خبر المغراقة .. بلدة اختفت معالمها وقاطنوها يجلسون فوق أنقاضها مستذكرين أياماً مضت

الساعة 02:16 م|25 يناير 2009

فلسطين اليوم : غزة (خاص)

ما سطّرته الأقلام والتقطته الكاميرات طوال الأسابيع الماضية في قطاع غزة، غدا قطرة صغيرة في محيط الدمار والأنقاض. فالأقدام تقف على الخراب والدمار، والعيون تستكشف المأساة، واللسان يحار في البحث عن مفردة تليق بوصف ما صنعته آلة الحرب الإسرائيلية.

يبدو زلزالاً عنيفاً، بل كارثة كبيرة، تلك التي ضربت المكان. فهنا قرية المغراقة، الواقعة إلى الجنوب من مدينة غزة، والتي غيّر الجيش الإسرائيلي معالمها خلال أيام معدودات، عاث فيها تخريباً وأمعن فيها قتلاً وتدميراً بما لم تعرفه القرية على مدار تاريخها.

يروي الفلسطيني صلاح الوحيدي (36 عاماً)، من سكان المغراقة، ما حلّ بهم قائلاً "لما أعلن الاحتلال عن بدء عمليته البرية علي قطاع غزة، بعد أسبوع من القصف الجوي، وفي الساعة السادسة والنصف من صبيحة يوم السبت (3/1)، فوجئنا بوجود الدبابات الإسرائيلية واقتحام المنطقة، وصولاً إلة محررة نتساريم (مستعمرة إسرائيلية مخلاة)، فحوصرنا في منازلنا، ولم نستطع الخروج منها لمدة ثلاثة أيام".

ويضيف الوحيدي "كنّا حوالي ثلاثين شخصا متواجدين في المنزل، ونظراً لشدة الانفجارات وإطلاق النار بشكل عشوائي، جازفنا وخرجنا من بيوتنا تحت إطلاق نار كثيف"، كما قال.

ويستذكر صلاح الوحيدي لمراسلنا، ما جرى بعد ذلك فيقول "هربنا إلى مدرسة "الأونروا" المتواجدة في مخيم النصيرات المجاور لنا، عشنا خلالها أياماً صعبة من تشرّد ونقص في الخدمات". وبصوت يملؤه الألم تابع قوله "شعرت بالصدمة بعد أن اندحر الاحتلال وعدنا إلي بيوتنا، فقد رأيناها أكواماً من الحطام والحجارة، يختلط بها أثاث بيوتنا، فما بنيناه علي مدار سنين وعايشنا بناءه حجراً حجراً، رأيناه بعد الانسحاب وكأنه لم يكن، إنها بداية رحلة شقاء وعناء جديدة".

وفوق أكوام الركام كانت منزلاً ذات يوم، تقف طفلة بثياب رثة كساها الغبار، وأخذت تبحث تحت الأنقاض عن أقلامها ودفاترها وبقايا ذكريات خلت.

وفي الموقع ذاته، بدا الطفل حمدي، ذي السنوات العشر، واقفاً فوق حطام منزله، يبكي جدّه وعمّه اللذين استُشهدا فيكفكف دمعه ويقول "عند تقدم الدبابات اختبأنا داخل المطبخ كلنا، ومن ثم دخلت قوات الاحتلال علينا وقامت بقنص عمي وجدي، وقاموا أيضاً بقتل الأغنام والأبقار ودمروا كل شيء". ويضيف الطفل الفلسطيني المنكوب قائلاً "اليهود مجرمون لا يرحموننا، فأنا أكرههم وأدعو عليهم بأن يموتوا ويخرجوا من أرضنا".

"حسبنا الله ونعم الوكيل"، بهذه الكلمات أخذ المواطن عصام عزام (40 عاماً)، يتفقد منزله الذي أصبح أكواماً من الحجارة، حيث قال "هدموا كل بيوتنا، وخرجنا منها بالملابس التي نرتديها فقط، وعندما عدنا وجدنا كل شيء مدمراً، منازلنا كلها سُوِّيت بالتراب، ومئات الدونمات المزروعة بالحمضيات والعنب والزيتون التي كانت مصدر رزقنا الوحيد كلها دُمِّرت أيضاً".

وأضاف عزام بصوت تملؤه الحسرة "أكثر من سبعين عاماً ونحن نعيش هنا، لقد وُلدت هنا، ووالدي من قبلي أيضاً وُلد هنا، فمنازلنا لها أكثر من ثلاثين عاما وقبلها كانت منازلنا من الطين". وتابع عزام قائلاً "قامت قوات الاحتلال بقتل ابن عمي، عطا عزام، واثنين من أبنائه، وقمت بتجميع أشلائهم من بين حطام المنازل".

وفوق الأنقاض أقام المواطن إبراهيم دلول خيمته، ليعيد للأذهان ذكرى النكبات التي عاشها الشعب الفلسطيني علي مر قرن من الزمان، فيقول بكل حزن "ما قاسيناه لم يقاسه أحد، لقد قامت قوات الاحتلال بقتل أبنائنا وتدمير منازلنا، وقد حاولت جاهداً أن أتعرّف على بيتي وسط الركام فأصبحت أتجه إلى الشرق تارة وإلى الغرب تارة أخرى، إلى أن أعياني التفكير فجلست منزوياً على ركام البيوت التي اختلطت حجارتها بعضها ببعض".

وأكمل دلول وعيناه تغرقان بالدموع "لا أعرف أين بيتي، هذه الحجارة أم تلك الأكوام أم ما تبقي من حطام هذه الغرف، فلقد خلطت جرافات الاحتلال الحابل بالنابل، وأكل الاحتلال الأخضر واليابس، فتحت الأنقاض فقدنا كل شيء".

وتقول الفلسطينية زينة الحسنات (66 عاماً)، "هربنا وكل الجيران إلى بيت جارنا "أبي عواد"، ولكنهم خرجوا يحملون الرايات البيضاء، ولم أخرج معهم وبقيت بجوار بيتي وأغنامي متوقعة بأنّ كبر سني كفيل بأن يرحمني منهم، ولكنّ الاحتلال لم يميِّز بين شاب وعجوز، فقد كان يضرب في كل مكان وعلى كل شيء، حتى الحيوانات لم تسلم" من اعتداءاتهم.

وفي رسالة وجّهها للشعوب العربية قالت الفلسطينية المنكوبة "ما يحصل لنا ليس عدلاً، فإلى متى تذهب أصواتنا أدراج الرياح، وإلى متى ستبقون تتفرجون على أطفالنا وهم يستشهدون فوق ركام منازلهم، وهل ستتفرّجون على صور بيوتنا المهدومة وعلينا ونحن نصرخ ثم تنسونا كما تناسيتم الذين من قبلنا، فمن سيأوي العائلات الفلسطينية المشرّدة، فلقد هُجِّرت مع أهلي من بئر السبع داخل فلسطين المحتلة، ولكن الآن إلى أين نذهب؟".

أما "أم حسن"، التي تجلس في بقايا منزلها الذي لا يصلح لسكن والمعرّض للسقوط في أية لحظة، فتشرح "كنا نشعر بالموت بين لحظة وأخرى، وحُجزنا ثلاثة أيام قضيناها تحت بيت الدرج (أسفل سلم المنزل) أنا وأبنائي، ومن شدة القصف جمعت أطفالي وهم يصرخون من كثافة الرصاص وهدير الدبابات والجرافات وهربنا مسرعين للخارج". وتشير الأم الفلسطينية إلى الجانب الذي هُدم من منزلها، وتقول "تحت هذا الركام دفنت حقائبهم الدراسية وكتبهم ولم نتمكن من إخراجها"، وتضيف أنّ ابنتها الكبرى وفاء تشتكي من أذنيها، حيث أنها لا تستطيع السمع جيدا من تلك اللحظات جراء شدة الانفجارات.

ومع كل خطوة بدت العديد من المنازل وقد اخترقها الرصاص والقذائف، وحوّلتها إلى أطلال. وعلي أنقاض "مسجد بلال بن رباح"، كان يصطف عدد من المصلين ليقيموا صلاتهم كما اعتادوا، لكن هذه المرة في الخلاء وعلي الركام.

ويقول إمامهم كمال أبو خبيرة "هذا المسجد أُسِّس منذ عام 1975 تقريباً، فمن مفترق الشهداء علي شارع صلاح الدين وصولاً إلى البحر لا يوجد أي مسجد غيره، فقد كان عبارة عن مصلى صغير للمواطنين تقام فيه الصلوات منذ القدم".

وأشار الإمام إلى أنّ قوات الاحتلال سبق وأن قامت بهدم المسجد خلال أعوام "انتفاضة الأقصى"، وتم إعادة بنائه وترميمه، شارحاً أنّ هذا المسجد تُقام فبه النشاطات الرياضية للشباب وتحفيظ القران للفتيان، بجانب الشعائر الدينية.

وبكل ألم يكمل الإمام قائلاً "نجتمع في المسجد خمس مرات، ففقدانه كان وقعه على أنفسنا أكثر من هدم بيوتنا، فمن خلاله نتصل بالله عز وجل"، ويضيف "أكثر ما يؤلمني هو حزني الشديد على المصاحف المتواجدة تحت الركام".