خبر نصف حرب ونصف نصر ..عبد الحليم قنديل

الساعة 08:00 ص|26 يناير 2009

 

بدت حرب غزة كنصف حرب، وبدت نتائجها كنصف نصر.

حساب الخسائر المالية على الجانبين يبدو هو ذاته، فقد دفعت إسرائيل في الحرب حوالي المليار ونصف المليار دولار، وهي قيمة التحركات، واستدعاء الاحتياطي، وتكلفة تشغيل نصف سلاح الجو الإسرائيلي، وتكاليف قنابل الدمار والفوسفور الأبيض وقنابل ' دايم ' الجديدة، وعلى الجانب الفلسطيني، قدر مكتب الإحصاء تكاليف الدمار المادي، وأهمها تكاليف سبعة عشر ألف منزل ومنشأة جرى تدميرها كليا أو جزئيا، قدر مكتب الإحصاء جملة التكاليف ـ إلى جوار خسائر الاقتصاد ـ بحوالي المليار ونصف المليار دولار، وإن قدرتها إحصاءات فلسطينية أخرى بما قد يصل إلى ملياري دولار.

بالطبع، لانتحدث عن الأرواح في حساب التكاليف المالية، وإن كانت كارثة الفلسطينيين أفدح هنا بالطبع، فقد يصل عدد الشهداء الفلسطينيين إلى ألف وخمسمائة مع العثور على مزيد من الجثث، وقد يصل عدد الجرحى والمصابين ـ وكثير منهم في حال الخطر ـ إلى ما يزيد عن ستة آلاف، فيما تبدو أرقام الخسائر الإسرائيلية من الأرواح أقل بما لا يقاس، وقد تتضاءل نسبتها إلى اثنين بالمئة بالقياس للعدد الكلي للضحايا الفلسطينيين، بينما تبدو الخسائر العسكرية البحته متوازنة على الجانبين، فعدد الشهداء والجرحى من حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية يكاد يساوي نظيره على الجانب الإسرائيلي .

وبحساب الأرقام، تبدو خسائر الفلسطينيين الكلية أثقل بكثير، لكن نتائج الحروب لا تقاس فقط بالأرواح، وفي كثير من معارك التاريخ الكبرى، كانت خسائر الطرف المنتصر أكبر بما لا يقاس إلى الطرف المهزوم، روسيا الستالينية ـ مثلا ـ كسبت الحرب ضد جيوش النازي، رغم أن روسيا خسرت 20 مليون قتيل، وقد حسب النصر لروسيا لأنها أرغمت جيوش هتلر النازية على الانسحاب، وكذلك جرى في غزة، فقد أرغم الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من أراضي احتلها في غزة، وبدت نهاية الحرب الدموية لافته وموحية، فقد قررت إسرائيل وقف إطلاق النار أولا، وبعدها بساعات طويلة لم يتوقف خلالها إطلاق الصواريخ الفلسطينية، قررت حماس ـ والفصائل ـ وقف إطلاق نار مشروط، وأمهلت إسرائيل مدة أسبوع واحد لاتمام الانسحاب، وبدا كأن الجيش الإسرائيلي يتعجل بالانسحاب، ربما السبب في خوف أولمرت من تكرار كوابيس جنوب لبنان في حرب صيف 2006، وخشيته أن يتقدم إلى النصف الأخر من الحرب، وعدوله ـ مع باراك ـ عن مخاطرة اقتحام مدن غزة وتجمعاتها السكنية الكثيفة، فتكون النتيجة أن تتضاعف الخسائر البشرية للجيش الإسرائيلي بالذات، وقد ثبت أن صدامات السلاح المحدودة التي جرت على الأرض كانت وبالا على جنود إسرائيل المذعورين، والمختبئين خيفة الموت من وراء أغطية الدبابات وأردية 'البامبرز'، فقد ثبت أن مقاتلي حماس ـ وغيرها ـ طوروا قدراتهم بما يقارب القدرات المتفوقة لرجال حزب الله .

 

من الذي انتصر إذن ؟

 

الجواب ـ في غير تعجل ـ أن حماس حققت نصف نصر، ربما لأن ما جرى ـ على هوله ـ كان نصف حرب، فيما لحقت بإسرائيل نصف هزيمة، وهربت من النصف الآخر، ولا يصح تصوير الدمار المروع الذي لحق بالفلسطينيين كعلامة نصر لإسرائيل، فأي جيش تافه يستطيع أن يفعل ما فعله الجيش الإسرائيلي، وهو أن يحارب قوما عزلا من طائرات ودبابات تحميهم، وهذا ليس إنجازا عسكريا بمقاييس الحروب، بل جنون ووحشية عنصرية نازية، وحرق للسكان بعشرة آلاف طن من المتفجرات، وتعريضهم لدمار يشبه دمار القنبلة الذرية، وجرى القصف بطريقة الصدمة والترويع، وعلى ظن عبثي تماما، وهو أن إيقاع أفدح أذى بالمدنيين ربما يزعزع سلطة حماس على أهل غزة، وهو ما ثبت فساده بالكامل، فلم يحدث تمرد من عموم الناس ضد حماس كما كانت تظن إسرائيل، ولا حتى انتهى الحصار الذي استمر لمدة عامين قبل الحرب إلى النتيجة ذاتها، ربما السبب في أن ظاهرة حماس تبدو أكثر جدية وأخلاقية، والنتيجة أن غضب الفلسطينيين ارتد إلى إسرائيل، وبدت صيحات الثأر موجهة إلى إسرائيل ونظم التواطؤ العربي، وزادت القوة المعنوية لحماس، وبدا المناخ الشعبي مهيئا أكثر لتقبل فكرة المقاومة والثأر لدم الشهداء، وربما لذلك بدا إسماعيل هنية ـ قائد حماس الداخل ـ على صواب، وهو يعلن انتصار المقاومة، وبدت مقدرته على الإقناع أكبر، وعلى عكس أولمرت المذعور من اعتراف دولي بدور حماس، ورغم تطمينات واشنطن لإسرائيل بتوقيع مذكرة تفاهم لمنع ما يسمى ' تهريب الأسلحة ' لحماس، وهي ورقة بلا قيمة عملية، وبوسع إسرائيل أن ' تبلها ' وتشرب ماءها ثلاث مرات في اليوم، وبغـــير أمل في شفاء تل أبيب من هواجس حماس (!) .

 

حماس صمدت

 

كان هدف الحرب الإسرائيلية هو تحطيم حماس، وهو مالم يتحقق، بل ربما تحقق عكسه بالضبط، فقد زادت القوة المعنوية لحماس التي احتفظت بترسانتها الصاروخية، واحتفظت بقوتها العسكرية البشرية إلا من ضرر يسير، والمعروف أن إسرائيل تقدر جيش حماس بحوالي عشرين ألف مقاتل عالي التدريب، وعلى صعيد قادة حماس الميدانيين، فلم يستشهد في الحرب سوى نزار ريان وسعيد صيام، وبدت القدرات الاستخبارية المتشعبة لإسرائيل عاجزة عن رصد أماكن تواجد قادة حماس العسكريين والميدانيين، وبدا أن عيون إسرائيل في غزة جرى فقأها، وبادرت حماس بإعدام عملاء وجواسيس، وبعدما بدا أنهم كانوا وراء الإرشاد عن مكان تخفى القيادي سعيد صيام، وتبدو صرامة حماس في محلها، فأي تهاون يعرض أمن قادتها للخطر، وإن كان ذلك لا يعني أن الخطر زال، وأن الحرب انتهت، وحتى لو جرى التركيز على ترتيبات إعمار وفتح جزئي للمعابر وتهدئة لشهور، فسوف تظل الأزمة هي ذاتها، فإسرائيل التي فشلت في تحقيق أهدافها رغم كثافة النيران وفترة الحرب الطويلة، والتي وقف شعبها وراء جيشها في إجماع كامل، ها هي الآن تتساءل عما تحقق بالضبط، فقد ثبت أن قوة حماس عصية على الكسر، وأن الحرب أضافت لرصيد حماس، والتي بدا أنها فازت في الحرب كما فازت في الإنتخابات قبل سنين .

نعم، تبدو الأوضاع قلقة، فإسرائيل لم تكسر حماس، ربما الجديد ـ هذه المرة ـ أنها أدركت استحالة إيقاع هزيمة حاسمة بحماس، وربما تلجأ ـ لكسب انطباع أفضل ـ إلى تنفيذ عمليات اغتيال لعدد من قادة حماس، لكن التجارب الطويلة أثبتت أن ذلك لا يجدي في حالة حماس بالذات، فالقيادة في حماس مركبة وجماعية ولا تستند لإرادة فرد واحد، ثم أن حماس ـ رغم مآسي الحرب ـ أدركت أن المقاومة بالسلاح هي التي تستعيد لها بريقها، وتحتفظ بحق العودة إلى العمليات الاستشهادية، وإقامة توازن ردع جديد يشل يد إسرائيل.

كاتب مصري