خبر هل ستنتصر غزة في السياسة كما انتصرت في المقاومة؟ ..راشد الغنوشي

الساعة 05:43 م|28 يناير 2009

ـ الجزيرة نت 28/1/2009

قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم"

انتهت إلى حين الحرب على غزة بصمود عجيب حال بين العدو وتحقيق هدف من أهدافه، فارتد على أعقابه، وذلك هو النصر المبين. الذي جعل لغزة حرية لا تتمتع بها مدينة أخرى في الضفة بل ربما في المنطقة. وجاء دور السياسة لترجمة وقائع الأرض، فهل ستنجح المقاومة على الطاولة كما نجحت في الميدان؟

1- لا أحد مهما بلغت عدوانيته يقدم عل اتخاذ قرار الحرب هجوما -دون تردد وتدقيق في حجم الأخطار التي تنتظره- إلا ثمنا لأهداف عجز عن الوصول إليها بالسياسة. ولا يخرج الكيان الصهيوني عن هذه القاعدة رغم قيامه وبقائه على الحرب بل على قدرته على ردع وترهيب كل القوى العربية والإسلامية القائمة أو المحتملة، بالحؤول دونها وبين اكتساب القدرة على تحقيق أي صورة للتوازن معه، باعتباره قاعدة متقدمة لمشروع الهيمنة الغربية على المنطقة حارسا لمصالحها، مستحقا على ذلك الأساس للرعاية والدعم الضروريين.

ومعنى ذلك أن أمن هذا الكيان المسقط على المنطقة ووزنه يقاسان بقدرته على البطش بكل قوة في المنطقة قد تحدثها نفسها بمجرد الاستعصاء وامتلاك الإرادة المستقلة فكيف بمهاجمته، بما يفرض ضرورة أن يظل كل محيطه كيانات ضعيفة ممزقة هي بالقياس إلى قوته في حكم المناطق المفتوحة والمدن الساقطة أي فاقدة لمقومات الدفاع عن نفسها لو هاجمها، وهو ما يفسر ضيقه الشديد بكل محاولات التوحّد في محيطه أو التسلح. ففي حرب تأسيسه بطش بالجيوش العربية مجتمعة، وكان جيشه أكثر عددا أو أفضل عدة . وفي حرب 67 كرّ عليها مرة أخرى أشد فتكا.

2- ورغم أنها كانت الحرب النظامية الأخيرة التي حقق فيها مثل ذلك النصر الساحق، فإن الملفت أن حرب رمضان (أكتوبر 1973) -رغم أن الجيش المصري قد استعاد زمام المبادرة ودحر العدو، إلا أن هذا الاخير نجح في أن يحقق بالسياسة ما عجز عنه بالحرب، فارضا في النهاية هيمنته على النظام العربي، من خلال الشروط التي قبل بها الطرف المصري- أخرجت أهم دولة عربية، وحدها المؤهلة لقيادة المنطقة وتوحيدها لمواجهة الكيان الصهيوني، من معادلة الصراع معه جملة، بل انقلبت من إستراتيجية تحرير فلسطين من الاحتلال إلى إستراتيجية قيادة المنطقة للتطبيع معه، قابلة بشروط مجحفة على تسلحها وعلى سيادتها في سيناء وعلى علاقاتها بمحيطها العربي، فاحتلت بيروت، دون أن تحرك الشقيقة الكبرى ساكنا.

وها هي سعيدة بدور الوسيط بين حركة المقاومة وبين العدو، بل الوسيط المتحيز للطرف الصهيوني، وللطرف الفلسطيني المتعاون مع المحتل لا للمتشابك معه.

3- إن هذه النقلة للنظام العربي من إستراتيجية تحرير فلسطين إلى إستراتيجية قبول التطبيع معه بالجملة وهي الإستراتيجية الوحيدة التي يجتمع عليها النظام العربي قد أسست لها، لا هزيمة 67 على فداحتها وإنما انتصارات حرب العبور التي نجح فيها العدو المنهزم أن يحصل على طاولة المفاوضات ما عجز عنه في ساحة الوغى مستفيدا من هشاشة القيادات العربية وتخاذلها في مواجهة الضغوط الخارجية الأميركية.

وكانت تلك آخر حرب نظامية في مواجهة العدو ترجمتها ترجمة سيئة جدا بل كارثية اتفاقيات كامب ديفد التي جعلت دولنا ومدننا في حكم المدن والدول الساقطة حربيا أمام العدو الصهيوني.

4- غير أن الشعوب لم تستسلم، فقامت منظمة التحرير بمحاولة جادة لملء الفراغ، مستفيدة من أجواء الحرب الباردة، واجدة قدرا من الدعم من النظام العربي، لم يخل من استدراجها نهاية إلى مستنقع التطبيع وتوريطها في ضروب من الفساد والتشقق، أفضى بأكبر وأغنى حركة تحرير -في كارثة أوسلو- إلى مجرد غطاء للاحتلال لتسويقه إلى العالم وتوظيفها حزاما أمنيا لإجهاض كل محاولة للمقاومة، داخل فلسطين وحتى خارجها(كان مندوب المنظمة في تونس يكتب التقارير عن الحركة الإسلامية في تونس لفائدة الاستخبارات).

5- ومع ظهور الصحوة الإسلامية لتملأ الفراغ الأيديولوجي الذي تركته الأيديولوجيات العلمانية وانفجار الثورة الإسلامية في إيران، انتقلت راية التحرير إلى التيار الإسلامي شيعيا (حزب الله) وسنيا (حماس والجهاد)فكان الدعم الشعبي لهذا التيار أوسع وأعمق بسبب نفاذ خطابه إلى المخزون القيمي والعقدي والرمزي للإسلام وامتداد أمته في العالم، وهي في حالة صحو ونشور، بما انتقل بالمقاومة الشعبية من الطور النخبوي الفصائلي إلى طور المقاومة الشعبية المتجذرة والمنغرسة في أعماق النفوس وفي أدق الزواريب والإحياء الشعبية، يستوي في التفاعل مع ثقافة المقاومة ورموزها، الطفل وربة البيت والشاب والعجوز، والمتعلم وغير المتعلم، بما يجعل المقاوم بالمعنى الضيق أي حامل السلاح ليس إلا جزءا صغيرا جدا من مجتمع مقاوم، هو يسبح داخله كالسمكة في البحر، يعيش مع أهله عيشتهم في مخيماتهم ومساجدهم، يرونه تجسيدا لمثلهم وقيمهم، بما يؤهلهم لحمل أمانة المقاومة وبذل كل التضحيات والصبر على كل الآلام الناتجة عن المقاومة والصمود، لم تختلف عن الفلسطينيين إلا في الشكل ردود أفعال نساء وأطفال الجنوب اللبناني وهم يقفون على أنقاض بيوتهم المدمرة بعد أن هدمها الاحتلال على رؤوسهم، فإذا سئلوا كان جوابهم "كرمال السيد حسن" أو فداء له، بينما نساء وأطفال غزة في حال مماثل وأسوأ ، هذه الأيام، يرددون كلمة تجري على لسان الجميع، حتى الأطفال "حسبنا الله ونعم الوكيل" رافضين أي هجرة أخرى باحثين في أنقاض بيوتهم عن شيء بقي صالحا للاستخدام ، مؤكدين هذه بلادنا هذه دولتنا، ولن نغادرها" إنهم صامدون منتصرون.

وعلى الرغم من كثرة الصحفيين السائلين لم يلتقط أحدهم كلمة تأفف صدرت عن طفل فقد كل شيء، أو عجوز جرد دفعة واحدة من كل أفراد عائلته، لم تسمع كلمة تأفف وحتى عتب أو لوم للمقاومة لهنية أو للزهار أو لمشعل.

أليس هذا هو النصر عينه؟ وأي نصر على عدوك أكبر من أن تنزع من قبلك الخوف منه. أليس هو قد داهم غزة وهو على يقين من أنها ليست عدوا سهلا رغم حصار السنين الذي فرض عليها من الأقرباء والأعداء على حد سواء، من أجل -كما ذكر صحفي صهيوني- "الاستشفاء من الجرح اللبناني" فزادهم الله مرضا، أي استعادة قدراته الردعية التي فرضها على دول المنطقة ومدنها التي غدت في حكم الساقطة عدا ما انتزعت المقاومة في لبنان وفي فلسطين من قوة ردع مضاد من بين مخالب الأسد، مما فرض عليه توازنا للرعب، فلا يقدم على الدخول عليهم واقتحام ساحاتهم إلا بإعلان حرب شاملة لا يدخر فيه سلاحا جائزا أو محرما إلا استخدمه ولا خلقا من أخلاق الحرب والإنسانية إلا انتهكه. وفي الحالتين لم يظفر بطائل، بل ولى الأدبار تلاحقه صواريخ المقاومة.

6- والتجأ العدو في الحالين إلى أوليائه الغربيين لمساعدته على إخراج هزيمته لدى شعبه إخراجا مناسبا. في الأولى أتى بقرار من مجلس الأمن لإقامة حارس على حدوده الشمالية يحميه من المقاومة بينما كان قبل هزيمته يرفض أبدا إيكال أمنه إلى أي قوة أخرى.

وفي حال قلعة غزة قلعة الكرامة والعزة والنخوة، سارع إلى الولي الأميركي ليعود منه إلى شعبه بصك تأمين يمنع تسليح المقاومة مجددا، وذلك بعد أن فشل النظام المصري في انتزاع تعهد مماثل من قادة المقاومة. وكل ذلك يأتي في سياق واحد هو الترجمة السياسية للحرب المجنونة التي شنها الاحتلال على مدينة غزة، فاستعصت وصمدت وفرضت عليه حربا من أطول حروبه دون أن يتمكن رغم ما أحدثه من دمار في المباني وفي الأطفال والنساء أن ينال ذرة من صمود النفوس وانتصارها أو الوصول إلى عمق المدينة، بل ظل كما ذكر موشي علون أحد عسكرييهم الكبار "ظل الجيش يدور حول نفسه" ما إن يتقدم خطوة نحو عمق المدينة حتى يضطر إلى التراجع.

7- وعلى الذين يشككون في هذا النصر المبين ملوحين بكثرة الضحايا -وكأنهم لا يخاطبون أمة مسلمة الموت في سبيل الله أسمى أمانيها، وكأنهم لم يقرؤوا سطرا من تاريخ كفاح أمتنا وغيرها من الأمم وما قدّمت من ملايين الأرواح على أعتاب تحررها- أن يتخيلوا كيف سيكون حال الأمة لو أن العدو انتصر فعلا وسقطت غزة كما هي مدن الضفة؟ كيف لو رجع المجرم باراك عائدا من غزة مظفرا يجر إسماعيل هنية والزهار وقادة المقاومة مكبلين وراءه ومعه جنديه الأسير مكللا بالغار معلنا ذلك في حفل بهيج؟ لا شك في أنها ستكون كارثة قومية وإسلامية وتحولا في موازين القوة في المنطقة.

وهذا ما كان يهدف إليه الثالوث المجرم الذي قاد الحرب والمشاركون والمتواطئون، لا سيما والانتخابات على الأبواب وأهم شعاراتها التنافسية مدى الإثخان في المقاومة. وواضح اليوم أن حكم الرأي العام الإسرائيلي سلبي على إنجازات الحرب، لصالح المعارضة. كما أن الكيان أراد أن يستقبل إدارة أميركية جديدة متوجسا من مدى حماسها لسياساته، فأراد أن يبعث لها برسالة واضحة "إسرائيل القوة الوحيدة الرادعة في المنطقة التي يعتمد عليها.. أما حماس فقد أنهيناها، وسننهي كل عدو لنا ولكم في المنطقة".

8- هناك من "العرب والمسلمين" من كان يتمنى سقوط غزة، ومعناه أن جزءا من الأمة لم يعد منها -قد تصهين- فربط مصيره بالمشروع الصهيوني. وللأسف يمكن الاعتراف المر بأنه ليس بعيدا أن يكون 1-5% من الأمة قد انفصلوا عنها، ويصدق فيهم قوله تعالى"إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يفرحوا، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا".

9- الفارق بين غزة ورام الله: هل من عين باصرة يمكن ألا ترى الفرق بين غزة الحرة وبين رام الله وبقية الضفة الغربية إن لم تكن كل المدن العربية على نحو ما؟ أو ليس جيش الصهاينة واستخباراتهم يجوبون مدن الضفة ليل نهار يعتقلون من شاؤوا ويقتلون من شاؤوا ويصادرون ما شاؤوا دون أن يحرك ساكنا أكثر من مائة ألف من الوحدات الأمنية "الفلسطينية".

أوليس رئيس السلطة قد اعتذر عن عدم حضوره مؤتمر الدوحة بصعوبة حصوله على إذن بالخروج في وقت سريع؟ أما يخجل هؤلاء من تلقيب أنفسهم بألقاب السلطة والدولة: رؤساء ووزراء؟ والحق أن فكرة الدولة أخبث وألعن فكرة طرحت في تاريخ الكفاح الفلسطيني. تحتاج لوطن محرر لتقيم عليه دولة. أما في الوضع المسخ في فلسطين فالصورة مقلوبة: سلطة على وطن محتل.

كانت البداهة تقتضي أنه حيث هناك احتلال فلا حديث مشروعا إلا عن مقاومة وتحرير. ولولا أن الجهاز الأمني الذي أقامه الصهاينة على الضفة والقطاع وأضفوا عليه لقب السلطة قد سارع إلى القيام بوظيفته التي تأسس من أجلها وهي مصادرة المقاومة لما جاز لحركة المقاومة حماس المنافسة على هذه "السلطة" لوقف استخدامها لقمع الشعب ومصادرة المقاومة وفاء لعهد الاحتلال. يصدق في مثل هذه السلطة وألقابها الفارغة وصف شاعر الأندلس لحال ملوك الطوائف"ألقاب مملكة في غير موضعها، كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد".

هل يمكن مقارنة رام الله وبقية مدن الضفة بغزة أرض الكرامة والعزة حيث استخدمت دولة الاحتلال نصف قوتها من أجل اقتحامها ثم لم تجد إلا أن ترتد عنها تجر أذيال الخيبة والعار؟ كلا .. الفرق بيّن جلي بين مدن ساقطة في يد الاحتلال يجوس خلالها ليل نهار وبين المدينة المحررة.

الفرق بينهما لا يعود إلى طبيعة السكان فكل مدن فلسطين وكل مدائننا تملك القابلية التي أفصحت عنها غزة لو توفرت لها الشروط المناسبة، "معادلة النصر= القضية الواضحة + ثقافة المقاومة الشعبية + الحركة والقيادة التي تربي الناس على ذلك وتقودهم + توفير ما هو متاح من الأدوات". القيادة في المحصلة هي التي صنعت الفرق الأساسي وإلا فبقية الشروط متوفرة هنا وهناك.

هذه هي المعادلة التي انتصرت وتحررت بها كل أوطاننا وأوطان كثيرة تعرضت للاحتلال، صنعت ميزان قوة روحي ثقافي مقاوم في مواجهة أعتى الأسلحة وأقوى الجيوش، فاستعصت عليها ثم هزمتها فولت الأدبار.

10- إن معادلة النصر التي تحققت في الميدان كانت تدور من ورائها في الوقت ذاته معركة أخرى هي الترجمة السياسية التي كانت مصر طرفا في إدارتها ولا تزال، فهل ستصمد المقاومة على طاولة المفاوضات فتنجح في تحويل صمود الدماء والأشلاء والبلاء العظيم إلى كسب سياسي ينتزع مطالب المقاومة التي استماتت دونها وأقدمت على عظيم التضحيات ولم تتنازل عنها. ذاك هو المأمول؟ أم ستقبل أن يفرض عليها عودة كابوس أوسلو ومعه الاحتلال من بوابة التعمير، فنكون أمام تكرار للتاريخ: انتصار أكتوبر المجهض في أسوأ صوره؟