خبر مقدمات المصالحة العربية ومعناها ..عبد الاله بلقزيز

الساعة 07:26 ص|26 يناير 2009

إن غضَّ المرء الطَّرف عمَّا إذا كان ما جرى في القمة الاقتصادية العربية قابلاً للتعيين والتعريف باسم المصالحة العربية، وإن صرَفَ النظر عن الانخراط في جدل كلامي حول معنى المصالحة وهل هو معنى يُصرف للدلالة على تصفية القلوب وتخلية النفوس والصَّفح عن سابق الخصومة بين القيادات صفحاً متبادلاً، أم هو معنى لا يستقيم بغير القول إن المصالحة مصالحة سياسية بين برامج وخيارات، في المقام الأول، واجتراحٌ لرؤية مشتركة وخيار مشترك (مما لم تسْتَبِنْ له معالم بعد)، فإن الذي جرى في القمة إياها -أيّاً كان وصفه واسمه وعنوانه.. ما كان ليكون كذلك، ولا بالسرعة المفاجئة التي بها كان، لولا أن مقدمات سياسية صنعته قبل القمة، ومهدت له السبيل والإمكان، ورفعت عن إشهاره التعطيل أو الإرجاء. ونحن نحصي -هنا- أربعاً من أهم تلك المقدمات.

 

أتى صمودُ المقاومة الفلسطينية في وجه العدوان البربري الصهيوني مقدّمة أولى فتحت طريقاً مقفلاً أمام وقف حالة الخصومة العربية البينية المديدة. كثيرون في العالم وفي بلادنا العربية ما صدَّقوا أن هذا الصمود ممكن إلى هذا الحد، وأن في وسعه أن يرقى إلى مرتبة الملحمة. ف”حماس” -في حساب كثيرين- أضعف من “حزب الله” تسلُّحاً وخبرة ومدداً خارجيّاً، وهي -إلى ذلك- تخوض حرباً غير متكافئة بعد حصار طويل أنهك المجتمع الفلسطيني الصغير في غزة. وإذا كان في وسعها أن تصمد لأيام معدودات، فلا حيلة لها ولا حول للصمود أمام الآلة الجهنمية لأسابيع.

 

لكن “حماس” -ومعها فصائل المقاومة- صمدت إلى أن اضطر العدوُّ نفسه إلى إعلان وقف الحرب من جانب واحد. وما كان صمودها ليقف عند حدود عدم انكسارها فحسب، وإنما تجلى في نجاحها الباهر في إسقاط الأهداف الثلاثة للعدوان: تغيير النظام السياسي في غزة، تدمير البنية القتالية للمقاومة، وقف إطلاق الصواريخ. فلقد ظلت “حماس” تسيطر سياسياً وتفرض سلطتها في غزة، وظل جسم المقاومة سليماً يقاتل العدو حتى آخر لحظة، وظلت صواريخها حتى آخر دقيقة تدُكُّ المستعمرات الصهيونية في فلسطين المحتلة. وعليه، حين ينتهي هذا الصمود إلى إجبار العدوّ على وقف الحرب والبدء في الانسحاب من دون إحراز مكسب سياسي، فماذا يبقى غير الاعتراف بهذه الحقيقة عربياً؟

 

وكانت انتفاضة الشارع العربي هي المقدمة الثانية. فإذ تدفّق ملايين المتظاهرين في شوارع المدن العربية استجابة لنداء النصرة والإسناد، نداء الضمير الحيّ: الوطني والقومي والديني والإنساني، ما كان المتظاهرون يشهرون غضباً مشروعاً على الجريمة الصهيونية ويستنكرون التغطية عليها وإجازتها بالصمت الدولي فحسب، وإنما كانوا أيضاً -وأساساً- يعلنون الاحتجاج الجهير على التقاعس العربي في الردّ على الجريمة وعلى الخذلان العربي للمقاومة، وأهالي غزة ويذهبون في الاتهام إلى أبعد من ذلك بكثير. ومع تواتر المظاهرات والمسيرات الشعبية المتدفقة كل يوم، كان ضغط “الشارع” يزداد وحجَّة الموقف الرسمي تضعُف، والآفاقُ تنفتح على المجهول. وكان في وسع النظام العربي أن يلحَظ أن هذه الطاقة الهائلة من الغضب المتفجّر قابلة للاستثمار السياسي من القوى السياسية والدينية الاحتجاجية وقد تجد من ينجح في أن يُركّب عليها معطى الأزمة الاجتماعية المتفاقمة فيزيدها أواراً وقوة انفجارية أشد، لا يعلم أحد الى أي اتجاه من التطور تذهب. ولقد بدتِ الحاجة ماسّة -عند لحظة من الغضب الشعبي- إلى امتصاص هذا الضغط وتنفيسه اجتناباً لمفاجآت غير محسوبة.

 

وتمثلت المقدمة الثالثة في بعض التهيّب العربي من الدور النشط لكل من إيران وتركيا في مسألة غزة، ومن نجاح لهذا الدور في إحداث بعض الاختراق للنظام العربي وصولاً إلى المشاركة في قمة الدوحة المكرَّسة لغزة، وما رافَقَ ذلك كله -ونَجَمَ عنه- من خشية من نجاح هاتين القوتين الإسلاميتين الإقليميتين في استثمار نتائج صمود المقاومة الفلسطينية لحشر “محور الاعتدال” العربي في الزاوية. وإذا كانت هذه الخشية تحاول الاتّعاظ بدروس حرب يوليو/ تموز 2006 على لبنان ونجاحات إيران في استثمار نتائجها لمصلحة دورها الإقليمي المتزايد، فإنها (أي الخشية) ارتفعت معدلاً في معركة غزة مع ملاحظة حال الشعور بالارتياح الشعبي العربي من وقوف تركيا وإيران مع المقاومة وإعلانهما مواقف حازمة وصريحة ضد الجريمة، أحدثت في وجدان الناس بعض التعويض النفسي عن الشعور باللامبالاة العربية الرسمية بمصير المقاومة والشعب في غزة. وكما كبر حجم صورة هوغو تشافيز في المخيال العربي وتحوّلت إلى صورة رمز تاريخي، كان يُخشى أن تكبر صورة رجب طيب أردوغان وآخرين، فيتحولون إلى أبطال للأمة من خارجها. وهكذا كان على هذا الخوف أن يُطلق مفاعيله في السياسة العربية.

 

أما المقدمة الرابعة، فهمَّت مصر بصورة خاصة وتحسَّس خطورتها من العرب من تحسَّسها فتجاوبَ إيجاباً مع غضبها. ويتعلق الأمر هنا باتفاق الضمانات الذي حصلت عليه الدولة الصهيونية من الولايات المتحدة حول منع “تهريب السلاح” إلى غزة. لقد حقّ لمصر أن تشعر بالإهانة بسبب التجاوز الوقح لسيادتها الوطنية من اتفاق ليفني - رايس ومن ضمانات الأخيرة للأولى بحفظ أمريكا أمن “إسرائيل” والتعهد لها بعدم السماح ب”تهريب السلاح” إلى غزة، وكأن معبر رفح يقع بين الأراضي الفلسطينية والأراضي الأمريكية! وحق لمصر أن تشعر بالغضب للرد “الإسرائيلي” على مبادرتها بإعلان العدو وقف الحرب من جانب واحد وإنهاء التفاوض مع القاهرة حول مبادرتها، فلقد بدا ذلك وكأن “إسرائيل” ما عادت في حاجة إلى دور سياسي لمصر في الأزمة، وأن كل ما تريد من مصر هو أن تحرق رصيد صورتها لدى المقاومة والشعب الفلسطيني وأن تستنزف مكانتها لدى الرأي العام العربي. وهكذا كان على غضب مبارك ووزيره في الخارجية أن يفتح الطريق أمام “المصالحة” العربية في القمة.

 

هذه كانت مقدمات أنتجت حالة المصالحات الشخصية التي جرت بين بعض القادة في القمة. والأمل كبيرٌ -وإن يكن عسيرَ المنال في المنظور من الزمن- في أن تؤسّس تلك المصالحات الشخصية لوفاق عربي رسميّ على برنامج عمل سياسيّ يقطع نهائيّاً مع أوهام التسوية، ويدعم المقاومة والمصالحة الوطنية الفلسطينية، ويلاحق “إسرائيل” على جرائمها في المحافل الدولية.

 

هذا هو الحد الأدنى المتواضع الذي يرسو عليه التضامن العربي، والحدّ الأدنى المطلوب للتعبير عن التزامات النظام العربي تجاه الأمة والشعب الفلسطيني وحقوقهما. وهو قطعاً ما يصنع المصالحة السياسية ويحفظ لها فرص البقاء. هكذا كانت مصالحة العرب في قمة الخرطوم قبل واحد وأربعين عاماً، وهكذا (هي) فتحت الباب أمام الوفاق الداخلي الذي أنتج نصر أكتوبر قبل خمسة وثلاثين عاماً. وهكذا عليها أن تكون اليوم.