خبر في بعض الموت حياة ..علي عقلة عرسان

الساعة 05:36 م|06 فبراير 2009

أسير في الظلام، أمامي في المدى ألف شعلة وشعلة فضية اللون من شعل غزة وسواها، تتماوج في زرقة فضاء لا نهائي.. طريقي إليها دم ونظرات زائغة وقلب يعتصره الألم.. أتقدم في الطريق غير واثق من خطوي وأخاف أن تحط كل خطوة على لغم، يداي ترتعشان وقدماي تنغرسان في الأرض، أقتلعهما منها واحدة بعد الأخرى فتعاودان التسمّر في المكان، والشعل الفضية المضيئة تتراقص أمامي لتبين لي طريقي وتشجعني على السير.. تقترب مني، تضيء لي بعض مواقع خطوي، وتصيح بي: تقدم.. تقدم.. فأقف مسمّراً في الأرض.. تبتعد عني الأرواح وتغيب تاركة من حولي ظلام العصور وقهر البشر.. أنا في العتمة والأرواح في النور، أنا في مدى الخوف والأرواح في مدى الأمن، أنا في السجن الضيق والأرواح في الحرية والفرح.. أنا في الليل وهي تصنع النهار. يا لفداحة أن يخسر المرء نفسه ويفقد قدرته على التحليق في فضاء الحرية بإرادة قوية ووعي منير، ويا لفداحة أن يخمد ضوء روحه وتعشى بصيرته وينبت الخوف تحت كل خطوة من خطاه.

ألف شعلة وشعلة تنير طريقي إلى عالم مغاير، عالم فيه الحق قوة والحرية وطن والعدالة قيمة والانتصار لذلك كله انتصار للحياة ولكل بني البشر.. لكنني أعلق بوحل الأرض، قدماي تغوصان فيه، وجرأتي على تخطيه لا تتعدى أن أنظر إلى المشهد ببلاهة مدهشة وأطلب التغيير ولا أستطيع ترجمة الاختيار. من حولي يفيض الدم والقهر ويعيدان تموّج ألم الشعوب المقهورة في ذاكرتي ويدفعانه في دمي، القهر يعرش في دمي، لا أريد أن أدفعه كلاماً ملء الفم لأستريح منه بتسجيل مواقف كلام، أريد أن أعتّقه وأعايشه لأعرف كيف أتمرد عليه وكيف يتحول إلى إرادة فعل. ترى ما الذي يمنع أرواح البشر من التحليق في فضاء حر بعيداً عن طين القهر؟ أهو الجبن أم الخوف أم انعدام الإرادة أم الموت أم.. أم.. لا أعرف.. لا أعرف، تناديني الشّعل الأرواح، تنادي النائمين، كل النائمين أن استيقظوا لقد تجاوزت المأساة كل حد وتجاوز العدوان والتواطؤ على الحق وموت الضمير كل حد.. والنائمون يستطيبون النوم.. لا يقظة ولا رغبة في اليقظة.

الأرواح.. أرواح شهداء ومقاومين ومناضلين هم لحمي ودمي، والمشهد هو العالم، والطريق الذي يفضي إلى الحرية والكرامة والعدل طريق جهاد النفس وجهاد من أجل العدل بمواجهة الوحشية والقهر والظلم.. والكلام في بعض الموت حياة وفي بعض الحياة موت. يتدفق الوعي إرادة في كياني.. لكنني مسمّر في الأرض، وقدماي تغوصان في عمق الوحل، وعيناي ترقبان نمو القهر والذعر في العيون والدرب، وترقبان بعض أهلي شراذم تخدم ن يقتل بعض أهلي. يا للفجيعة التي تصدم كل خلية من خلايا جسدي بجدار.                                                 

أتألم وأنا أواجه العدوان والموت والفقد والجحود.. ولكن درس الحياة المر يتجسد أمامي.. ويعاودني سؤال يلازم روحي ولا يكاد يغيب عنها حتى يبزغ في فضائها ويشكل ظلال ذلك الفضاء، ويجدده قانون الحياة حين يطبِق بكل قوته وقسوته وظلمه على الأحياء؛ ولا أظنه سؤالاً جديداً لم يراود أحداً من قبل، بل أكاد أزعم أنه غزا كل نفس في لحظة صحو أو قهر أو يأس!! إنه سؤال الموت.. سؤال الحياة، أو سؤال الموت في جسد الحياة، والتماس العزاء بأي شكل كان لتستمر الحياة على نحو ما.. وهو سؤال أصوغه وأُلقيه بالطريقة القاسية المتحدية:

" مَن مِن الأحياء رأى حياً خالد الجسد في تلازمه مع روح إلى الأبد؟! ومن منهم يزعم أنه قد يكون ذلك الحي الخالد، أو أنه قادر على تخليص حيّ، مهما عزّ وسما، من براثن الموت؟! ومن ذا الذي لم يزره ذلك الجبار في عتمة ليل أو صحوة نهار، ليختطف عزيزاً عليه ويتركه كتلة من حسرة منقوعة بالدمع والحزن؟! ومن يدعي أنه قادرٌ على الهرب من حكم الله، ومن يستطيع يا ترى أن يأبق من محيط ملكه ليتخلص من نافذ أمره.؟! الذي لديه شيء من ذلك أرغب رغبة صادقة في التعرف إليه، وأتطلع بشوق إلى أن أرى وجهه لكي يخبرني خبره، فإنني إليه ناظر ولروايته منتظر ولكلامه مستمع؟!

لا أظن أن أحداً من بني البشر يملك وهماً أو يحكمه وهمٌ يبلغ به درجة الظن بأنه يملك خبرة ضافية كافية في هذا المجال، أو أن هناك من يتطلع إلى أن يصبح ذلك الشخص. فالموت محيط بالمحيط الذي يشكل البحر واليابسة، ويشمل الأشياء والأحياء، لأنه القانون الأقدم في الكون، وُجِدَ مذ وجدت الحياة، وهو ينازعها بقوة وقسوة في داخل النفس ويقيم جدلية معها في السيرورة والصيرورة.. فيبقى وتبقى، ويستمر الصراع.. تحت وطأة كابوس الموت الذي يدق بخطواته الدرب وراءنا في كل دقيقة من دقائق العمر ساخراً من حذرنا واحتياطنا ونزقنا ونزواتنا. يبقى وتبقى.. ربما ليظل لنا في العيش أمل وتمرّد على الظلم لقهر لوحشية، وشغف ينسينا مرارة الحياة وعبثيتها، ويوقد في نفوسنا شعلة الشوق والتوق لعالم خال من الهمجية والعنصرية والوحوش البشرية، ويسمح بتوازن النار والدم في كائن يجسِّد حضورُه وبناؤه العضوي تخلّق الموت من الحياة والحياة من الموت، كما يتخلَّق في روح ذاك الكائن اليأس من الأمل والأمل من اليأس. فسبحان الذي يخرج الحيَّ من الميت والميت من الحي ويكتب المقادير ويبرمها، وسبحان الذي خلقنا وجعل موتاً وحياة، وتطلعاً وتوقاً، وأملاً ويأساً، وسلوة وصحوة، لكي نتجرع كأس الحياة حتى الثمالة، وفي تلك الكأس ما فيها من مرارة القهر والوجد والفَقْد والعيش الضحل والظلم والإحباط، ومن حلاوة التجدد واللقاء على الحب والنشوة في انتصار يحققه الأمل والعمل على الظلم والقهر والبؤس واليأس.

جميلة هي الحياة، وجميل بقاؤنا المتجدد فيها انتصار لها على الوحشية والعنصرية والموت، إن في سجال الموت والحياة حكمة، وفي سجال الخير والشر حكمة، وفي وجود الموت وفعله أيضاً حكمة لقادر يدبر أمر الموت والحياة والأحياء والأشياء في الكون. وإذا ما أخذتنا العزة وزينت لنا نفوسنا أن نستطلع أمر الحياة في حال غياب مطلق للموت، فما الذي نتصوره من بعد لوضع الحياة وللكائنات فيها، ولوضع لإنسان من بين تلك الكائنات على الخصوص؟!

تخيلوا انتشار الأحياء في الأرض منذ بداية الخلق حتى يوم الناس هذا وانتفاء الموت، وما سيولده ذلك ويتركه من معطيات لدى الأحياء وفي الحياة ؟! تصوروا خلقاً لا يتخطَّفهم موت ولا خوف من موت، ولا يردعهم قانون في الحياة ولا حساب أو توعّد بعذاب بعد نشور من القبور، وارسموا في ظل ذلك صورة للحياة والأحياء وأنواع السلوك والتعامل وأساليب الأداء البشري.. ألا ترون الصهيونية والعنصرية والوحشية في تجسد رهيب يستدعي النضال ضده وتقديم بعض الحياة لتوهب للناس الحياة!؟ وتصوروا في ضوء ذلك كله حكمة القدرة الإلهية التي أوجدت الموت وأسراره وأوجدت بعثاً وحساباً من بعده!!.

إننا في حوض واحد محكومون بشرط بشري وبمصير بشري يسعيان سعياً حثيثاً ليحققا عدلاً في نهاية شوط هذه الدنيا.. قد لا يتحقق فيها، وليحققا مساواة بين الناس في الحياة قد لا تكون ممكنة بصورة مطلقة إلا أمام الموت؟!. أما الآخرة فهي كالروح علمها عند ربي، ولكننا نُعِدّ أنفسنا في هذه الدنيا لصلاح أمر نرجوه في الآخرة: "فمن يعمل مقدار ذرة خيراً يره، ومن يعمل مقدار ذرة شراً يره" و "كل نفسٍ بما كسبت رهينة".

يبقى للأحياء من الأموات الذين يعبرون مفازات طريق الحياة، يبقى لهم: عبرة وقدوة وذكرى وعظة وسيرة، ويبقى بينهم ما يتداولونه أو يتداولون حوله مما ترك الماضون إلى جوار ربهم.

لقد فقدنا أعزة علينا وأصدقاء لنا ومقاومين شرفاء دفعوا أرواحهم وراحة أسرهم ذوداً عن قضايانا وحماية لنا ولكرامتنا، وفقدنا زملاء جمعتنا وإياهم دروب الحياة وقرابة الحرف، منهم شيوخ الإبداع والتنظير في الفكر، ومنهم نقاد وباحثون وشعراء، خدموا الأجيال بصمت وإخلاص، وأثقلت كاهلهم الحياة بأعباء وهموم ومعاناة.. وحين نستعيد ذكراً وصورا، وتنتصب أمامنا قامة من يحمل دمه عل راحته ويلوك ألمه بصمت وصبر حتى تظن أنه أَلِف الألم ومرارة الصبر، وصار صورة من يملك شجاعة بدماثة ودماثة بشجاعة، ندرك أنه لن يتوقف سيرنا في هذه الطريق التي تستوعبنا جميعاً ونساق إليها جميعاً، كما ندرك كم يُلْحِق الأمواتُ بالأحياء من وجع يوغل في الأعصاب ويدوم طويلاً، وكم يلحق الأحياء بالأحياء من وجع يسكن الروح ولا يكاد يفارقها مدى الحياة، ويدفعها للانتصاف ممن ضيق عليها سبل الحياة.

   وغياب أولئك الأحبة وسواهم ترك فراغاً في ميادين عملوا فيها لا أظن أنه فراغ يملأ بيسر وسرعة، على الرغم من وجود عاملين ومجتهدين ومجاهدين؛ فأمثال هؤلاء الرجال ينحتون حضورهم بالعمل في أخاديد الزمن، وتبقى الطريق التي يسلكها تابعوهم صعبة على من لا يعطي للنضال والعلم والحرف عمره وجهده وضوء عينيه وشوقه وتألق روحه وتوقه للحرية.. وأولئك قليل.

غاب المجاهد والباحث والمفكر والمبدع منهم بعد أن قضى أياماً جلّها في عمل مجهد بل مرهق وتنكر لجهده وجهاده مثير للحزن، وحين نفقد هذا النوع من الرجال نحزن ونأسف، ويحق لنا أن نحزن ونأسف، ولكن عزاء كبيراً يبقى لنا فيما سجلوه من انتصار للحق وما تركوه من أثر لمن يأتي بعدهم ويسير على طريقهم، وفيما يجدد حضورَهم بين ظهرانينا قدوة لمن يقدّر معنى القدوة الحسنة والعمل الصالح، ولمن يرتفع بالاعتراف بفضل الآخرين. ولا نذكر من يرى ألا ذكر أو ارتفاع له إلا بتشويه صورة الآخرين أو تغييبهم والتعتيم على مواقفهم وشجاعتهم وأدائهم، فصاحب ذلك النوع من الرأي والأداء يعلن في كل دقيقة وفي كل فعل عن قصوره بدلائل فعله الذي يترجَم في عبارة واحدة: " أخلوا لي الساحة لأبرز، أو لكي أُرى" ، إنه يعرف جيداً بأنه أدنى وأضعف من أن يبرز أو يُرى مع وجود آخرين في ساحة النضال والفعل والرؤية ومع وجود معايير سليمة للقيم والأفعال والإنتاج والإبداع.

كثيرة هي الأسماء التي تُقرع لها طبول الدعاية وتتشمرخ بالادعاء في فضاء بلادنا في هذا العصر بالذات، ويتعالى صوت النفير لها منذ الولادة إلى ما بعد الموت، ولكنك إذا ما عدت لها عودة الراغب في المعرفة والاستفادة والاقتداء.. ينفتح لك قبر يزوبع الرعب في روحك، ويزيدك إفلاساً على إفلاس إن كنت ممن يرغبون في الاستزادة من قدوة حسنة ببمواقف ومبادئ وعلم ومعرفة وخُلُق وقيم وضال، والتخلص من ضروب الجهل والذل والإفلاس والفساد والجبن!! ولا يعفيك هربُك من أولئك: من جهلهم المتعالم وعمالتهم المفضوحة، ومن طنين دبابير أذنابهم ومريديهم؛ لا يعفيك هربك من ملاحقة الضجيج لك حتى في نومك وربما في موتك، فهذا النوع من الادعاء الشرس لا يصون بقاءه إلا بالمزيد من الادعاء الفارغ الشرس والخداع والعدوان على الشرفاء والحقيقة والقيم.. ومن أسف أن معطيات الحياة ووقائعها تشير إلى السماح بالكثير الكثير من هذا الطنين وتمد لأصحابه مدَّا!! ولكن مثل هؤلاء يشكلون عارض النضال والمعرفة قياساً إلى الباقي والراسخ منها، كما يشكل عرَض الدنيا بالنسبة لزاهد فيها محب لخير الزاد وخير العمل وخير الذكر وباقيه.. عامل غير عابئ بما يزيّف المزيفون ويرجف المرجفون؛ وبما يشوّه أهل احتراف الافتراء والتشويه والتزييف؛ وتراه هادئاً واثقاً.. مردداً في دفء روحه وسكينتها قوله سبحانه: ".. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.."، قانعاً من ضجيج المتعلقين بحرية الفوضى أو المتعمشقين على شجرة الحرية والبطولة، بالعزوف عن زهوة الرغوة في رأد الضحى، ليتعلق بجوهر الحياة الحق الذي يشع في جوف الظلمة: العمل بشرف والتضحية بسمو والحرية بمسؤولية، تلك الحرية التي عرّفها صوفي بقوله: "الحرية أن تكون لله عبداً ولمن سواه نداً".

لقد فقدنا مقاومين وأبرياء وأصدقاء وزملاء بقي لهم في نوفسنا ذكرٌ طيب كما بقي لبعضهم حقٌ علنا لن نفيه إلا بتحقيق أهدافهم والسير على الطريق التي شقوها لنا بجهادهم وجهودهم وتضحياتهم. وبعد فإنني أقول في كل من أولئك السابقين الأرفع مكانة وسمو نفس وقدر وقدرة، وفي الذين يعطون دونما انتظار "لإنصاف" وتكريم ممن يمتهنون الإزراء بكل إنصاف وتكريم، أقول لكل منهم وفيهم ما قال الرضي أبو الحسن:

"وسَمَتْك حاليةُ الربيع المُرْهِم   

        وسَقتْك ساقيةُ الغَمَام المُرْزِمِ

سبعٌ وتسعون اهتَبَلْن لك العدا  

        حتى مضوا وغَبَرْت غير مذمّم

لم يلحقوا فيها بشأوك بَعْدَما     

        أَمِلوا فعاقهمُ اعتراضُ الأزْلمِ

إلا بقايا من غبارك أصبحت   

        غُصَصَاً وأقذاءً لعينٍ أو فمِ

إن يتبعوا عَقِبَيْكَ في طلب العلا        

        فالذئب يَعْسِل في طريق الضَّيْغَمِ"