خبر انكسار الهجمة لا يترك مجالا للشك فيمن أخفق ..د. بشير موسى نافع

الساعة 07:23 م|22 يناير 2009

ـ القدس العربي 22/1/2009

قبل أقل من أربعة أسابيع، أشرت في هذا الموقع إلى أن نهاية الهجمة الإسرائيلية بتوفر الشروط التالية يعني إخفاقاً إسرائيلياً قاطعاً:

1- بقاء حكومة حماس في قطاع غزة، بصفتها حكومة منتخبة لا يجب أن تتغير بدون إرادة انتخابية فلسطينية أو توافق وطني.

2- بقاء قوى المقاومة، واحتفاظها بقدراتها على المقاومة.

3- انتهاء الحصار المفروض على قطاع غزة، حصار المنافذ، والحصار السياسي على السواء.

عند كتابة هذا المقال، كان الإسرائيليون قد أعلنوا وقف النار من طرف واحد، وبدأوا الانسحاب من المناطق السكانية في أطراف المدن، التي كانوا قد احتلوها بعد مقاومة باسلة، والتمركز في المحيط الزراعي للقطاع، وفي الممر الرملي الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه. بعد قصف فلسطيني بالصواريخ لأهداف إسرائيلية استمر إثنتي عشرة ساعة بعد الإعلان الإسرائيلي، أعلنت قوى المقاومة من جانبها عن وقف إطلاق نار لمدة إسبوع، انتظاراً للانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع. كافة الدلائل تشير إلى أن شروط إخفاق الهجمة الإسرائيلية الأخرى في طريقها إلى التحقق.

كان الإسرائيليون، وبعد ثلاثة أسابيع من المفاوضات الشاقة التي قادها المصريون والأتراك، قد فاجأوا الجميع بالذهاب إلى واشنطن، وتوقيع بروتوكول تفاهم مع الجانب الأمريكي، يتعلق بالتعاون الاستخباراتي لمنع تهريب السلاح إلى قطاع غزة، والعمل في البحر وعلى الحدود بين مصر والقطاع لتحقيق الهدف ذاته. بالرغم من الضجيج الإعلامي الذي أحاط بهذا الاتفاق، فإن ما ضمه لا يخص الجانب الفلسطيني بأي حال من الأحوال؛ فالفلسطينيون ليسوا مسؤولين عن تأمين مصالح وشروط سيادة دول عربية وإسلامية مستقلة وذات سيادة، وهذه الدول هي المسؤولة عن مواجهة أية إجراءات قد يحاول الأمريكيون أو الإسرائيليون أو منظمة حلف الناتو فرضها في أعالي البحار أو داخل حدود دولة ما. في أحد جوانبه، كان التفاهم الإسرائيلي ـ الأمريكي هروباً من الساحة الحقيقية للصراع والحرب، وتعبيراً عن العجز عن فرض الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين. في جانب آخر منه، كان الاتفاق محاولة لانتهاك السيادة المصرية على وجه الخصوص؛ لأن حدود قطاع غزة البرية الوحيدة مع العالم هي الحدود مع مصر. ولذا، فقد جاء الاتفاق مفاجأة خاصة للقاهرة، وسرعان ما أطلق ردود فعل غاضبة من الرئيس المصري ووزير خارجيته، أكدت على رفض مصر لأي تواجد دولي على الجانب المصري من الحدود.

بيد أن الإعلان الإسرائيلي عن وقف إطلاق النار، بدون اتفاق، كان مفاجأة أخرى للقاهرة، واستبطنت إدارة ظهر إسرائيلية للمبادرة المصرية، بالرغم من محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي تلطيف المفاجأة بالادعاء أن قرار وقف إطلاق النار كان استجابة لدعوة القاهرة. ما إن أدرك المصريون أن الحكومة الإسرائيلية لم تعد تضع المبادرة المصرية في اعتبارها حتى سارعت إلى عقد مؤتمر قمة مصري ـ أوروبي، التحق به أيضاً كل من الرئيس التركي، الملك الأردني ورئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني. كان المؤتمر في الأصل فكرة تركية، والمفترض عقده بعد نهاية الحرب وبعد تسلم أوباما مقاليد الرئاسة الأمريكية، لوضع أسس ترتيبات طويلة المدى وبدء عملية إعادة إعمار القطاع وإعادة إطلاق عملية السلام. ولكن المفاجأة الإسرائيلية فرضت على القاهرة المسارعة في عقد المؤتمر. وقد استهدفت قمة شرم الشيخ تحقيق هدفين: الأول، الضغط على الدولة العبرية لتنفيذ بنود المبادرة المصرية في خطوطها العامة، حتى بدون اتفاق رسمي مسبق؛ ومحاولة فتح نافذة لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، في إطار من مصالحة وطنية بالشروط السابقة على العدوان، لتجنب أن تكون حكومة حماس هي من يقود حركة إعادة بناء القطاع. ما يبدو أن الهدف الأول قد تحقق، بمعنى أن الإطار العام للمبادرة المصرية أعيد له الاعتبار، بدون أن يعني هذا أن قوى المقاومة ستقبل بالتفاصيل والشروط التي يطلبها الإسرائيليون وبعض الأوروبيين. ولكن الهدف الثاني لن يتحقق بسهولة، لأن الوقائع على الأرض تشير إلى تراجع ملموس في موقع ودور وشرعية سلطة رام الله.

ستكون المفاوضات من أجل ترتيبات الإشراف على المعابر وانتهاء الحصار في شكل كلي وشامل ودائم والعودة إلى ما يسمى بالهدنة عسيرة، ليس فقط لأن القاهرة ترفض وجوداً أجنبياً على الأراضي المصرية من الحدود، ولكن أيضاً لأن الفلسطينيين في القطاع لن يقبلوا بأية قوات دولية في قطاع غزة. وقد بات واضحاً أن الإسرائيليين لن يحصلوا على تهدئة دائمة من الفلسطينيين، مهما بلغت الضغوط. ما قد يتبع ذلك من جهود لإطلاق مصالحة وطنية فلسطينية، لن يكون أقل تعقيداً. فالحوار الوطني لن ينجز الآن ضمن الشروط السابقة، التي أثبتت أصلاً أنها لم تكن كافية لبدء هذا الحوار في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. حماس قد لا تقبل بالحوار الآن بدون إفراج كامل عن مئات المعتقلين من تنظيمات المقاومة في سجون سلطة رام الله؛ كما أن من المستبعد أن يكون هناك حوار قبل تراجع السلطة عن إجراءات إغلاق عشرات المؤسسات الخيرية والاجتماعية في الضفة الغربية؛ إضافة إلى أن بقاء سلام فياض رئيساً للوزراء، وهو الذي عين في موقعه بطريقة غير دستورية، وتعهد برنامجاً أمنياً لتدجين الضفة الغربية، قبل وأثناء الحرب على قطاع غزة، سيكون عقبة في طريق الحوار. إحدى أهم أهداف محاولة الحوار الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كان حصول عباس على تفويض وطني فلسطيني باستمرار التفاوض من أجل تسوية نهائية للصراع. هذا الهدف لن يمكن تحققه في حوار وطني قادم، بدون الاتفاق على وجود رقابة وطنية جادة على عملية التفاوض.

في نهاية هذه الجولة من الصراع، وكما في نهاية حرب صيف 2006، سيشهد الجانبان العربي والإسرائيلي جدلاً حاداً حول من أخفق ومن كسب، وربما سيكون المشاركون في جانبي الجدل هم أنفسهم، وتكون مقولات الطرفين هي نفسها. ما يغيب عن الكثيرين من أطراف هذا الجدل أن الأمم لا تختار عدوها دائماً؛ وقد وجد العرب أنفسهم أمام عدو يرى نفسه فوق القوانين والأعراف الإنسانية.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرف فيها العرب على ما يمكن أن يحدثه الصراع مع الدولة العبرية من موت ودمار، منذ حرب 1948 التي مسحت قرى ومدن فلسطينية من الوجود، وحرب الاستنزاف التي أوقعت دماراً شاملاً بكل مدن القناة المصرية، وحصار بيروت وحرب 2006 المدمرتين.

كان ثمن صمود قطاع غزة باهظاً بلا شك، ولكن الخيار الآخر كان في الاستسلام والمزيد من تمادي الهيمنة والسيطرة الوحشية الإسرائيلية. والمؤكد أن آلة الدمار الإسرائيلية توجهت أساساً نحو المدنيين الفلسطينيين، بشراً وسكناً ومؤسسات. خسائر قوى المقاومة كانت ضئيلة إلى حد لا يمكن حتى وضعها في حسابات نتائج الحرب.

من جهة أخرى، كانت المصالحة العربية في الكويت في الحقيقة ليست أكثر من تعبير عن مكر النظام العربي الرسمي على شعوبه، ومحاولة لامتصاص غضب الشارع. أشارت كلمات الرؤساء والملوك العرب في افتتاح القمة إلى حجم التحول الذي أحدثته الحرب الإسرائيلية على غزة، الصمود الهائل في مواجهة العدوان، وما صاحب الحرب من تطورات على صعيد المواقف العربية، ولكن بيان القمة أعاد التوكيد على الهوة الفاصلة بين النظام العربي الرسمي والشعوب.

بالرغم من الآثار الفلسطينية والعربية والعالمية الكبيرة لهذه الحرب، فلن تكون الاخيرة في هذا الصراع. ثمة إدراك أوروبي متزايد (تعززه التحولات المطردة في الرأي العام الأوروبي تجاه الدولة العبرية)، بأن الصراع في الشرق الأوسط آن له أن ينتهي، وأن على القوى الغربية مسؤولية متعاظمة للعمل على حل نهائي لهذا الصراع.

وربما ستظهر إدارة أوباما جدية أكبر في التعامل مع هذا الملف، وتبذل جهوداً سريعة في هذا الاتجاه. ولكن المسألة الفلسطينية، كما هي في أصولها التاريخية، أوسع بكثير من الدائرة الفلسطينية. وحتى في الدائرة الفلسطينية الصغيرة، فإن سقف ما تقدمه الدولة العبرية للفلسطينيين أقل بكثير من حد الفلسطينيين الأدنى، سيما بعد التحولات المتسارعة في خارطة القوة الفلسطينية. والتآكل في قوة الردع الإسرائيلية لم يبدأ في حرب صيف 2006، بل ومباشرة بعد الانتصار الإسرائيلي الهائل في حزيران/يونيو 1967. منذ ذلك الانتصار قبل أربعين عاماً لم تحقق الدولة العبرية انتصاراً واحداً، لا على الجيوش العربية النظامية، ولا على قوى المقاومة غير النظامية.

ولأن هذه الدولة ولدت من رحم عنف دموي استيطاني، وعاشت على العنف، فستظل تطارد وهم الردع. وليس لأحد أن يستبعد حرباً اخرى في المستقبل القريب أو الوسيط، حرباً ضد إيران، أو ضد حزب الله، أو ضد الفلسطينيين.