاف من البحرين تحويله إليها، ودشَّنت فيه 120 حماماً تقريباً، ما دفع الاحتلال إلى إغلاقه.

وقد أوقفت البحرين عمليات الشراء، بعدما عرفت أنَّ المقدسيين علموا بخدعتها.

المحطة الثالثة: النزاع على التمثيل

في ظلِّ فشل السعودية في إرساء موطئ قدم لها في المملكة الأردنية عبر الإمارات والبحرين، وانتباه المقدسيين إلى جريمة تسريب العقارات، لجأت إلى حيلة أخرى تمثلت في محاولة استقدام وفود من المدينة إلى السعودية لمبايعة بن سلمان.

علمت الأردن بتلك الخديعة، فاضطرّ الملك إلى إرسال مبعوث عنه، نتج منه قيام وفد مقدسي بزيارة الملك الأردني، وتجديد المبايعة للوصاية الهاشمية، لوضع حد لهذه المحاولات السعودية.

تلك المحاولات أشرف عليها ديوان محمد بن سلمان شخصياً، الذي حاول ترتيب سفرهم إلى المملكة وقتها.

المرحلة العلنيّة!

وفي ظلِّ فشل هذه المحاولات السريّة، تحدثت السعودية عن علاقاتها بشكل علني في نهاية العام 2016، مع زيارة بدأها أنور عشقي الَّذي تقلّد جملة من المناصب الرسميَّة في المملكة، وبلغ أعلى درجات الخدمة العسكرية فيها برتبة لواء.

استغلَّ عشقي هذه الزيارة بعد دعوة قدَّمتها له قيادات من السّلطة الفلسطينيّة لزيارة القدس (5)، التقى خلالها المدير العام لوزارة خارجية الاحتلال دوري غولد، ومسؤول التّنسيق الأمنيّ في الضفة الغربية المحتلة يوآف مردخاي، في فندق "الملك داود" في مدينة القدس المحتلّة.

وسبق لقاء عشقي العلني نشر صورة شخصيَّة له مع غولد في العام 2015، في لقاءٍ عقد في واشنطن، ليبدأ معها كشف بعض اللقاءات السرية التي حدثت بينه وبين شخصيات إسرائيلية. وقد قال في مقابلة مع قناة "روسيا اليوم" إنَّ العلاقات السعودية مع "إسرائيل" تحمل بعداً "إنسانياً وفكرياً وعلمياً"، وليس بعداً "سياسياً".

توارى عشقي عن الأنظار لاحقاً، لتستقدم المملكة بعضاً من وفودها لزيارة الأقصى. تولّى واحدٌ من هذه الوفود مسؤولية حزب الليكود - فرع السعودية - كما صرّح بينامين نتنياهو في كلمته أمام حملته الانتخابية في مقرّ حزبه، خلال حديثه عن السعودي محمد بن سعود الَّذي زار القدس.

وفي خضمّ هذه المرحلة، تولّدت مخاوف أخرى لدى قيادة السلطة من تأمين بديل عربي منها في المفاوضات، وخصوصاً مع الكشف عن لقاء جمع الأردن والسعودية ومصر والولايات المتحدة في العقبة في كانون الثاني/يناير 2017. وقد أثارت القمة مخاوف حقيقية لدى السلطة من وجود صناعة بديل تمثيلي عربي منها.

انطلقت التسريبات منذ ذلك الوقت عن ضغوط سعودية على الرئاسة الفلسطينية للقبول بمقتضيات الصفقة التي أعلنت لاحقاً، ليس أوَّلها القبول بأبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية، بضغط من محمد بن سلمان على الرئيس عباس، بدلاً من القدس، كما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

وإزاء هذه الضغوط، وجدت المملكة الأردنية نفسها أمام خطر يتهدَّد وصايتها على المملكة، وخصوصاً أنّ إعلان واشنطن يتحدَّث "عن دورٍ للمملكة في أيّ اتفاق نهائي"، من دون تحديد ماهية هذا الدور.

انعكاسات التواجد السعوديّ

1- يمكن القول إنَّ هذه المحطّات، بمجملها، ساعدت المملكة الأردن على تكوين رأي عام مقدسي رافض ومناهض للوجود السعودي، وخصوصاً مع اعتقال المملكة عدداً من النشطاء الفلسطينيين من القدس والأردن في سجونها.

2- قلَّصت هذه المحاولات فرص الشخصيات المقدسية المتعاونة مع السعودية في التأثير في المجتمع المقدسي.

3- أوجدت هذه المحاولات إصراراً مقدسياً، ولا سيما من هيئة العلماء والأوقاف التي تشرف عليها مملكة الأردن، على دور المملكة في القدس.

4- سبّب ترابط عملية التسريب مع محاولة تغلغل السعودية في القدس حالة غضب شعبية عارمة، دفعت المقدسيين إلى التوجّس من تواجد الشخصيات والجمعيات الخليجية في المدينة، وتحذير الشخصيات الوازنة من تلقي تمويل للجمعيات المقدسية من هذه الدول.

5- شكَّل المقدسيون لجاناً دائمة للتحقيق في أيّ نشاط خليجي في المدينة، ما قيَّد إمكانية التحرك الرسمي أو الشعبي الخليجي عموماً، والسعودي خصوصاً، في القدس.

6- وضع المقدسيون علامات استفهام على الشخصيات التي تتواصل بشكل دائم مع الإمارات أو الجمعيات التي تتلقى تمويلاً، وخصوصاً من شخصيات فلسطينية معروفة بقربها من الإمارات ومحور السعودية.

7- لا يفصل المقدسيّون بين الإمارات والبحرين والسعودية، فالشخصيات المقدسية الوازنة تربط أدوارها المختلفة معاً، وهم يعتقدون أن الإمارات والبحرين تعملان لمصلحة المملكة.

تداعيات الصّراع على الوصاية

1- لا يزال الموقف الأردني بالنسبة إلى المقدسيين متردداً ومرتبكاً في التعامل مع المحاولات السعودية، ويقتصر على التلويح بعقوبة حرمان الشخصيات المشتبه بعلاقتها مع الرياض من السفر عبر جسر اللبني.

2- يشكّل الدّعم الاقتصاديّ السعوديّ للأردن عاملاً من العوامل الضابطة لردِّ الفعل تجاه هذه المحاولات.

3- تعمل السعودية على طمأنة الأردن إلى عدم المساس بوصايتها مقابل محاولاتها الرامية إلى المساس بها، ما يدفع المملكة إلى الصمت إزاء هذه المحاولات.

4- يشكّل ارتباط الأوقاف الإسلامية في القدس وموقف هيئة العلماء، إضافةً إلى ارتباط المرجعية المسيحية بالمملكة الأردنية، عامل أمان بالنسبة إليها في مواجهة المحاولات السعودية.

موقف السّلطة

يمكن القول إنَّ السّلطة الفلسطينيّة، وبعد توقيع اتفاقها مع الأردن في العام 2013، والذي يؤكّد الوصاية الهاشمية، باتت خارج دائرة الفعل بالنسبة إلى المواجهة السعودية الأردنية على المقدّسات.

 

ويشكّل هاجس البديل السّعودي التفاوضيّ عن السّلطة أولوية أكبر لديها من هاجس التمثيل السعودي للمدينة. وتعتقد السّلطة أنَّ السعودية هي أحد الأطراف العربيّة التي عملت كعراب رئيسيّ في "صفقة القرن".

وتشكّل الحصة الماليّة السعوديّة في دعم موازنة السلطة وميزانية صندوقي الأقصى والقدس، إضافةً إلى حصتها المالية في دعم الأونروا، عوامل لجم لدى السلطة في الاعتراض على السياسة السعودية تجاه القضية الفلسطينية.

ستظلّ القدس ساحة نزال سعودية من جانب، ومقدسية أردنية من جانب آخر، نظراً إلى ما يمكن أن تشكّله من رافعة سياسية لدور الرياض في المنطقة، لكنّ قدرة الصدّ الأردنية تبقى محدودة مقارنة بقدرة الصدّ الشعبية المقدسية التي نجحت عملياً في إفشال محاولات المملكة في التغلغل في المدينة وإجهاضها في مهدها.

وعلى الرغم من التقارب الأميركي الإسرائيلي مع السعودية، فإنَّ الموقع الجيوسياسي للمملكة الأردنية وعلاقاتها الأمنية والسياسية والعسكرية مع "إسرائيل"، يشكلان عامل كبح لجماح أي محاولة تتجاوزها في الوصاية، ما يعزز من إمكانية التوصل إلى تفاهم يجري بموجبه تقاسم الامتيازات بين السعودية والأردن في المدينة، بما يترك موطئ قدم للرياض، ولو شكلياً، في الإدارة الفنية للمقدسات في القدس.