خبر د. بشير موسى نافع يكتب : في مستقبل المنظمة والمرجعية الوطنية الفلسطينية

الساعة 07:00 ص|12 فبراير 2009

 

أثار التصريح القصير، الذي أشار فيه رئيس المكتب السياسي لحماس، السيد خالد مشعل، إلى ضرورة إنشاء إطار مرجعي لقوى المقاومة الفلسطينية، عاصفة من ردود الفعل.

في عمان، التقى عدد من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني (وجميعهم كما بدا في الشريط المصور تجاوز السبعين من العمر)، للتوكيد على مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وكذلك فعل الرئيس محمود عباس في سلسلة تصريحات صارخة، أطلقها من رام الله والقاهرة. كما أعلنت مواقف مشابهة من الجبهة الشعبية، التي بدت خلال الحرب على قطاع غزة أقرب إلى معسكر المعارضة الفلسطينية منها إلى معسكر سلطة رام الله. ولم تقتصر ردود الفعل على الدوائر السياسية، بل طالت قطاعاً أوسع من الكتاب والمثقفين، الفلسطينيين والعرب على السواء. هذا إلى جانب تنظيم مظاهرة واحدة على الأقل في رام الله، للتعبير عن القلق على مستقبل المنظمة. في صيغته الأولى، لم يكن تصريح مشعل واضحاً تماماً، ولكن اعتبار التصريح خطوة لإقامة كيان بديل لمنظمة التحرير يتطلب بالتأكيد خيالاً واسعاً. الدعوة إلى تأسيس إطار مرجعي لقوى المقاومة قد تعني إطاراً للقوى غير الممثلة حالياً في مؤسسات المنظمة؛ وحتى إن فهمت من منظار واسع، فقد تعني القوى غير الممثلة في منظمة التحرير وبعض القوى الفلسطينية الأخرى التي تتفق معها حالياً في المقاربة السياسية. ولكن من الصعب على أية حال فصل الجدل الفلسطيني المستجد حول المنظمة والمرجعية الوطنية عن السياق الفلسطيني العام منذ توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس سلطة الحكم الذاتي، وعن الحرب على قطاع غزة وما نجم عنها من نتائج.

منظمة التحرير هي بلا شك إنجاز لنضال وطني كبير، استمر بلا هوادة منذ نكبة 1948 وما تبعها من شتات وتقويض لوجود الجماعة الوطنية الفلسطينية. كانت سلطات الانتداب البريطاني، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الانتداب، وضعت الموافقة على صك الانتداب، بما في ذلك إعلان بلفور الخاص بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، شرطاً للسماح للفلسطينيين بالتنظيم الوطني التمثيلي والمشاركة في إدارة شؤونهم وحكم أنفسهم. ولأن الحركة الوطنية الفلسطينية تحت الانتداب رفضت الاعتراف بوعد بلفور، فقد ظلت الجهود لإقامة مؤسسات تمثيلية وطنية محصورة بالمحاولات غير الرسمية وغير المكتملة؛ وهو ما أدى إلى أن تتسم الانقسامات الداخلية السياسية بطابع انشقاقي وصراعي وغير ديمقراطي. بوقوع النكبة، لم يخسر الفلسطينيون فرصة العمل على بناء مؤسسات وطنية تمثيلية وحسب، بل وواجهوا تحدي إعادة بناء الجماعة والهوية الوطنيتين معاً. ولعل شعباً، ولا حتى شعب جنوب إفريقيا، واجه تحدياً بحجم ووطأة الشتات الفلسطيني، وانقسام الوطن والشعب إلى كتل متفرقة. في 1964، أدرك عبد الناصر، أبرز القيادات العربية على الأطلاق، أن النظام العربي الرسمي لم يعد بإمكانه الاستمرار في تجاهل التحركات الفلسطينية الحثيثة لإعادة التوكيد على الهوية الوطنية، وطرح على القمة العربية بالتالي مشروع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية. أخذ الشقيري التفويض العربي الرسمي إلى أبعد ما يمكن أن يؤخذ، بما في ذلك إقامة مجلس وطني لتمثيل كل قطاعات الشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، ودائرة عسكرية وجيش فلسطيني.

في 1968، أدرك عبد الناصر حقيقة المتغيرات الكبرى التي تشهدها الساحة الفلسطينية، سيما بروز منظمات العمل الفدائي، ووفر غطاء عربياً، بموافقة السعودية والجزائر والعراق وسورية، لدخول المنظمات الفدائية إلى المنظمة، وهي الخطوة التي تطورت نحو أن يصبح ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة، وأن تصبح فتح وأنصارها القوة الرئيسية في المجلس الوطني وكافة مؤسسات المنظمة الأخرى: أن تصبح القوة القائدة للحركة الوطنية. لم يكن مسار المنظمة خلال العقود القليلة التالية سلساً، ليس فقط للتعددية السياسية الفلسطينية، ولكن أيضاً لأن الساحة السياسية الفلسطينية كانت، وستظل، مرآة للتدافعات العربية الرسمية. في 1974، ونظراً للاندفاعة العربية الرسمية نحو السلام التفاوضي، أعلنت القمة العربية منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وذلك لإلقاء عبء قرار التسوية على كاهل الفلسطينيين أنفسهم، وتحرير النظام الرسمي العربي من مسؤولياته تجاه فلسطين. ولكن المنعطف الأهم في تاريخ المنظمة جاء بعد توقيع اتفاقية أوسلو.

كان الرئيس عباس أحد المهندسين الثلاثة الرئيسيين لاتفاقية أوسلو (إلى جانب الرئيس الراحل عرفات، والسيد أحمد قريع)، وهو بالتالي مسؤول مباشر عن الآثار المدمرة التي تركتها الاتفاقية على موقع منظمة التحرير ودورها. فاوض الفلسطينيون في أوسلو، ولو ضمنياً، باسم منظمة التحرير، ووقعوا الاتفاقية في واشنطن باسم المنظمة. وكانت أوسلو بالتأكيد آخر عمل كبير تعهدته المنظمة، باعتبارها إطار الحركة الوطنية الفلسطينية ومظلتها. ما حدث بعد ذلك من عقد مجلس وطني في غزة لإلغاء بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، استجابة للضغوط الإسرائيلية والأمريكية، كان عملاً مسرحياً أكثر منه اجتماعاً شرعياً، منظماً، ومعداً على أسس من توافق ونقاش وطني جاد. ما أكده اتفاق أوسلو أن سلطة الحكم الذاتي ستمثل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، لا الفلسطينيين جميعاً، بالرغم من أن فلسطينيي الضفة والقطاع هم أقل من نصف الشعب الفلسطيني. ولكن التوقيع على اتفاقية أوسلو استبطن ما هو أخطر من ذلك: أن التسوية النهائية بين الفلسطينيين والدولة العبرية ستكون في جوهرها تسوية على مستقبل الضفة والقطاع والفلسطينيين المقيمين على أرضهما، وليس على مستقبل كل الشعب الفلسطيني. وبالرغم من أن القيادة الفلسطينية لم تقر هذا التوجه صراحة، إلا أن الواضح خلال تفاوضات عقد التسعينات أن مسألة اللاجئين الفلسطينيين، الفلسطينيين في الشتات، الذين هم أكثرية الشعب، لم تكن على رأس جدول المفاوضات. ومن كامب ديفيد إلى وثيقة جنيف، وصولاً إلى مساق أنابوليس، كانت الإشارات نحو هذا التوجه أكثر من أن تحصى.

والحقيقة أن قيادة سلطة الحكم الذاتي بدأت منذ 1994 تهميشاً حثيثاً لمنظمة التحرير ومؤسساتها المختلفة، بالرغم من أن التفاوض مع الإسرائيليين، عندما كان هناك تفاوض، استمر باسم المنظمة. من وافق أو أراد العودة من قادة وكوادر المنظمة من المهجر إلى مناطق السلطة الفلسطينية أنجزت إجراءات عودته، واستوعب في مؤسسات السلطة. وبعد أن كان الصندوق القومي الفلسطيني يعمل بمثابة وزراة مالية فلسطينية في المهجر، لتغطية كافة نفقات العمل الوطني ومؤسساته وتنظيماته، أصبحت السلطة هي مصدر المالية الفلسطينية، ليس لمؤسسات السلطة وحسب، بل ولما يحتاجه بعض من قادة المنظمة في الخارج وبعض ما تبقى من القدر الضئيل من نشاطاتها. وبدلاً من أن تكون الممثليات الفلسطينية في أنحاء العالم ممثليات للمنظمة باعتبارها الإطار الوطني لكل الشعب، خاضعة لدائرة المنظمة السياسية، وضعت الممثليات تحت سيطرة حكومة السلطة في رام الله. أهملت تنظيمات العمل الشعبي التابعة للمنظمة كلياً، وغيبت المنظمة من الذاكرة الفلسطينية، بحيث أن الفلسطينيين لا يعرفون اليوم من هم أعضاء المجلس الوطني، ولا يكاد فلسطيني واحد تحت سن الخامسة والعشرين يتذكر انعقاداً واحداً للمجلس. وبهذا التجميد الطويل، لم يعد أحد يعرف كيف وصل أعضاء اللجنة التنفيذية إلى مواقعهم، وما أن كان أي منهم يتمتع بشرعية ما.

في ربيع 2005، عندما عقد الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة برعاية مصرية، اتفق كافة المشاركين من قادة التنظيمات الفلسطينية، بما في ذلك حماس والجهاد (غير الأعضاء في المنظمة) وقيادة فتح (بما في ذلك الرئيس عباس) على إعادة بناء المنظمة وتفعيل مؤسساتها. ولكن الرئيس الفلسطيني لم يخط خطوة جادة واحدة باتجاه تنفيذ هذا الاتفاق. وكان من الواضح أن قيادة المنظمة الحالية تريد أن تبقى المنظمة على حالها، هيئة لتبرير سياسات السلطة، وتوفير الشرعية لهذه السياسات، بدون المخاطرة بعملية إعادة بناء شاملة توفر تمثيلاً حقيقياً لكافة قطاعات الشعب وقواه، داخل وخارج الوطن الفلسطيني. ولم تستعد قيادة السلطة اهتمامها بالمنظمة، وبشكل جزئي فقط، إلا بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية للسلطة في مطلع 2006. لأن نوايا قيادة السلطة لم تكن من البداية صادقة للتعاون مع حكومة حماس، أصبحت منظمة التحرير ضرورية لتوفير شرعية بديلة عن شرعية المجلس التشريعي والحكومة الفلسطينية، حيث باتت حماس أغلبية. ولكن هذه المنظمة ليست المنظمة الفاعلة، ليست المنظمة الإطار الموحد للحركة الوطنية الفلسطينية، ليست المنظمة التي تعمل على تفعيل قوى الشعب وتقود حركته؛ هذه المنظمة ليست إلا أداة لمساعدة قيادة سلطة رام الله على المرور عبر مرحلة صعود حماس الانتخابي.

المشكلة أن الفلسطينيين لا يعرفون هذه القصة وحسب، ولكنهم يعرفون أيضاً أن ثمة تجاهلاً فاضحاً للواقع السياسي الفلسطيني ومتغيراته، مقاومة يائسة لقاطرة التاريخ التي تعصف بالواقع السياسي، لن ينتج عنها إلا إطالة الانقسام الفلسطيني وإطالة المعاناة التي يولدها هذا الانقسام. القلة الفلسطينية المسيطرة على إطار المنظمة المفرغ من محتواه، والدول العربية التي تدعم سيطرتها على مقاليد المنظمة، لا تريد أن ترى ما رآه عبد الناصر في 1968، عندما اتخذ القرار الحكيم بمساعدة المنظمات الفدائية على إطاحة حرس المنظمة القديم. الخارطة السياسية الفلسطينية تغيرت منذ زمن، والحرب على قطاع غزة أوضحت أن هذه المتغيرات ليست عابرة. إما إعادة بناء وإصلاح لمنظمة التحرير، يأخذ في الاعتبار هذه المتغيرات، أو أن يتحول اقتراح تشكيل إطار لقوى المقاومة والمعارضة الفلسطينية إلى مرجعية موازية لمرجعية منظمة التحرير، حتى إن لم يكن دعاة الإطار الجديد يسعون فعلاً إلى إيجاد مرجعية موازية. هذه هي الحقيقة؛ أما تباكي القلة المسيطرة على مستقبل المنظمة فليس سوى تباك مضحك.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث