خبر هل تفلت الخيوط الفلسطينية من يد القاهرة بعد الحرب؟

الساعة 05:09 م|23 يناير 2009

فلسطين اليوم : خدمة قدس برس

زمن الحرب هو الموسم الأكثر ملاءمة لإعادة الانتشار السياسي. فعمليات الاصطفاف وإعادة الاصطفاف، تجري على شتى الجبهات والمحاور، لأنّ ضراوة المعركة السياسية لا تقلّ حدة عن لهيب الميدان.

 

انفضّ موسم الحرب، وبدأ تقويم حسابات الربح والخسارة. فمنذ انطلاق شرارة العدوان الإسرائيلي على غزة، جرت مياه كثيرة في الوادي. أخذت الخارطة السياسية تتفاعل في ما بينها في الإقليم العربي، حاملة معها مفارقات شديدة الحدّة. وكان يكفي أن تلتئم أربع قمم في أربعة أيام، بعد عشرين يوماً من مراوحة المكان وقطع الطريق على اجتماع عربي يتيم في مستوى القمة.

 

وقد تيقّن الجميع أنّ الانقسام الفلسطيني قد لا يكون سوى النسخة المصغّرة عن الانقسام الأوسع في الخارطة السياسية العربية، وأنّ أحوال النظام الرسمي العربي مؤهلة لتفسير جانب وافر من مأزق الساحة الفلسطينية الداخلية.

 

في سياقات الحرب الضارية؛ وجدت عديد الأطراف ذاتها مدفوعة إلى اصطفافات لم تكن قد برزت على هذا النحو من الحدّة من قبل، وما سيظلّ لافتاً للانتباه منها على نحو خاص، ذلك التماهي الذي طرأ على محور القاهرة ـ رام الله الواقع على مسار "الاعتدال العربي".

 

معركة سياسية من خندق واحد

 

خاضت القيادة المصرية، وقيادة السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، معركة سياسية من خندق واحد، على هامش الحرب الإسرائيلية على غزة.

 

انطلقت شرارة تلك المعركة المشتركة من القاهرة، لتصل في شرم الشيخ إلى مشهدها الأخير المتزامن مع الحرب. ففي المنتجع المصري البعيد عن صخب الشارع الحانق، والقريب نسبياً من دويّ القصف على المدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية؛ حضرت القاهرة ورام الله معاً، ضمن الحضور الطارئ لقادة أتى معظمهم من أوروبا، لتقدِّما رسالة موحّدة الشكل ومتماثلة المضمون، دون أي تباين يُذكر.

 

قليل من بات يذكر اليوم، أنّ القيادتين في القاهرة ورام الله، بدأتا مشوار المعركة السياسية ذاتها معاً، من العاصمة المصرية، في اليوم التالي مباشرة لبدء الحرب. فيومها التأم ذلك المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته محمود عباس، ووزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، على منصّة واحدة، في حضور لا تبايُن فيه، سواء على صعيد شكل الخطاب أم مضامينه.

 

في الحالتين الممتدتين زمنياً ومكانياً من القاهرة إلى شرم الشيخ، وما بينهما من جولات ولقاءات وخطابات وتصريحات؛ برز التماهي بين موقفيْ القاهرة ورام الله، إلى درجة التطابق والتماثل في كل المنعطفات. حتى عندما كانت وتيرة الانتقادات تتصاعد في الساحتين العربية والفلسطينية للأداء الرسمي المصري من الأزمة، كان المتحدثون من رام الله ينبرون للدفاع عن القيادة المصرية، حتى قبل أن يظهر الوزير أحمد أبو الغيط على الشاشات أحياناً. أمّا في القاهرة الرسمية؛ فكان التلويح على أشدِّه بلافتات التمسّك بـ"شرعية الرئيس أبو مازن، رئيس كل الفلسطينيين"، وأنّ خيارات مصر هي مع "السلطة الفلسطينية الشرعية".

 

أكثر من مجرد اصطفاف .. والتأويلات متعددة

 

يبدو هذا المشهد من التخندق المشترك، أبعد بكثير من مجرد الاصطفاف ضمن محور الاعتدال. يقدِّر بعض المراقبين أنّ القاهرة تسنّى لها اليوم أن تهيمن، وبدرجة غير مسبوقة، على المستوى الرسمي الفلسطيني، الذي يُبدي تجاوباً إلى حد الامتثال الكامل مع التوجيهات. لكنّ مراقبين آخرين يقرؤون المشهد المثير على أنه ترجمة لمصالح مشتركة تجمع الجانبين، أو هو تعبير عن مأزق أعمّ يواجه ما يعرف بمحور الاعتدال في المنطقة، يقتضي تكتيل الجهود وتجميع المواقف وخوض المعارك في جبهة واحدة متراصّة.

 

في التفاصيل؛ تنال كل التأويلات ما يعززها من الشواهد. ففرضية الانصياع للقاهرة الرسمية أمكن التدليل عليها بوقائع ملموسة، بدءاً من ذلك المؤتمر الصحفي الذي جمع عباس بأبي الغيط، يوم الأحد، الثامن والعشرين من كانون الأول (ديسمبر). يومها كانت الكلمة الفصل للوزير المصري الذي بدا متصلباً إزاء المقاومة الفلسطينية، على نحو أذكى ردود الأفعال الواسعة إزاء القاهرة الرسمية.

 

فحتى من الناحية الشكلية؛ بدت "لغة الجسد" التي صاحبت الإدلاء بالمواقف وكيفية الردّ على أسئلة الصحفيين فائقة الدلالة. كان الوزير أبو الغيط يسارع إلى "خطف الميكروفون" من الرئيس عباس، ليجيب على الأسئلة، حتى أنه استأثر بالردّ على بعض ما تم توجيهه لعباس ذاته من استفسارات. أما الرئيس الذي يقود جناح السلطة في رام الله، فكان يسارع إلى هزّ رأسه توافقاً مع كافة تصريحات الوزير المصري.

 

ولا يبدو أنّ محمود عباس قدّر حساسية ظهوره بعد ثلاثة أيام فقط، على المنصّة ذاتها التي أعلنت منها وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني الحرب على غزة، في المؤتمر الصحفي الذي التأم في القاهرة ذاتها، وبمعية أبو الغيط ذاته. لكنّ القاهرة استفادت من هذا الظهور الحرج بالنسبة لعباس، بإظهار توليفة علاقاتها مع "شتى الأطراف".

 

وفي المضامين؛ بدا واضحاً أنّ عباس وأبو الغيط، لم يُدلِيا ابتداءً بأي صيغة تعبِّر عن المطالبة بوقف الغارات الإسرائيلية فوراً وبدون شرط، كما تحاشيا التلويح بخطوات عقابية إزاء الجانب الإسرائيلي، كوقف المفاوضات أو سحب السفير المصري أو تجميد المبادرة العربية للسلام. بل تم الاكتفاء بالحديث عن العزم على القيام بتحركات "على شتى المستويات" إليه من أجل "وقف التصعيد"، دون تحديد عناوين واضحة للعدوان تكافئ ضراوته.

 

ما طالبت به القاهرة ورام الله في حينه لم يتجاوز مطلب التوصل لوقف إطلاق النار وتجديد التهدئة، وهو الثمرة السياسية للموقف الميداني الجاري، فبعد الحروب تأتي الإملاءات. قيل وقتها إنّ ذلك يعني، أنّ افتراض تحقيق إجراء كهذا (وقف إطلاق النار)، في غضون أسبوع من اندلاع العدوان؛ سيكون من الناحية العملية خطوة تلجم المقاومة الفلسطينية وأذرعها العسكرية عن الردّ، وإلى الأبد حسب المرغوب، طالما أنّ المقاومة تحتاج إلى مدى زمني أوسع لردّ الصاع بمثله أو حتى بأقل منه بمراحل، بالمقارنة مع الجانب الإسرائيلي الذي اعتمد أولاً خيار المباغتة بـ"الصدمة والترويع"، قبل أن يتضح لاحقاً إخفاقه في جني مكاسب ميدانية جراء ذلك. لذا؛ فإنّ المضمون العملياتي للمطالبة بوقف إطلاق النار، بعد استنفاد الحرب الإسرائيلية جولاتها المركزية؛ كان يعني إلقاء للكرة في الملعب الفلسطيني بالقطاع، وهي كرة النار الملتهبة التي أريد لغزة أن تبتلعها وتسكن بلا ردّ.

 

لم يتمكن المتابعون لدقائق المجريات، أن يلحظوا موقفاً واحداً من عباس أو الجناح الفلسطيني المتمركز في رام الله والقاهرة معاً، يخرج قيد أنملة عن الإطار العام للموقف الرسمي المصري وتحركاته. هكذا بدا مفهوماً تماماً أن يقاطع عباس ومندوبوه "قمة غزة الطارئة" في الدوحة، رغم الكلفة الشعبية الباهظة التي تكبدها جرى تركه مقعد فلسطين الرسمي شاغراً في المؤتمر. وهكذا أيضاً، جاء حضور عباس شخصياً قمة شرم الشيخ الطارئة، متوقعاً حتى قبل الإفصاح عن اسمه في سجلّ المدعوين.

 

مسار العربة السياسية

 

في كل المحطات التي شهدتها تلك المرحلة الدقيقة التي استغرقت ثلاثة وعشرين يوماً بلياليها؛ كانت عربة المعركة السياسية إياها تسير على قضيبين متوازيين تماماً، أحدهما في القاهرة وثانيهما في رام الله، مدفوعة بقاطرة "الاعتدال العربي" وتحالفاته وتوافقاته الممتدة من واشنطن عبر بعض العواصم الأوروبية وربما وصولاً إلى تل أبيب ذاتها، كما يحلو لبعض المراقبين أن يفهموا المشهد.

 

يعني ذلك أنّ تصلّبات المواقف في القاهرة كانت كذلك في رام الله، وأنّ انعطافة السكّة في العاصمة المصرية لها انعكاساتها أو الاستجابات لها في قيادة السلطة الفلسطينية.

 

بهذا بدا مفهوماً أن تبرز في البدء لغة تحميل المقاومة الفلسطينية وحركة "حماس"، المسؤولية الضمنية عن العدوان الإسرائيلي، لكنّ المأزق الميداني الذي علق فيه الجيش الإسرائيلي طوال الأسابيع اللاحقة، أتاح المجال أمام بروز تعبيرات إدانة الحرب الإسرائيلية، وإن بصورة توحي بالالتباس. هكذا أخذ متحدثو القاهرة ورام الله يردِّدون، استدراكاً، تلك العبارة الشهيرة التي أمكن التقاطها مراراً "بالطبع نحن أدنّا وندين العدوان، لكن ..".

 

مع ذلك، كان جليّاً أنّ الرسائل السياسية المشتركة التي عبّرت عنها القاهرة ورام الله في الأيام الأولى، نحت للتركيز على أنّ "حماس" مسؤولة عن الحرب الجارية، لأنها "لم تقم بتجديد التهدئة". بل جرى التلويح الضمني بأنّ القاهرة ورام الله، وربما أطراف عربية أخرى، كانت مطلعة بشكل جيد على المخططات الإسرائيلية و"خطورتها"، بمعنى إدراك أنّ قرار شنّ الحرب الإسرائيلية على غزة لم يكن سراً، في إطاره العام على الأقل.

 

وقد تضافر الموقف المشترك ذاته، في السعي الواضح لإبطاء التحرّك العربي آليةً ومضموناً. فمن الناحية الآلية؛ لم تطالب القاهرة ورام الله بعقد مؤتمر قمة عربية عاجلة، بل تم الاكتفاء ابتداء بالتعويل على الاجتماع الوزاري، الذي تم التنادي لعقده في اليوم الخامس للعدوان، بينما، للمقارنة، تم التحضير لقمم الرياض والدوحة وشرم الشيخ بشكل خاطف. قيل وقتها، إنّ الاجتماع الوزاري العربي ربما كان سيوافق الخواتيم المتوقعة للحملة الحربية الإسرائيلية، وعندها "سيكون القتل اكتمل، والقصف اكتمل، لنأتي نحن كي ندين ونشجب"، بتعبير الرئيس السوداني عمر البشير.

 

من بعد الاجتماع الوزاري جرى التركيز في القاهرة ورام الله على جدوى التحرّك صوب مجلس الأمن، وليس إلى قمة عربية طارئة بكل تأكيد. ثم إنّ المضمون الذي حدّدته "المعركة السياسية" للتحرك العربي، تمثل في "التحرك من أجل وقف التصعيد"، مع إبقاء الكيفيات والحيثيات مُبهَمة.

 

لكنّ الصورة الضبابية انقشعت عن "المبادرة المصرية" في لحظة مُربِكة، وتحديداً بينما كان الوفد العربي رفيع المستوى يستهلّ تحركاته في مجلس الأمن. لم يكن مفاجئاً أن تسارع رام الله لتأييد المبادرة، والنفخ فيها، واعتبارها ملاذاً ملائماً تماماً. بل كان لافتاً أنّ مسؤولي السلطة قدّموا المبادرة باعتبارها آلية تنفيذ قرار مجلس الأمن 1860، أي خارطة طريق له.

 

وفي ما كانت المداولات والسجالات الإعلامية تتوالى وتتصاعد، كان العدوان يواصل رسم مشهد جديد لقطاع غزة، قوامه الأنقاض والأشلاء.

 

أما في الفضاءات الشعبية؛ فكانت الأعراض الجانبية لاصطفاف جناح السلطة برام الله، مع الموقف المصري المثير للجدل، مدعاة كافية لأن تشمل موجة الحنق عباس ذاته، الذي تردّد أنّ صوره قد تعرّضت للإحراق إلى جانب أولمرت وباراك وليفني في عدد من العواصم العربية والإسلامية، بينما حاصرته اتهامات "التواطؤ مع العدوان" من كلّ اتجاه. أي أنّ الثمن الذي دُفع للرهانات المتعجلة جاء باهظاً، وقد ترتفع كلفته مع الأيام إذا ما تعاظمت صورة انتصار غزة من وحي قصة الصمود التي حطّمت معظم التوقعات.

 

 كيف أمسكت القاهرة بالزمام؟

 

لم تمسك القاهرة بالزمام من فراغ. فقبل خمس وعشرين سنة خرج الرئيس الراحل ياسر عرفات من طرابلس، في يوم خريفي من سنة 1983، مثخناً بجراح الانشقاق الفلسطيني الداخلي ووطأة التضييق العربي، ليتجه في رحلة تاريخية إلى العاصمة المصرية القاهرة، سيكون لها ما بعدها. طرق زعيم منظمة التحرير في ذلك الوقت باب التسوية السياسية من عنوانه الإقليمي المعتمد. وتطلّب الأمر عشر سنوات حتى نضجت الظروف لتوقيع أول اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي، عبر قناة تفاوض خلفية تم شقها في العاصمة النرويجية، أوصلت مباشرة إلى واشنطن.

 

تعزز منذ ذلك الحين نفوذ القاهرة الرسمية في عملية صنع القرار الفلسطيني، ولم تكن الأمور دوماً على النحو الأمثل. فقد توالت التطوّرات بين مدّ وجزر، كانت حرب الخليج (1990 ـ 1991) بمثابة القاع فيها، عندما اصطفت قيادة عرفات بعيداً عن الموقف المصري المتحالف مع الولايات المتحدة.

 

لكنّ سحابات الصيف واصلت مسيرها، لتحظى مصر بنفوذ متزايد مع قيام السلطة الفلسطينية. وتعمّق الاصطفاف إلى درجة أوحت أحياناً بأنّ القاهرة تعي ما تقول عندما تقول إنّ القضية الفلسطينية هي قضية أمن قومي مصري، أو هي قضية مصرية أيضاً.

 

 مصر ومنعطف القيادة الفلسطينية الجديدة

 

بلغ الأمر مبلغه إلى أن اندلعت انتفاضة الأقصى، وبدا أنّ عهد عرفات يتجه للأفول، مع الحنق الأمريكي والاستهداف الإسرائيلي والتناسي المصري. بقي عرفات بدءاً من نهاية سنة 2001 مُحاصَراً في مقاطعته، دون أن تتدخل القاهرة لفك العزلة عنه أو استخدام ضغوطها الممكنة لصالحه. ومنح الإحجام الرسمي المصري زخماً للخيالات الخصبة، إلى درجة أنّ المعلقين الإسرائيليين بالغوا وقتها في وصف المشهد المأساوي لمآلات الاصطفاف. كتب أحدهم في تعليق منشور بالعبرية قبل شهور من الوفاة الغامضة للرئيس عرفات، إنّ وزير المخابرات "عمر سليمان زار المقاطعة برام الله، وجاء بقائمة من المطالب، وأنه المسؤول المصري خاطب عرفات كآخر ماسحي الأحذية في القاهرة". قد لا يكون الازدراء هو الوصف الأمثل للكيفية التي أدارت بها القاهرة علاقتها مع قيادة عرفات في خواتيمها، لكنّ القيادة المصرية أفسحت الطريق بالتأكيد أمام بروز "قيادة فلسطينية معتدلة"، جمعت وجوهاً مفضلة بالنسبة لإدارة جورج بوش المنصرفة، من قبيل محمود عباس سياسياً، وسلام فياض مالياً، ومحمد دحلان أمنياً.

 

مع بروز قيادة عباس، تحوّل الاصطفاف مع القاهرة إلى حالة من التماهي الكامل. كان الراحل عرفات يدير أوراقه السياسية وعلاقاته مع الأطراف بمعادلات خاصة توازن بين الالتزامات والتقديرات. لكنّ ضعف القيادة الرسمية الجديدة في رام الله، بدا وثيق الصلة بتفجُّر الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وترك المشهد الرسمي الفلسطيني مكشوفاً على تلاعبات الخارج، حيث الولايات المتحدة حاضرة مباشرة في الميدان، وليصبح شعار "القرار الفلسطيني المستقل" مجرد عبارة مسلِّية لا تنسجم مع الزمن الجديد.

 

الإمساك بالخيوط الفلسطينية

 

حِرص القيادة المصرية على الإمساك بالخيوط الفلسطينية، جعل من القاهرة عنوان "الوساطات" و"الحوارات" و"التهدئات". بل ظلّت الأطراف الفلسطينية كافة معنية بعدم إثارة حنق صانع القرار المصري، الذي أيقن الجميع أنه يواكب عظائم الأمور ودقائقها. لكنّ الحراك الذي أتت به الحرب على غزة، كفيل بفرض معادلة جديدة لا يبدو المسؤولون المصريون متيقنين بشأن مآلاتها.

 

فبينما تشعر القاهرة أنها تمسك بخيوط رام الله، فإنّها تعي أنها تخاطر في الوقت ذاته بدورها الإشرافي العام على الساحة الفلسطينية ككل. يعلم المسؤولون المصريون أنّ الخطوط ليست سالكة على النحو الأمثل، مع المقاومة الفلسطينية بعامة و"حماس" بخاصة، حتى مع استمرار وفود الحركة التي كانت في بؤرة الاستهداف طوال شهر، في التوافد على القاهرة. ولم تخطئ الرسالة القادمة من دمشق عنوانها، عندما لوّحت فصائل المقاومة بوساطات "مصرية وتركية وسورية وقطرية". هي، ببساطة، المرة الأولى التي لا تستأثر القاهرة بامتياز "الوسيط".

 

التحرّر من وطأة الالتزامات

 

في هذه اللحظة التاريخية تسارع قوى المقاومة الفلسطينية إلى التحرّر النسبي من قيود مصر الرسمية، وتجد أنّ في ذهاب القاهرة بعيداً في مواقفها وحدّة خطابها خلال حرب غزة، ما يسعفها على تجاهل بعض "الالتزامات" ذات الوطأة، مع الإبقاء على هوامش معقولة من التواصل.

 

وعلى إثر انقشاع دخان القصف، وإخفاق العدوان الإسرائيلي عن "جزّ رؤوس" قادة "حماس" والمقاومة، ظهر الوزير أبو الغيط، ليرسل أول إشارة إيجابية صوب "حماس"، معتبراً أنها "جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية".

 

فهل ذهبت القاهرة بعيداً في تخندقها بما استوجب الاستدراك؟ أم أنّ رهانات الميدان لم تأتِ بما تشتهي السفن؟ أم أنّ الخيارات السياسية التي طرحتها القاهرة طوال الحرب وتبخّرت جميعها على عتبة الموقف الإسرائيلي "أحادي الجانب" قد أثار الحنق المصري ودفع باتجاه إعادة نظم المشهد؟ أم أنّ الأمور ستبقى على حالها، ولا تتجاوز حدود المنعطفات اللفظية التي لا يجدر تحميلها أكثر مما تحتمل؟ أم أنّ مزيداً من بالونات الاختبار سيجري إطلاقها قبل أن يستقرّ المشهد الفلسطيني الجديد؟

 

الأيام وحدها قد تحمل الإجابات على الأسئلة العالقة التي انقشع عنها دخان القصف، أما "المعركة السياسية" فلا زالت على الأرجح في ذروتها، وتجد القاهرة ورام الله أنّ زورقاً واحداً يجمعهما، إلاّ أنّ الأمواج تعلو من حوله في كل اتجاه.