خبر تقويض الأساطير المؤسسة ..اختراع الشعب اليهودي ..د. مازن النجار

الساعة 11:23 ص|09 فبراير 2009

ـ إسلام أون لاين 31/1/2009

في تحد سافر للأيديولوجية أو بالأحرى للأسطورة المؤسسة للمشروع الصهيوني، أصدر المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند، أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة تل أبيب، كتابا قبل بضعة أشهر بعنوان: متى وكيف جرى اختراع الشعب اليهودي؟ الصادر باللغة العبرية عن دار رسلينغ الإسرائيلية في شهر مارس/آذار الماضي.

بيد أن ليس هناك من فوجئ أكثر من شلومو صاند نفسه الذي احتل كتابه هذا موقعا على قائمة الكتاب الأكثر مبيعا في إسرائيل لمدة 19 أسبوعا متصلة، وقد نال الكتاب هذا النجاح، رغم أنه يمس أكبر المحرمات في إسرائيل.

يجادل الدكتور صاند بأن مفهوم وجود أمة يهودية بحاجة إلى وجود ملاذ آمن، والذي استخدم في الأصل لتبرير تأسيس دولة إسرائيل خرافة جرى اختراعها قبل أكثر من قرن بقليل.

استند المؤلف إلى أبحاث ودراسات تاريخية وأركيولوجية مكثفة للبرهان على هذه المقولة، وأخرى غيرها لا تقل عنها إثارة للجدل.

كذلك يجادل المؤلف بأن اليهود لم يتعرضوا أبدا للنفي من الأرض المقدسة، ذلك أن معظم يهود العالم اليوم ليس لهم ارتباط تاريخي بالأرض المسماة إسرائيل، وأن الحل السياسي الوحيد لصراع إسرائيل مع الفلسطينيين هو إزالة الدولة اليهودية.

نجاح وانتشار

يُرجح أن يتكرر النجاح الذي حققه كتاب صاند لدى نشره بأماكن أخرى من العالم، فالطبعة الفرنسية التي أطلقت في سبتمبر/أيلول الماضي قد بيعت بسرعة، مما استدعى إعادة طبعها ثلاث مرات.

ويجري ترجمة الكتاب حاليا إلى 12 لغة أخرى، وفيها العربية والإنكليزية، لكن صاند يتوقع مسارا وعرا لكتابه عندما يصدر السنة القادمة بالإنكليزية عن ناشره الإنكليزي فيرسو Verso، بالولايات المتحدة.

على النقيض، يرى المؤلف أن قراءه الإسرائيليين، إن لم يكونوا مؤيدين تماما، فهم على الأقل لديهم فضول للاطلاع على الكتاب، الذي وصفه توم سيغيف، أحد أبرز كتاب إسرائيل، بأنه رائع ومثير للتحدي.

المفارقة أن معظم زملاء صاند من الأكاديميين الإسرائيليين قد أحجموا عن مناقشة مقولات الكتاب، والاستثناء الوحيد هو إسرائيل بارتل أستاذ التاريخ اليهودي بالجامعة العبرية بالقدس، الذي كتب في صحيفة هاآرتس الإسرائيلية مناقشا الكتاب؛ لكنه أنفق القليل من الجهد في تفنيد مقولات الكتاب، بينما كرّس معظم المقال للدفاع عن مهنته، أي التأريخ اليهودي.

وأشار بارتل إلى أن المؤرخين الإسرائيليين ليسوا جاهلين بالطبيعة المخترعة للتاريخ اليهودي التي حاججها الدكتور صاند.

راودت فكرة الكتاب الدكتور صاند منذ سنوات عديدة، لكنه انتظر طويلا قبل البدء بالعمل، وهو لا يدعي أي شجاعة خاصة إزاء نشر الكتاب الآن؛ فقد انتظر حتى أصبح أستاذا (بروفسور)؛ لأن هناك ثمنا ينبغي دفعه في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية مقابل الإفصاح عن توجهات من هذا النمط.

أرض الميعاد

تتركز المقولة الرئيسة لكتاب دكتور صاند في أنه قبل أكثر من قرن بقليل، كان اليهود ينظرون إلى أنفسهم كيهود فقط لأنهم يشتركون في دين بعينه.

ومع استهلال القرن العشرين، تحدى اليهود الصهاينة هذا المفهوم، وبدءوا يصوغون تاريخا قوميا باختراع فكرة أن اليهود قد وجدوا كشعب (أمة) وعلى نحو منفصل عن دينهم.

وبالمثل، فإن الفكرة الصهيونية الحديثة حول أن اليهود ملزمون بالعودة من المنفى إلى أرض الميعاد، كانت غريبة تماما بالنسبة إلى اليهودية.

لقد بدلت الصهيونية مفهوم "القدس"، ففي الماضي، كانت الديار المقدسة تعتبر أماكن يتوق إليها اليهود، لا ليعيشوا فيها، ولمدة ألفي عاما، مكث اليهود بعيدا عن القدس، ليس لأنهم لا يستطيعون العودة إليها، ولكن لأن دينهم يمنعهم من العودة إليها حتى قدوم المسيح.

وجاءت المفاجأة الأبرز خلال بحثه عندما بدأ النظر في الأدلة الأركيولوجية التي تعود لعصر التوراة.

يقول صاند إنه لم يُنشّأ صهيونيا، ولكن شأنه شأن سائر الإسرائيليين اعتقد أن من المسلم به أن اليهود كانوا شعبا يعيش في اليهودية (بين القدس والخليل)، وأنه تم نفيهم من قبل الرومان سنة 70 ميلادية، ولكن حال ما بدأ النظر في الأدلة، اكتشف أن مملكتي داود وسليمان [في فلسطين] كانتا مجرد أسطورة، والأمر كذلك بالنسبة لفكرة المنفى.

في الواقع، لا يمكن تبيان معنى اليهودية دون المنفى، ولكنه عندما بدأ البحث في كتب التاريخ التي تصف أحداث المنفى، لم يجد أي منفى، ولا حدثا واحدا، ذلك أن الرومان لم ينفوا اليهود؛ بل الحقيقة أن اليهود في فلسطين كانوا بأغلبيتهم فلاحين، وكل الأدلة تشير إلى أنهم بقوا في أرضهم.

عوضا عن ذلك، يعتقد صاند أن هناك نظرية بديلة أكثر معقولية أو قبولا: المنفى أسطورة روّجها المسيحيون الأوائل لتجنيد اليهود في الإيمان الجديد، فقد أراد المسيحيون لاحقا أن تعتقد أجيال اليهود بأن أسلافهم تعرضوا للنفي كعقاب إلهي لموقفهم من المسيح.

المنفى والعودة

ولكن حتى لو لم يكن هناك نفي أو منفى، فكيف انتهى هذا العدد الكبير من اليهود إلى التناثر في جميع أنحاء العالم قبل أن تبدأ دولة إسرائيل الحديثة في تشجيعهم على "العودة"؟

يرى البروفسور صاند أنه في القرون السابقة للحقبة المسيحية واللاحقة مباشرة بها، كان التبشير بالدين اليهودي قائما وكانت اليهودية في أمس الحاجة إلى معتنقين جدد؛ وهذا مذكور في الأدبيات الرومانية لذلك الزمن.

ارتحل اليهود إلى مناطق أخرى بحثا عن "مهتدين"، لاسيما في اليمن وبين قبائل البربر بشمال إفريقيا، وبعد عدة قرون، تحول شعب مملكة الخزر في ما هو اليوم جنوب روسيا، بشكل جماعي لليهودية؛ ليصبح ذلك منشأ يهود الأشكناز بأوروبا الوسطى والشرقية.

يشير الدكتور صاند إلى حالة إنكار غريبة يعيشها معظم الإسرائيليين، فقد لاحظ أن الصحافة قد قدمت تغطية واسعة في الآونة الأخيرة لاكتشاف عاصمة مملكة الخزر المجاورة لبحر قزوين.

فموقع صحيفة يديعوت أحرونوت الأوسع انتشارا في إسرائيل، يعرض القصة بعنوان: "علماء الآثار الروس يعثرون على عاصمة يهودية فقدت منذ زمن طويل".

ورغم ذلك لم تهتم أي من الصحف بأهمية هذا الاكتشاف بالنسبة لروايات التاريخ اليهودي المعتمدة.

تاريخ من ورق

السؤال الآخر المترتب على رؤية الدكتور صاند للتاريخ اليهودي، كما يلاحظه هو ذاته: إذا كان معظم اليهود لم يتركوا الأرض المقدسة، فماذا جرى لهم؟

رغم أن ذلك لا يُدَرّس في المدارس الإسرائيلية، لكن معظم القادة الصهاينة الأوائل، بما فيهم ديفيد بن جوريون [أول رئيس وزراء لإسرائيل]، كانوا يعتقدون أن الفلسطينيين المعاصرين منحدرون من سلالة يهود المنطقة الأصليين، وأن اليهود قد اعتنقوا الإسلام لاحقا. يعزو الدكتور صاند إحجام زملائه الأكاديميين عن الاشتباك معه علميا إلى اعتراف ضمني من جانب العديد منهم بأن بنيان التاريخ اليهودي الذي يُدَرّس بالجامعات الإسرائيلية قد أقيم كبيت من ورق.

تعود مشكلة تدريس التاريخ في إسرائيل -كما يرى الدكتور صاند- إلى قرار اتخذ في الثلاثينيات بتقسيم دراسة التاريخ إلى تخصصين: التاريخ العام والتاريخ اليهودي. يفترض تخصص التاريخ اليهودي أنه بحاجة لحقل دراسي خاص نظرا لفرادة الخبرة اليهودية التاريخية!

ليس هناك قسم يهودي للسياسة أو العلوم الاجتماعية بالجامعات الإسرائيلية، إنما هو التاريخ فقط الذي يدرس بهذه الطريقة؛ وهذا ما أتاح للمتخصصين بالتاريخ اليهودي بالعيش في تحفظ وعزلة تحول دون تأثرهم بالتطورات الحديثة في البحث التاريخي.

تعرض صاند للانتقاد في إسرائيل؛ لأنه كتب في التاريخ اليهودي، بينما كان تخصصه هو التاريخ الأوروبي، لكن كتابا كهذا الكتاب يحتاج بالفعل مؤرخا مطلعا على المفاهيم القياسية المعتمدة في البحث التاريخي لدى الأوساط الأكاديمية في بقية العالم.