خبر تأملات في المشهد الفلسطيني ..طلعت رميح

الساعة 10:31 ص|07 فبراير 2009

    ـ الشرق القطرية 7/2/2009

ما الجديد في المشهد الفلسطيني الراهن، وأي واقع باتت تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، وإلى أين تسير أو كيف تتطور مستقبلا، في ظل المخاطر الحالة الراهنة. الأمر أبعد من صراع بين فتح وحماس أو بين حكومتي رام الله وغزة، نحن نشهد انقساما حادا في الحركة الوطنية الفلسطينية، متداخل مع حالة انقسام عربي وإقليمي ودولي حاد، فإلي أين تسير الحركة الوطنية الفلسطينية؟

(1)

في المشهد الفلسطيني الداخلي، صار الوصول إلى اتفاق يسمح للمعابر بالعمل لإدخال المساعدات وإنفاذ عملية الأعمار، نقطة صراع وخلاف فلسطيني – فلسطيني، بل صار الكل (الخارجي) يطلب من الفلسطينيين الاتفاق أولا، قبل مخاطبة الأطراف الأخرى، لوضع قواعد وأسس تعود المعابر للعمل على أساسها، ووصل الأمر حد مطالبة بعض الأطراف بعدم تسليم مخصصات الإعمار لأي طرف فلسطيني، والدخول مباشرة إلى غزة للإشراف على الإعمار أو تنفيذه.

لقد صارت "أولوية" الحوار والاتفاق حول حكومة فلسطينية أيا كان نوعها، موضوعة في مواجهة فتح المعابر وبدء الإعمار، كما صارت حواجز جديدة توضع في كل يوم في طريق الحوار، لتحول دونه أو لتعوقه، في ظرف لا وقت يمكن أن يضيع في حوارات جديدة قد تطول، بينما ضحايا القصف والعدوان يبيتون في العراء.

وفي ذات المشهد، باتت الأوضاع تندفع أكثر فأكثر باتجاه "التشدد من كلا الطرفين، على صعيد البدايات التمهيدية والمقدمات لتهيئة الأجواء للحوار أو الاتفاق، إذ طرحت حركات المقاومة ضرورة الإفراج عن المعتقلين من المقاومة ورموزها السياسية في رام الله، وهو ما ردت عليه تلك السلطة باتهامات بالقبض على مجموعات أو أفراد من حركة فتح، وفي إطلاق النار على أقدام بعضهم، وأن أحدهم ذهب مع مجموعات ملثمة ولم يعد.

لكن الأخطر في المشهد الفلسطيني الداخلي، هو تلك النقلة الأكبر والأخطر،حين أطلق رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) دعوته لتشكيل مرجعية أخرى جديدة للشعب الفلسطيني، تضم الفصائل التي ما تزال ممنوعة من دخول منظمة التحرير، وهو ما ردت عليه سلطة رام الله بالرفض وتشويه المقترح.الاقتراح أحدث فورة واسعة في الحركة الوطنية الفلسطينية، جعلت الأفكار والمواقف تتباين، ووصل الأمر أن اعتبر محمود عباس أن شرط الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، هو شرط لبدء أي حوار، وأن يطلب من حماس الاعتراف بهذا الوضع للمنظمة دون لبس أو إبهام، ليصر بذلك على عدم إدخال المقاومة في المنظمة، ويرفض أن يشكلوا مرجعية تخصهم وحدهم!

وهكذا، يظل الأسرى الفلسطينيون على حالهم في انتظار أن يخرج بعض منهم ضمن صفقة تبادل شاليط، كما يظل الشعب الفلسطيني يعاني القتل والجوع والحصار في غزة، وتتوسع المستوطنات وتهود القدس، رغم أن الشارع الفلسطيني يقف مناشدا الفصائل والمجموعات على فكرة الوحدة الوطنية.

(2)

واللافت، أن الوضع الفلسطيني قد صعد في درجة ارتباطه وتداخله مع حالة الانقسام العربي إلى نحو غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية منذ انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، بعد ظهور واستقلال الدول العربية.

لم تكن الحركة الوطنية الفلسطينية معزولة أبدا عن الحركات الوطنية العربية عبر التاريخ الفلسطيني. في الأربعينيات وفي مواجهة "العصابات الصهيونية" – قبل تأسيس الدولة كانت المواجهة هي بين الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية بشكل مشترك –المتطوعون العرب – ضد العصابات الصهيونية، وقتها لم تكن هناك حدود للمنع والرفض والمرور، ولذلك كان هناك قادة عرب يقاتلون في داخل فلسطين.وخلال حرب عام 48، وبعد تشكيل الدولة الإسرائيلية، دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين لتقاتل مع أهلها.بعد ذلك، تحولت المعركة حول فلسطين إلى معركة بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي، فكانت معارك وحروب 56 و67 و1973، إذ كانت الحركة الوطنية الفلسطينية، قد أصيبت بضربة قوية بعد حربي عام 47 و48، حيث كان نحو 800 ألف مواطن فلسطيني قد طردوا من أراضيهم ومنازلهم وهو ما يمثل نحو 60% من الشعب الفلسطيني.

غير أن تشكل منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، قد أعاد دور الحركة الوطنية الفلسطينية في الصراع والمواجهة العسكرية والسياسية مع إسرائيل،ولتدور دورة جديدة من الصراع صار اتجاهها الأبرز والأوضح (أو العام أيضا )،هو أن الحرب من أجل تحرير فلسطين، صارت تتحول إلى نمط من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية بالدرجة الأولى.جرت معركة عام 1982 حين العدوان الإسرائيلي على لبنان على أساس التحالف القائم بين الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، غير أن جوهر المعركة كان تدشينا لأول معركة فلسطينية -إسرائيلية، وهو ما تطور في ذات الاتجاه بعد انتقال المعركة لتجرى على الأرض المحتلة وفي داخل فلسطين منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي مثلت انتقالا للمعركة من خارج فلسطين إلى داخلها –الصراع على الأرض الفلسطينية مباشرة- كما هي مثلت على نحو ما حصرا للمعركة بين الحركة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل.

هذا الانتقال للمعركة من الخارج إلى الداخل، حمل معه عوامل تناقض متعددة، فمن ناحية كان قرار عقد اتفاق أوسلو هو نمط من تغليب الموقف الفلسطيني "المستقل" في إنفاذ ما تراه قيادة منظمة التحرير،ومن ناحية أخرى، كان القرار بمثابة بداية الانشقاق الكبير في الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ من جاء من الخارج وفق تلك الرؤية قد اصطدم بفكرة فلسطين الإسلامية لا الفلسطينية فقط، وبأن القضية في ثوابتها أكبر من فكرة الأرض التي يمكن المساومة عليها ضمن المساومات السياسية، وأن تطبيق أوسلو واختصار الأمر في الضفة وغزة، يتجاهل الدور والحقوق التي ترتبت على إقامة فلسطين، أي دور اللاجئين وحقوقهم أيضا.

وبين المرحلتين جرى انتقال آخر في مواقف ودور دول النظام العربي الرسمي.في المرحلة الأولى كان الميلاد والاستقرار للظاهرة الفلسطينية الحديثة، وفي ذلك ووفق الأوضاع السائدة في العالم العربي، كان التعامل مع تلك الظاهرة تعاملا متعددا، فهناك من دخل في صدام معها خشية تأثيراتها الداخلية –حالة الأردن وذروتها في عام 1970 ولبنان خلال الحرب الأهلية–ومنها من حاول إقامة روابط مع بعض التنظيمات دون غيرها، ووصل أمر البحث عن الدور والنفوذ للأقطار العربية في داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، أن جرى اختراق وتقسيم بعض تنظيمات المقاومة.

لكننا الآن نشهد حالة أشد وضوحا للدور العربي المباشر في العلاقة مع الحركة الوطنية الفلسطينية، من باب انقسام تلك الحركة، إذ يقف النظام الرسمي العربي منقسما على نفسه، وفق نمط الجبهات المتصارعة وفي كل جبهة قسم من المعبرين عن الواقع الفلسطيني، بما يدخل الحالة العربية والفلسطينية في حالة جديدة كليا، عن ما كان سائدا من قبل، والأهم أنه يدخل الصراع الفلسطيني –الفلسطيني، إلى حالة تتأثر سلبا وإيجابا بأوضاع النظام الرسمي العربي، بينما الفهم العام، هو أن حركة وفعل المقاومة، هو فعل شعبي بالأساس، لا يقيد نفسه بقيود أوضاع النظم الرسمية المقيدة بقواعد وموازين الوضع الدولي.

(3)

وحين دخل الانقسام في النظام الرسمي العربي، على أمر الانقسام في داخل الحركة الوطنية الفلسطينية (بشقيها المقاوم-والمساوم) كان النظام الرسمي العربي نفسه، فاقدا للقدرة على لملمة جراح نزاعاته من خلال آلياته الداخلية، بما جعله عرضة لدخول وتغول الدول الإقليمية التي شهدت حالات قوة واندفاع في الإقليم، فصار الانقسام الفلسطيني متداخلا مع النظام الرسمي العربي والوضع الإقليمي هو الآخر.

والأمر هنا ليس رفضا لدور دول إسلامية من خارج المنظومة العربية على خط ومفاعيل النظام الرسمي العربي، كما هو ليس تمسكا بنظام عربي بلي وتبعثر،بل نحن أمام توصيف لطبيعة تلك اللحظة التاريخية، التي نأمل منها أن يتحول النظام العربي إلى نظام إسلامي بدءا من حدود الإقليم، لكن الإشكالية أننا أمام حالة انقسام عامة فى المنطقة فى ثلاث دوائر متفاعلة منها الفلسطيني والعربي والإقليمي، وهو ما يعقد الحالة الفلسطينية ويجعل الشرخ والانقسام في داخل الحركة الوطنية الفلسطينية في محل التفاعل مع معطيات معقدة تجعل "الفاقد" من هذا الانقسام الداخلي أشد تأثيرا على القضية الفلسطينية بغض النظر عن التحيزات والصحيح والخاطئ فيما يجرى الآن، خاصة وأن القوى الدولية كانت وما تزال أحد اللاعبين في داخل حالة الانقسام في دوائرها الثلاث – كانت أمريكا وإسرائيل وأوروبا أحد اللاعبين في هذا الانقسام في فلسطين ولبنان والعراق والمنطقة كلها – ومن ثم فان القضية الأهم هنا، ليست قضايا الخلافات والاتهامات بخضوع هذا الطرف أو ذاك لامتلاءات أو مصالح هذا الطرف العربي أو الإقليمي أو الدولي، وإنما أن إمكانية توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية أو تهدئة صراعاتها، بات مرتبطا بأوضاع معسكرات ودوائر عديدة.

(4)

ولنقل أن الأخطر فيما يجرى هو أن هذا الانقسام والتقسيم، قد أصبحت له أسس أشد جذرية من كل حالات الانقسام السابقة التي شهدها عالمنا العربي أو الإقليم الذي نعيش فيه. إن ما أحدث النقلة التي شهدناها في حالة التخندق و الصراع المفتوح بين دول داخل النظام العربي , دون قدرة من آلياته على معالجة أوضاع الخلافات -انفلتت إلى حالة الصراع المكشوف - هو أن أساسا فكريا وسياسيا ومذهبيا قد وضع لهذه الخلافات , بما جعلها أشد جذرية من نظيرتها في فترات سابقه. كانت الخلافات العربية مرتبطة فيها بأنماط متباينة من المصالح "غير المستقرة" مع أطراف خارجة, أو بالمصالح الداخلية "الوقتية"، لاستقرار نظم الحكم خلال صراعاتها مع بعضها البعض.

(5)

وهنا جاءت فكرة تشكيل مرجعية فلسطينية لقوى المقاومة الفلسطينية لمواجهة حالة الاستبعاد التي عانت، منها إذ جرى استبعادها منذ ظهورها وحتى الآن من الوعاء الوطني الجامع للحركة الوطنية الفلسطينية –أي منظمة التحرير الفلسطينية-ومن حالة صياغة القرار الوطني على المستوى العربي والدولي، فكان أن أصبحنا أمام تطور نوعي في حالة الخلاف داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.

في واقع الحال، فإن ما جرى في أرض الواقع هو أن تشكل منظمة التحرير كان أسبق من ظهور حركات المقاومة الإسلامية بكافة فصائلها، لكن وضع ودور هذه الحركات قد نما وتطور إلى درجة لم يعد من الممكن معها استمرار سيطرة فريق من الحركة الوطنية الفلسطينية، على سلطة القرار الفلسطيني الخارجي دون الآخر، لا وفقا لنتائج تطبيق قواعد الديمقراطية، إذ حققت حماس أغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني ولا على صعيد قوة وقدرة المواجهة مع المحتل خاصة دور حركة الجهاد الإسلامي.لقد انتظرت القوى الجديدة طويلا أن تحصل على مقاعدها في منظمة التحرير لكن الأمر رفض صراحة حينا وتلاعب حينا آخر. لنصبح الآن أمام قضية هي الأعلى في الصراع والخلاف داخل الحركة الوطنية الفلسطينية باعتبار فكرة تشكيل مرجعية أخرى أعلى من قصة الانقسام بين حكومتي غزة ورام الله، إذ هي تأسيس لشكل تنظيمي جديد يضم المقاومين خارج فلسطين وداخلها، في مواجهة مرجعية أخرى لها من في الداخل ومن في الخارج.

هو انتقال كيفي، يأتي في مرحلة فرز المواقف والأطراف ويتداخل فيه ما هو فلسطيني بما هو عربي وإقليمي ودولي. والسؤال الآن هو هل نعود إلى وحدة الحركة الوطنية من خلال منظمة التحرير أم أن طرفا يريد أن يستمر في السيطرة عليها مع منع الآخرين من بناء مرجعية لهم وحدهم؟!