خبر يمضي الرجال ويبقى السراب ..إبراهيم غرايبة

الساعة 11:24 ص|12 فبراير 2009

ـ الغد الأردنية 12/2/2009

نحتاج إلى مواجهة أنفسنا بحقيقة أن سنوات الاحتلال لفلسطين حتى أواخر الثمانينات كانت أفضل بكثير إلى درجة يصعب مقارنتها بحقبة الانتفاضة والسلطة الوطنية وحكومة حماس، أفضل من جميع النواحي، الحضور الثقافي والسياسي للقضية الفلسطينية، والمستوى المعيشي والتعليمي والتنموي للفلسطينيين، وقدرتهم على العمل والسفر والمعيشة بأمن واستقرار، وأن السنوات العشرين الماضية توالت فيها التراجعات السياسية والمعيشية والثقافية، بل وتدهورت القضية الفلسطينية إلى أسوأ مرحلة في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية.

بالطبع،فإن هذه المقدمة ليست دفاعا عن الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها محاولة للمراجعة والتوقف والتفكير ومحاولة لملاحظة سلسلة من التراكمات والحسابات والقراءات ومتواليتها التي ربما يلخصها بيت المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى

صحيح أنه حدثت مبادرات وإنجازات مهمة وكبيرة أيضا، وساهمت في إبقاء القضية الفلسطينية فاعلة وحية، وقدمت للفلسطينيين قدرات كثيرة على التنمية والنضال، ولكننا في هذا المقام نحتاج إلى وقفة مع الأخطاء، والتمييز بين ما يمكن إصلاحه واستدراكه وما لا يمكن.

كانت الحالة في منتصف الثمانينات مقارنة باليوم تبدو زاهية، وما نفاوض اليوم لأجله ونقاتل أيضا كان متحققا من دون هذه التضحيات والخسائر الهائلة، كانت فلسطين كلها متاحة للفلسطينيين للعمل والتنقل والتعبير والنضال بقدر كبير من الحرية والاستقرار، الجامعات والمدارس والجمعيات والصحف والنشر والعمل والرخاء الاقتصادي، على سبيل المثال كان الشيخ أحمد ياسين يخطب الجمعة في كفر قاسم ويعود إلى غزة، وعندما ألقي القبض على أسرة الجهاد عام 1984 كان يقودها وينسق أعمالها الشيخ عبد الله نمر درويش (كفر قاسم) والشيح أحمد ياسين (غزة)، .. وكان ثمة استعداد إسرائيلي للانسحاب من غزة و97% من الضفة الغربية، وكان الاستيطان أقل من اليوم بكثير، ولم يكن ثمة سور، يحيط بالضفة الغربية، ولا حصار ولا تجويع ولا إبادة ولا كراهية بهذا القدر.

فإلى أين مضى بنا "النضال" منذ أواخر الثمانينات؟ عزلت الأجزاء الفلسطينية عن بعضها تماما، ثم فصلت فصلا سياسيا بل وشعوريا واجتماعيا، ولا نحتاج لنضحك على أنفسنا ونخفي أن الفلسطينيين اليوم في الداخل هم أربع مجموعات متباعدة في مصالحها وعلاقاتها وهمومها ومشاعرها أيضا؛ فلسطينيو إسرائيل، والقدس، والضفة، وغزة، وأنه تباعدت بينهم السبل المادية والجغرافية وفرص التعاون واللقاء، وأصبح الفلسطينيون في حالة غير مسبوقة من الانقسام والنزاع، وأما الفلسطينيون في الخارج، فلم يعودوا جزءا من القضية الفلسطينية إلا على نحو لا يزيد على حصة الأردنيين والسوريين والمصريين، وأتحدى أن ينفي كلامي هذا حتى قادة المقاومة والفصائل الفلسطينية وكتابها في دمشق وعمان وسائر أنحاء العالم.

وتراجعت مصادر الدخل الذاتية للفلسطينيين وأصبحوا يعتمدون على المعونات والحوالات، في حين أنهم كانوا الأفضل اقتصاديا وفي مستوى من الازدهار والتنمية لم يكن يفوقه سوى دول الخليج، واليوم فقد حولنا الشعب الفلسطيني إلى شعب يعتمد على المعونة والصدقات والتبرعات، بل وأصبح النضال هو كيف يمكن إيصال المساعدات إليهم بعدما كانوا يساعدون الناس.

كانت الانتفاضة الأولى تقديرا فلسطينيا بأنه لم يعد ثمة مجال سوى العودة إلى فلسطين، ولم يعد الخارج مركزا للمقاومة والعمل السياسي، وتبع ذلك إعلان الدولة الفلسطينية ثم اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، ولكن المقاومة التي بدأتها المعارضة الفلسطينية للسلطة وأوسلو ثم انخرطت فيها السلطة الفلسطينية نفسها تجاهلت حقيقة أن ميزان القوى والعلاقات يحكمه قانون المنتصر والمهزوم، أو قانون العلاقة بين القوي والضعيف، كأن الفلسطينيين نسوا العمل القاسي والممل في ظل الاحتلال، واستعادوا الشعور المضني بالندم على عدم القتال والمقاومة قبل ستين عاما، أو لتفويض قضيتهم وبلادهم لغيرهم، كانت مقاومة أقرب إلى اليأس الذي يفقد البوصلة والحذر والرغبة في الحياة!

وبرأيي، فإن هذه المأساة على ضخامتها، لا تقل كارثية عن محاولة تزيينها للناس وتقديمها على أنها نصر، وتصوير الصراع على غنائم إعادة الإعمار على أنه صراع على قطف نتائج الانتصار، إننا بذلك نضيع البوصلة ولا نعود نعرف ماذا نريد ولا كيف نحقق ما نريد، بل لم نعد نعرف من نحن؟