خبر العلم الابيض لم يحمِ المدنيين..

الساعة 11:28 ص|13 فبراير 2009

بقلم: عميرة هاس

رجل في نحو الستين من عمره، يدفع عربة تعلوها امرأة عجوز. فتى ابن 15 الى جانبهما يلوح بخرقة بيضاء. خلفهم – نحو 80 شخصا. الناس يسيرون بحذر نحو الشمال، باياد مرفوعة. هذا هو المشهد الذي وقع، حسب الشهادات، خارج كراج رجب مغربي في شارع صلاح الدين في حي الزيتون في غزة يوم الاثنين 5 كانون الثاني 2009 في الساعة الواحدة ظهرا.

في 4 كانون الثاني، تحت ضغط الجيش الاسرائيلي المتقدم تحت رعاية النار الثقيلة بدأ الهرب الكبير للمدنيين الفلسطينيين غربا، الى الداخل، الى داخل مراكز المدن. عندما كان الهاربون في مدى نظر الجنود الاسرائيليين رفع هؤلاء الاعلام البيضاء وساروا واياديهم مرفوعة.

دافع العربة كان معين جحا. امه كانت تجلس عليها. ابنه ابراهيم يلوح بالعلم الابيض. "في الليلة بين السبت والاحد، بين 3 و 4 كانون الثاني، كان حولنا قصف فقط"، روى معين جحا. "اطلقوا النار من كل صوب، ونحن في البيت متنا من الخوف. مع كل قذيفة كنا نعتقد أن هذه هي النهاية. سمعنا انهيار الحجارة. هربنا من غرفة الى غرفة. أنمنا الاطفال في الغرفة الغربية الداخلية، على الارضية، مثل السمك، واحد الى جانب الاخر".

مطرودون من بيتهم

جحا هو مهندس زراعي تعلم في مصر وفي الـ 15 سنة الاخيرة كان مسؤولا عن فرع التوت الارضي في وزارة الزراعة الفلسطينية. في البيت الاسمنتي غير المطلي بالشيد، يعيش مع زوجتيه وعشرة ابنائه. في بيته شبه المهدوم عاد ليروي عن صباح 4 كانون الثاني: "وعندها بدأوا يطلقون النار من بيت الحلو من الشمال الغربي لنا، اطلقوا النار على البيت وكأننا معسكرا للجيش. البنات كن يبكين من الخوف. وفي الاسفل، الارض كانت مليئة بالجنود. كانوا يصرخون "افتحوا الباب"".

البيوت في هذا القاطع من الطريق الرئيس في القطاع – طريق صلاح الدين، تقوم على مسافة نحو 100 متر الواحد عن الاخر. شرقي البيوت – ارض مفتوحة من الحقول والكروم. من الغرب – طرف حي الزيتون. الان هو مليء بركام الحطام، بيوت فتحت حيطانها واندلعت النار في غرفها، وكذا في حطام اكواخ الدجاج لعائلة السوافيري. مع تقدم الجيش، الجرافات والدبابات صعدت عليها. وفي نهاية كانون الثاني كانت رائحة الدجاج الميت تصدر من هناك.

عائلة جحا بعثت باحدى البنات لفتح الباب للجنود. كل باقي ابناء العائلة نزلوا على الدرج "باياد مرفوعة" جندي بدأ يحطم البلاد في احدى الغرف. في عدة بيوت تحولت الى استحكامات مؤقتة ملأ الجنود اكياسا من الرمل من تحت الارضية – لخلق مواقف لاطلاق النار. معين جحا، صعد مع الجنود الى الطابق الاعلى "واكتشفت ان كل شيء مهدم" – القذائف اسقطت الحيطان، دمرت العمدان، فتحت الثغرات. احد الجنود "صورنا وصور الهدم، وعندها امرونا بالنزول. كانوا ربما 12، ربما 20. من شدة الخوف لم يكن بوسعي أن اعدهم".

في الاسفل قال لي الضابط: "هيا، كلكم الى رفح. اريد أن افجر البيت". ويشرح معين جحا قائلا: "لم اصدق ما سمعت. كل حياتي وأنا أبني هذا البيت. قلت له يا خواجا الى أين اذهب واطفالي الصغار؟ ولكنه وجه سلاحه علي وقال اذهب، هيا. واقترحوا علينا أن نبحث عن مسجدا. قلت له ان المسجد ايضا اصبح هدفا للقصف".

يهربون من النار

ذهبوا الى بيت ابو زور الجار. هناك وجدوا ملجأ ولكنهم وجدوا ايضا هاربين آخرين من عائلة السوافيري. ولكن في يوم الاثنين في الصباح المبكر تكررت ذات القصة، مثلما افاد بها الابن محمد. "نار على البيت، البنات يصرخن من الخوف، ركضنا من غرفة الى غرفة والنار من فوق رؤوسنا. بدأنا نزحف على الارضية". النار كانت من الشمال الغربي (حيث تمركزت قوات عسكرية قبل يوم من ذلك). الجنود سمعوا الصراخ، وسمحوا للناس بالخروج من البيت. أمروهم بالسير بينما الرجال في الامام والنساء من الخلف. وبينما كانوا في الشارع، روت زوجته مدللة، "القوا الى جانبنا بقنابل صوت. واحد من الجنود صورنا، ونحن خائفون والبنات يصرخن. قالوا لنا جميعا ان نذهب الى رفح. كيف أذهب الى رفح وعندي مشاكل قلب؟". بدأوا يسيرون جنوبا. باتجاه ما كان "مفترق نتساريم". وعندها اطلقت عليهم عيارات من الجنوب. بفزع فروا الى كراج المغربي، نحو ستين شخصا. "نصفهم أو اكثر اطفال"، يقول معين جحا.

بعد أن ارتاحوا قليلا في الكراج قرروا ان يجربوا التوجه نحو وسط المدينة. فالجنود باتوا يعرفونهم ويعرفون انهم مدنيين – هكذا على الاقل ظن النازحون. ناهيك عن أنهم الان يمكثون في بيوتهم، بيوت المدنيين التي جعلوها استحكامات للجيش الاسرائيلي (بينها عائلة بيت جحا). "ظننا ان الجيش سيسمح لنا بالتقدم لاننا رفعنا ايادينا ولوحنا بعلم ابيض. امي العجوز، التي لم يكن بوسعي ان احملها، اجلستها على عربة لصناديق الكولا. بطنتها بعدة خرق"، قال الاب. الابن ابراهيم، من مواليد حزيران 1994، رفع منديلا أبيض. "سرنا نحو 180 او 150 مترا، كلنا رافعون الايدي. وعندما اطلق عيار من امام العربة. كان هذا قناصا من بيت ابو زور. وعلى الفور كان هناك عيار آخر، على ابراهيم. ابراهيم صرخ من الالم، وكلنا هربنا"، روت الام.

يوم الخميس فقط، 8 كانون الثاني، عندما أعلن الجيش الاسرائيلي عن وقف للنار لثلاث ساعات، كان يمكنهم أن يخلوا – كانوا صاروا 80 شخصا مع جثة ابراهيم وثلاث جثث اخرى لاخرين، ملقاة في الطريق، اثنتان منهما لمسلحين فلسطينيين. ساروا نحو كيلو مترين شمالا (سيارات الاسعاف لم يكن بوسعها الوصول حتى الكراج بسبب الحواجز). وحسب معين جحا، من احد المنازل التي استخدمت كاستحكامات القيت على القافلة اكياس يستخدمها الجنود لقضاء حاجاتهم. اكياس مليئة.

البيت مهدوم، الابن مقتول

عندما عادوا الى بيتهم بعد 18 كانون الثاني اكتشفوا الكثير من هذه الاكياس المليئة الملقاة في غرف حيطانها مثقوبة ومحطمة، اكتشفوا ايضا أمتعتهم المسكوبة ، زجاجات البلاستيك المليئة بالبول، واجزاء من الحاسوب محطمة، ثلاجة وغسالة مخروقة بالعيارات النارية، القي بها الى الطابق الاسفل، اكوام من الملابس الممزقة، كتب تصدر عنها رائحة البول وحطام الدمار. الجنود تركوا ايضا بضعة شعارات على الحيطان: "الاحتلال الصهيوني كان هنا" و "جئنا لابادتكم".

من الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي جاء التعقيب ان الادعاءات بالنسبة لابراهيم جحا توجد قيد التحقيق لدى الجيش الاسرائيلي. كما افيد بان الجيش الاسرائيلي "سمح بحركة سيارات الاسعاف بقدر ما اتاحت به الظروف القتالية في منطقة مأهولة بالمدنيين". وافادت مصادر عسكرية لـ "هآرتس" بان "لدة قوات الجيش الاسرائيلي تعليمات باحترام من يرفع علم ابيض كعلامة على الاستسلام او عدم المشاركة في القتال، والامتناع عن المس بهم". ولزعم المصادر، "قوات العدو" يسيئون استخدام واجب الجيش الاسرائيلي هذا على نحو تهكمي، ويرفعون علما ابيض للتغطية على تنفيذ عمليات قتالية، ومن اجل الحصول على الحصانة من الهجوم". وحسب المصادر "في الحالات التي يثور فيها شك بان شخصا ما يرفع علما ابيض يعمل بشكل يعرض للخطر قواتنا، من حق القوات ان تتخذ الخطوات اللازمة لاستيضاح الاشتباه وازالة التهديد، وفقا لتعليمات فتح النار ذات الصلة.

سائق دبابة في كتيبة مدرعات روى لصحيفة "بمحنيه" في عددها 9 كانون الثاني يقول: "بقينا في الداخل اربعة ايام في اثنائها اطلقنا الكثير من النار. كنا نشتبه بكل واحد. الكثير من الناس يمرون في الشارع ويرفعون نحونا خرق بيضاء. النساء والاطفال لم نكن نصيبهم باذى. ولكن الرجال علمونا كيف نشتبه بهم اذ هناك اخطارات بمخربين انتحاريين يحاولون الوصول تحت غطاء مدنيين". وبالفعل، في وقت الهجوم وبعده وصلت عدة تقارير عن اناس رفعوا خرق بيضاء عند هروبهم، وحسب اقوالهم، على الرغم من ذلك اطلق جنود الجيش الاسرائيلي النار عليهم. الشهادات هي من مصادر مختلفة – مثل العطاطرة (بيت لاهيا)، عزبة عبد ربه (شرقي جباليا) وخزاعة (شرقي خانيونس) – ومنظمات دولية ومحلية تفحصها في اطار اعداد الشكاوى والدعاوى ضد الجيش الاسرائيلي.