خبر في غزة: برغم الآلام..المقابر ملتقى أهالي الشهداء وأطفال يلهون حول مقابر أمهاتهم

الساعة 12:51 م|21 يناير 2009

فلسطين اليوم-غزة

"اليوم جئتك يا ابني، جئت اسلم عليك، غبت عني وكنت تأتيني وكنت بين إخوانك، والله الحياة ما لها طعم بدونك".. بهذه الجملة المفعمة بنار الفراق، والممزوجة بالدموع كانت تناجي والدة الشهيد "بهاء أبو زهري" قبر ولدها بعدما زينته بأكاليل الزهور وصوره، في مقبرة الشهداء التي تحولت إلى حديقة مزينة بكافة ألوان الزهور والورود، وأصبحت متحفا لصور الشهداء، وملعبا حزينا لأطفال الشهداء الذين حضنوا قبور آبائهم ولعبوا بجوارها، حيث غصت المقبرة بالمئات من ذوي الشهداء وأطفالهم بعد وقف إطلاق النار وإنهاء العدوان على غزة بعد 22 يوما من القتل وسفك الدماء.

 

حول قبر الشهيد أبو زهري  تجمع عدد من النساء يذرفن الدموع، وكل منهن تتمتم بحديث غير مفهوم كأنها تناجي أحدا أمامها. اقتربت من إحداهن وإذ بها والدة الشهيد تستقبلني بالحلوى، وتقول لي فور أن عرفت بمهنتي "كان لا بد أن أقضي هذا اليوم إلى جوار ولدي  بجواره أوانسه وأزيل وحشته، وأحدثه" وأضافت: "الحق أنني لا أرى سوى كومة من الحجارة، ولكني أشعر أنها جزء من ولدي؛ لأنها تضم تحت ثراها جسد ولدي الطاهر، وروحه ترفرف حولها، فأشعر أن ولدي أمامي؛ فتهدأ قليلا نار الفراق، وخاصة أن هذه الزيارة الأولى له بعد وقف العدوان". وتابعت الأم المكلومة وهي تكفكف دموعها "أعرف أن زيارة القبور غير مستحبة للنساء، ولكن ماذا أفعل بنار قلبي التي تقتلني إذا لم أشم رائحته وأكحل عيني برؤية قبره". وقد استشهد بهاء أبو زهري (17 عاما) في اليوم الأول للعدوان على غزة.

 

وعلى بعد أمتار قليلة من قبر أبو زهري، يقع قبر الشهيد "معين القن " الذي استشهد في اليوم الأول للعدوان أيضا بعد أن كان في طريقه بالقرب من مجمع الدوائر الأمنية والتي قصفته طائرات "اف 16" بمجموعة من الصواريخ وقد تجمعت مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 10-12 عاما حول قبر الشهيد القن، يغرسون الزهور في كومة التراب الذي يحدد معالم قبره. وتحدث إلينا أحد هؤلاء الأطفال (محمد) عن سبب مجيئه إلى المقبرة بدل أن يذهب ليلعب كباقي الأطفال- وقال: "أحب أن أزور أبي وكل الشهداء الأطفال الذين كنت ألعب معهم في الشارع"، ثم أضاف بنبرة حزينة "واليوم جميعهم بالمقبرة، فجئت لأزوره وأقبّل قبره .. وأنا إن كنت لن أراه، ولكني سأقرأ له الفاتحة وأدعو الله أن يرحمه ويقبله شهيدا".

 

وقاطعه زميله "هيثم " بقوله: "أقلّ شيء يمكن أن نقدمه للشهداء أن نزرع لهم وردة على قبورهم؛ لنؤكد لهم أننا لن ننساهم، وسنعيّدهم بدمائنا" وتساءل "متى أستشهد أنا وألحق بهم؟ أريد أن أموت وأنا صغير حتى لا أودّع مزيدا من الشهداء".

 

ولا يقتصر الأمر على وضع أكاليل الزهور، بل إن بعض الأهالي أخذوا يرشون قبور شهدائهم بالماء، وحول قبر الشهيد "قريب عابد وهو محامي" والذي استشهد أول أيام العدوان تجمع أفراد أسرته؛ فوالدته وخالته وأخته أخذن يسكبن الماء على قبره، ظننت في البداية أنهن يغسلن القبر من التراب، ولكنني فوجئت عندما أرهفت السمع أن والدته تحدثه بقولها: "اشرب يا ابني، لن أتركك عطشان، سأروي تربتك بالماء لعل الله يبشش التربة تحت رأسك"، وقاطعتُ حديثها أسألها عن سر الماء الذي تسكبه فقالت لي: "حملت معي الماء عند زيارته لأروي تربته بالماء"، واكتفت بهذه الجملة لتتحدث من جديد مع قبر ولدها: "الكل يسلم عليك ويدعو لك بالرحمة، وسيقرأ أخوك لك القرآن"، وفور أن بدأ شقيق الشهيد "عابد" يقرأ القرآن جلس النسوة ينصتن لتلاوته.

 

وربما الأمر أشد صعوبة لدى أطفال الشهداء الذين ارتبطت عاطفة الأمومة لديهم بالقبر، واختلطت عليهم الأمور فأصبح أحدهم يعتقد أن أمه هي القبر؛ فيحتضنه ويقبله ويتحدث إليه، فالطفل "مجد" ابن الشهيدة "ايمان ابو عريضة " اختلطت ذكريات أمه  بقبرها، وأصبح يعتقد أن أمه التي استشهدت في 5 كانون ثاني (يناير) 2009 في قصف طائرات "اف 16" لتجمع منازل في مخيم الشابورة وسط رفح،  تحوّل إلى قبر، وجاء مجد برفقة أشقاؤه السبعة لزيارة والدتهم الشهيدة، لذلك أخذوا يلعبون فوق قبرها ويجروا حولها وكأنهم يداعبونها. أما أخته الصغيرة هند (عامان) فقالت ببراءة عندما سألتها عن أمها "ماما في الجنة".