خبر من بيروت الى غزة وبالعكس: الإدارة الأميركية والقمم العربية

الساعة 07:59 ص|26 يناير 2009

طلال سلمان

 

لأن الانقسام في لبنان »جذري« و»شامل« و»عقائدي« مموه بالخلافات الطائفية والمذهبية لطمس طبيعته السياسية، فهو قد امتد الى »هوية« الرئيس الاميركي الجديد باراك حسين اوباما، وإلى مواقفه من قضايا العالم وأزماته، كما حددها في خطاب التنصيب ثم في شرحه التفصيلي لسياسة العهد الجديد، وبالذات منها ما يتصل بما يسمى »ازمة الشرق الأوسط«، خلال الاحتفال بنقل السياسة الخارجية الى السيدة هيلاري كلينتون.

من كان يعتبر لون بشرته وعذاب التمييز العنصري، واسم ابيه بأصوله الأفريقية ـ »الإسلامية«، وطفولته البائسة، بمثابة صلات قربى مع العرب والمسلمين والملونين عموماً، فجع حين سمعه يتحدث عن إسرائيل ـ الخارجة للتو من حربها على شعب فلسطين في غزة، وأيادي قياداتها السياسية والعسكرية وجيشها جميعاً ملطخة بدماء الأطفال والنساء والشيوخ والمدارس والبيوت الفقيرة والمساجد ـ باللغة ذاتها لإدارة سلفه جورج. و. بوش ووزيرة خارجيته السمراء كوندليسا رايس.

أما من شب وشاب على الإيمان بأميركا قائدة للعالم الحر وزعيمة لمعسكر الديموقراطية والتقدم وحقوق الإنسان، فلم يشغله كثيرا توكيد الرئيس الجديد التزامه ثوابت السياسة الاميركية تجاه اسرائيل، وبالتالي تجاه فلسطين وحقوق شعبها بدولة له فيها، وتجاه العرب عموماً، لأنه لم يكن يطلب او يريد ـ اصلاً ـ أي تغيير... فهو مع البيت الابيض بغض النظر عن ساكنه (ولونه!!)، ومع السياسة الاميركية بتفاصيلها جميعاً، وإن هي تطابقت مع الأهداف الاسرائيلية... ولتذهب فلسطين وشعبها كله والمقاومة، أي مقاومة، الى الجحيم!

في كل الحالات فإن التغيير في واشنطن قد احتل، على الفور، موقعه على خريطة »حرب الانتخابات النيابية« في لبنان... ولقد تعجل بعض اصدقاء اميركا اتخاذه كمصدر للدعم، وتعززت آمالهم ـ هم اصدقاء »المحافظين الجدد«، المتهمين بتخريب السياسة والاقتصاد والأمن القومي الاميركي ـ بانتصار كاسح يوفر لهم اكثرية مطلقة، ويلغي معادلة »التوافق« في الدوحة، وربما الدوحة ذاتها، وما تفرع عنها وأهمه حكومة الوحدة الوطنية بالثلث الضامن فيها. بل لقد اعيد توظيف »احداث السابع من أيار« كرافعة للموالاة، برغم المخاطر الطائفية والمذهبية وتفجراتها المحتملة.

تم مسخ التغيير الذي رآه العالم جميعا محطة بارزة في التاريخ الاميركي الحديث، بكل ما يتضمنه من إدانات وصلت حد التشهير بالادارة الاميركية الراحلة وما تسببت به من كوارث اقتصادية هددت النظام الرأسمالي جميعاً، وما اصاب العالم على يديها ـ والعرب خصوصاً ـ من نكبات بدعمها المفتوح لإسرائيل وحروبها المتواصلة، ولأنظمة التخلف والقمع والدكتاتوريات، وصولاً الى اجتياح العراق واحتلاله وتفكيك ركائز وجوده كدولة ودفعه الى جحيم الحرب الاهلية والتفكك عرقياً وطائفياً ومذهبياً.

ولكن... لماذا العتب على محترفي السياسة في لبنان او الهواة منهم، طالما ان »قادة الأمة« وحملة الالقاب المفخمة بالجلالة والنسب الشريف او الوظيفة المشرفة، وبينهم من وضع السيف في يدي جورج بوش وراقصه، وبينهم من رفع إكراما له انتاجه النفطي وخفض له اسعاره، وبينهم ايضا من تآمر معه ومع اسرائيل في حربها على لبنان في تموز ،٢٠٠٦ فضلا عن التآمر على فلسطين وإهدار قداسة قضيتها وحقوق شعبها بين خريطة الطريق والرباعية ولقاء أنابوليس الذي اقر »شرعية« دولة اليهود فوق أرضها.

لماذا العتب على السياسيين الصغار في لبنان طالما ان »قادة الأمة« قد تعبوا من التلاقي فوق القمم، عربية او مطعمة بالثقل الاوروبي، من دون ان ينجحوا في وقف الحرب الاسرائيلية على شعب فلسطين في غزة، او في رفع الحصار عنها بعد اجتياحها، او في فتح المعابر ولو لجرحاها الذين تجاوزوا الخمسة آلاف، فضلا عن ايصال الادوية والمؤن والغذاء والخيم والبطانيات للآلاف ممن دمرت منازلهم فباتوا بلا مأوى غير انقاض بيوتهم التي توارثوها عن اجدادهم او بنوها بعرق الجباه والزنود مطعما بدماء الشهادة؟!

[ [ [

تكفي مقارنة متسرعة بين بعض ما قاله الرئيس الاميركي الجديد باراك اوباما، في خطبه ورسائله الاولى، وبين ما تعود العرب ان يسمعوه من قادتهم المعظمين، ملوكا ورؤساء وأمراء، لاكتشاف عمق الهوة التي تفصل هؤلاء عن شعوبهم التي تحتاج الى من يطمئنها الى ان لها مستقبلاً ما فوق هذه الارض... أي مستقبل!

قال اوباما في رسالته الاولى: ان اميركا تعاني من فقدان عميق للثقة بالنفس، ومن شعور اعمق بأنها في حال انحدار لا مفر منه، والمخاوف من التحديات حقيقية وجدية ومتعددة الرؤوس ولن تحل في وقت قريب. ولأن هذه الازمات جدية بات على اميركا ان تتغير لأن العالم قد تغير. عليها أن تدشن حقبة جديدة من المسؤولية، تقودها الصداقة الدولية والاحترام المتبادل وطريق جديدة للعلاقات مع العالم الاسلامي«.

في القمتين العربيتين اللتين انعقدتا خلال الايام الماضية، سمعنا كثيرا من الكلمات ـ بينها الصادق في تعبيره عن الوجع من العجز عن التغيير، او عن وقف الحرب الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة ـ لكن غزة، بعد الحرب الاسرائيلية المستمرة بالحصار، ما تزال في العراء: يسمع اهلها الكثير من الكلام المتعاطف الى حد البكاء، وكثيرا من الارقام الفلكية التي سوف تخصص لاعادة بنائها، ويتابعون العديد من اللقاءات التي تبدل من طبيعتها كقضية عربية الى قضية دولية عنوانها الرئيسي أمن اسرائيل.

وبعد ان شاهد أهل غزة (والعرب جميعاً) بأم العين وزيرة الخارجية الاميركية الراحلة رايس توقع مع وزيرة خارجية اسرائيل ورئيسة حكومتها المقبلة(؟) اتفاقا لجعل الحصار على غزة دولياً، يفرض على مصر ان تكون من المشاركين فيه، ها هم يشاهدون صور اللقاءات في بروكسيل بين دول اوروبية هي من اركان الحلف الاطلسي، وبين دول عربية وبمشاركة »السلطة الفلسطينية« التي لم تكن طرفا في الحرب ـ يبحث الوزراء فيها الخطط لإعادة اعمار غزة، بما يضمن انهاء المقاومة فيها وجعلها مجرد محمية اسرائيلية تخصص لتجريب انواع اسلحة الدمار الشامل، وبالذات القنابل الفوسفورية.

 

ولقد ثبت، مجدداً، ان دولا عربية عــــديدة ستشارك مستقبلا في حصار غزة، وفي تفاقم الازمــــة بين القوى الفلسطينية، وتحديداً بين »حماس« ومن معها وبين »الســـلطة«، بحيث تتحول المواجهة مع العدو الاسرائيلي الى حرب اهلية فلسطـــينية، تذهب بما تبــــقى من »القضـــية« وحلم »الـــدولة« ولو على بعض البعض من ارض فلسطين التــاريخية.

وفي ظل انقسام العرب الى حد يقارب الاحتراب، كيف يمكن للفلسطينيين ان يتوحدوا... خصوصا ان »حدود الحرام« قد سقطت تماما بين بعض هذه الانظمة ومعها »السلطة« وبين اسرائيل، الآمنة الآن تماماً، والتي لا يشغلها الا حماية قادتها وضباط جيشها من احتمال تقديمهم الى محاكمة دولية، كمجرمي حرب ومشاركين في الإبادة الجماعية، وذلك بضغوط هيئات ومنظمات دولية يشارك فيها بعض العرب ومن خارج النظام الرسمي غالباً.

»انه الجيش الأكثر اخلاقية في العالم«! هكذا يوصف قادة اسرائيل جيشهم الذي استخدم اسلحة دمار وفتك وقتل جماعية، على مرأى من شعوب الارض جميعا...

لكن الرئيس الاميركي الجديد كان مشغولا باحتفالات تنصيبه، ولهذا ـ ربما ـ لم يتيسر له ان يتابع مجــــريات المذبحة الجماعية في غزة ضد شعب محاصر منذ سنين وشبه اعزل، وربما لهذا اكتفى بأن طالب بفتـــح المعابر للمســـاعدات والمبادلات فقط، وان لم ينس ان يطالب »حماس« بالاعـــتراف بإسرائيل، بعد وقف الاعتداءات على شــعبها المحــاصر بالنـار!

في أي حال، ليس على »عرب السلام« الآن سوى انتظار الموفد الاميركي جورج ميتشيل، الذي تزكيه بعض جذوره اللبنانية لجهة أمه المتحدرة من بكاسين في قضاء جزين بجنوب لبنان، فضلا عن نجاحه المشهود في تسوية الصراع الدموي الذي امتد دهراً في ايرلندا.

لكن الشعار الاسرائيلي ما يزال هو هو: »من السهل الانتصار عندما لا يكون امامك عدو«... وقد عبر احد كبار الضباط عن طبيعة »الحرب على غزة« بإيجاز واف، اذ قال »كنا نطحن الفلسطينيين«!.

وبين ما يزكي الموفد الاميركي الجديد جورج ميتشيل انه كان احد الشهود على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقد شهد بأم العين كيف ولماذا عجز الاسرائيليون ـ بقيادة ارييل شارون آنذاك ـ عـن ان يطحنوا الفلسطينيين برغم كل ما بين ايديهم من سلاح.

[ [ [

بين اهم ما يدل عليه وصول باراك حسين اوباما الى الرئاسة في الولايات المتحدة الاميركية ان النظام الأميركي قادر على استنقاذ نفسه بتغيير المسؤولين عن نكبات مثل التي يعيشها الاقتصاد الاميركي الآن.

أما في بلادنا فيحاول القـــادة استنقاذ انظــــمتهم بتغيير »الشعب«، عن طريق إيهامه بأنه هو المخطئ، المسرف، المـــبذر، المسيء الى الديموقراطيـــة والى الحرية والى كـــرامة الانسان.

مع ذلك فإن دعم صمود غزة واجب وطني وقومي وإنساني، وعلينا ـ في لبنان ـ ألا ننشغل عنه بتوافه سياساتنا المحلية وقادتها النجب.