خبر جدل عربي مستعاد حول حرب أخرى ..د. بشير موسى نافع

الساعة 10:46 ص|29 يناير 2009

ـ القدس العربي 29/1/2009

أثناء حرب صيف 2006، ثار جدل عربي حول أسباب الحرب وآثارها ومن يتحمل مسؤوليتها. وعندما انتهت الحرب، ثار جدل آخر حول النتائج ومن المنتصر. ويكاد الجدل حول الحرب على قطاع غزة، والمستمر بعد إعلان وقف إطلاق النار، لا يختلف في مقولة واحدة عن جدل الحرب على لبنان.

في أغلب جوانبه، هذا جدل غير مسبوق، على الأقل في سياقه العربي. حرب حزيران/يونيو 1967، مثلاً، لم تتسبب في مثل هذا الجدل الانقسامي، بالرغم من أن نتائجها لم تقل وطأة عن نكبة 1948. ببعض من الاختلاف، اتفق قطاع واسع من أهل الرأي والمؤرخين العرب على أن عبد الناصر قد خدع إلى الحرب، وأن قيادته العسكرية خذلته، وأن الحرب التي انتهت بكارثة كبرى لم تكن منفصلة تماماً عن صراع الحرب الباردة الممتد من الهند الصينية إلى الشرق الأوسط. في حرب 1982، لم يكن ثمة خلاف حول أن حكومة بيغن شارون خططت طويلاً لغزو لبنان وسحق الوجود الفلسطيني المسلح فيه، وأنها استغلت حادثة إطلاق مجموعة تابعة لأبي نضال النار على السفير الإسرائيلي في لندن لتنفيذ المخطط، الذي حمل هو أيضاً أبعاداً دولية وإقليمية تتعلق بتوازنات الوضع اللبناني والعالمي وتدافعات الحرب الباردة.

ربما يقال أن حربي 2006 و2008- 2009 دارتا في ظل تدافع بين دول عربية رئيسية والجار الإيراني، وفي ظل انقسام عربي عميق، وأن هذا الانقسام لم ينعكس على الوضع الفلسطيني وحسب، ولكن أيضاً على التصور العربي للحرب. الحقيقة، أن حربي 1956 و1967 جرتا كذلك على خلفية من انقسام وتمحور عربيين، بدون أن تطلقا مثل هذا الاختلاف الواسع في رؤية الحرب وما تعنيه، أو في رؤية النتائج التي نجمت عنها. ولأن المسألة الفلسطينية احتلت، وما تزال، موقعاً مركزياً في تصور العرب لماضيهم ولأنفسهم ولخياراتهم للمستقبل، فإن الانقسام حول الحرب يواكبه إعادة كتابة للتاريخ، على هذا النحو أو آخر. ثمة أصوات ادعت بأن الفلسطينيين لم يقاوموا الاحتلال الأجنبي والاستيطان الصهيوني قبل النكبة، في إشارة استهجان مستبطنة للالتفاف العربي حول القضية الفلسطينية، ومحاولة للتقليل من الدلالات الاستراتيجية لوجود الدولة العبرية في فلسطين. وعندما يعترف بحجم المقاومة الفلسطينية في عهد الانتداب، يقال بأن ثورة 1936 1939 كانت سبباً رئيسياً في إضعاف التصدي العربي الفلسطيني لقيام الدولة العبرية في 1948. وخلف ذلك كله، ثمة استدعاء لبعض الكتابات العسكرية وكتابات الحروب غير النظامية، للتوكيد على أن قوى المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، بالطبع، دفعت الأوضاع في قطاع غزة إلى مغامرة غير محسوبة، وأن هذه المغامرة انتهت بحرب خاسرة ومدمرة. هذه بعض ملاحظات سريعة حول هذا الجدل.

المسألة الأولى في هذا الصراع المستمر منذ زهاء القرن أن الأمم لا تختار دائماً عدوها أو طبيعة التحدي الذي تواجهه. ثمة حالات، مثل صراعات القوى الأوروبية أو الحرب الباردة، اختارت فيه الأمم أو الدول عدوها عن سابق تصميم وتصور. في حالات أخرى، مثل الاحتلالات التي فرضها المشروع الإمبريالي في مرحلتيه: الميركنتالية منذ القرن السادس عشر، والرأسمالية في القرن التاسع عشر والعشرين، لم يكن هناك من خيار أمام الشعوب التي أخضعت للاستعمار. كل الشعوب التي فرض عليها التحدي الإمبريالي قاومت السيطرة الأجنبية، ولكن ليس كلها استطاع حسم التحدي لصالحه. نجح الاستعمار الاستيطاني في مرحلته الأولى، كما في أمريكا وأستراليا، في إيقاع الهزيمة بالشعوب الأصلية وفرض سيطرته الكاملة والقاطعة على البلاد. ولكن حركات التحرر الوطني كانت هي المنتصرة في المرحلة الإمبريالية الثانية، حتى في مواجهة أشد الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية بشاعة، كما في الجزائر وجنوب إفريقيا. في فلسطين، ثمة حالة استعمارية فريدة، سواء من حيث طبيعتها، من حيث الأسس التي ارتكزت إليها، أو من حيث الدعم العالمي لها. إن لم يكن الفلسطينيون قد اختاروا هذا الصراع، أو أياً من عناصره، فقد اختاروا بلا شك مواجهة التحدي. وليس ثمة شك في أن الالتفاف العربي والإسلامي حول فلسطين، الذي أخذ في التعاظم منذ بداية الثلاثينات، لم يكن نتاج مؤامرة حاذقة من بعض الفلسطينيين، بل حصيلة موضوعية لطبيعة الصراع على فلسطين وأبعاده الثقافية والاستراتيجية.

عندما فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، مصحوباً بسياسة الوطن القومي اليهودي، كان نظام القوى العالمي في أقسى لحظاته اختلالاً، بعد أن أوقعت الهزيمة بكل من ألمانيا والدولة العثمانية. وبالرغم من الثورات الفلسطينية المتتالية، بما في ذلك ثورة 1936 39، فإن النظام الذي فرض على الفلسطينيين لم يكن عادلاً من أساسه، بل كان مصمماً لتوطيد أقدام مجتمع المستوطنين اليهود، مؤسساتياً وعسكرياً، بينما يظل الفلسطينيون بدون أطر تمثيلية - سياسية ولا أدوات قوة فعلية. نظام الانتداب هو الذي مهد الطريق لقيام الدولة العبرية، وعندما قررت لندن وضع نهاية لنظام الانتداب لم تكن المواجهة بين الطرفين المتصارعين متكافئة بأي حال من الاحوال. ارتكب الفلسطينيون أخطاء، بالطبع، وكان الحشد العسكري العربي في مجموعه أقل بكثير من الحشد الإسرائيلي للدولة الوليدة، ولكن السبب الرئيسي للخلل الفادح في ميزان القوى يعود إلى الخلل في نظام الانتداب، الذي كان في أصله تجلياً لخلل ميزان قوى عالمي.

في 1967، وقعت فلسطين برمتها تحت الاحتلال، بدون أن يكون الفلسطينيون طرفاً في المواجهة. ولكن ما يجب أن يوضع في الاعتبار أن هزيمة 1967 لم تمنع الفلسطينيين من النهوض من جديد لمنع إلحاق الضفة والقطاع بالدولة العبرية، أولاً بقيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ نهاية الثمانينات بمشاركة كبيرة من التيار الإسلامي، ثم بدور رئيسي للإسلاميين بعد تراجع دور فتح والقوى الوطنية. لقد نجم عن تشكيل سلطة الحكم الذاتي حالة من الانقسام الفلسطيني الداخلي، كانت كامنة لبعض الوقت، ولكنها سرعان ما صعدت على السطح بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية قبل ثلاثة أعوام. والحقيقة أن الانقسام الفلسطيني الداخلي ليس شأناً جديداً ولا طارئاً، ولكن الانقسام هذه المرة يختلف عن ذلك الذي عاشته الحركة الوطنية في السبعينات والثمانينات. فكما أدى حلم السلطة والحكم في حقبة الانتداب إلى انحياز طرف فلسطيني إلى جانب الطرف الآخر من الصراع، كذلك أدت مكاسب السلطة والحكم إلى أن ينتقل جناح فلسطيني إلى مربع للصراع أقرب إلى الدولة العبرية منه إلى المصالح الوطنية الفلسطينية. وما فاقم من وضع قطاع غزة خلال السنوات الثلاث الماضية كان الانقسام العربي.

وقف قطاع غزة، وإلى حد كبير، منفرداً في هذه الهجمة، ولكن اللوم في عزلة القطاع ووقفته المنفردة لا يجب أن يقع على قواه وأهله، بل على الذين فرضوا عليه الحصار، الذين قرروا من البداية، فلسطينيين وغير فلسطينيين، أن على القطاع أن يدفع ثمن قيادة حماس لشؤونه، بعد إخفاقهم في إيقاع الهزيمة بحماس عسكرياً. في كلمته أمام قمة الكويت، قال الرئيس عباس، الذي لا يمكن أن يتهم بتعاطفه مع حماس، أن الهجمة الإسرائيلية على غزة كانت تعد منذ شهور. وإن كان هذا صحيحاً، فإن الربط بين الحرب وبين عدم تجديد الهدنة والرد على الاعتداءات الإسرائيلية بإطلاق الصواريخ ليس صحيحاً. ولكن حتى إن كان الربط صحيحاً، فكيف يمكن مطالبة قطاع غزة بالصبر على تهدئة كان يفترض من البداية أن يواكبها نهاية للحصار، وكيف يمكن مطالبة الفلسطينيين في القطاع بعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية؟ وليس صحيحاً أن الدمار الهائل وعملية القتل المنهجية التي ارتكبها الإسرائيليون هي أمر جديد. كل الإمبرياليات قامت على العنف والمجازر، ودائرة الموت والدمار لا يمكن أن تكون المسوغ لمقولة 'المغامرة غير المحسوبة' التي ترمى في وجه الجانب الفلسطيني في غزة. في يوم واحد، قتل الفرنسيون أكثر من ثلاثة وأربعين الفاً من الجزائريين، والحركة الوطنية الجزائرية في بداياتها. وفي حرب الاستنزاف، تقبل عبد الناصر تدمير كل مدن القناة، وتهجير كل من تبقى من سكانها، ليس من أجل دحر الإسرائيليين، ولكن من أجل إعادة مصر إلى خارطة القوة فقط. ولم يقل أحد حينها، ولا حتى المؤرخون بعد عقود، ان الحركة الوطنية الجزائرية قامرت بحياة الشعب، أو أن عبد الناصر ارتكب مغامرة غير محسوبة.

في النهاية، ما قام به الفلسطينيون في قطاع غزة كان الوقوف في وجه هجمة إسرائيلية أخرى كما وقفوا طوال القرن الماضي. وقوف قطاع غزة أمام تحدي فرض الحصار وطوال أيام الحرب لا يختلف، من ناحية القرار، عن الوقوف الفلسطيني أمام جيش الإمبراطورية البريطانية في الثلاثينات، عن الوقوف في معركة الكرامة في 1968، عن الوقوف أمام غزو لبنان وحصار بيروت في 1982، والوقوف أمام إعادة احتلال الضفة الغربية في 2004. معركة غزة هي واحدة أخرى في سياق طويل، بدأ باتخاذ الفلسطينيين قرار مواجهة تحد لم يختاروه. وإن كان لغزة ما تضيفه إلى هذا السياق الطويل فهو التوكيد على التحول الذي شهده الصراع العربي الإسرائيلي: أن الإسرائيليين لم يستطيعوا تحقيق نصر واحد منذ 1967، لا أمام الجيوش النظامية ولا أمام القوى الشعبية وغير النظامية.