صراع الضحايا وضحايا الصراع ..بقلم د. وليد القططي

الساعة 11:49 ص|20 مارس 2019

فلسطين اليوم

بقلم د. وليد القططي

سبارتاكوس، فيلم أمريكي ينتمي للدراما التاريخية، يؤرخ لثورة العبيد الثالثة، في الإمبراطورية الرومانية القديمة قبل الميلاد، اسم الفيلم هو اسم قائد الثورة (سبارتكوس)، سبارتكوس كان رجلاً حُراً ثم اُستعبد لسببٍ ما كغيرهِ من آلاف البشر البؤساء، وآلاف الآدميين التُعساء، ضحايا نظام العبودية السائد في الإمبراطورية، هؤلاء العبيد البؤساء والتُعساء يتم تقسيمهم إلى فئات حسب الأعمال المفروضة عليهم، لخدمة السادة من النبلاء والأعيان الرومان، ومن هذه الفئات مجموعة يتم تدريبهم بقسوة؛ ليصبحَ مُصارعاً في مباريات الموت، هذه المصارعة أو المُجالدة غالباً ما تنتهي بموت أحد المتصارعين، ونجاة الآخر إلى حين المباراة التالية، ليُقتل حتماً أمام متصارع من العبيد أقوى منه في مباراة أُخرى، من أجل تسلية وإمتاع السادة والجمهور الروماني، وهم يشاهدون دماء الضحايا المتصارعين تُهرق، وأرواح البؤساء المتقاتلين تُزهق.

سبارتكوس كان من فئة المتصارعين المدربين على القتل، ولكنه لم يحتمل حياة العبيد غير الآدمية، ولم يرضَ أن يكون مصيره مرتبطاً بدائرة القتل العبثي إرضاءً للسادة، فتمرد وثار على هذا الواقع البائس والمصير المأساوي، بعد أن عرف أنه لن يخسر سوى القيد المُهين والموت الذليل، وأعلن ثورته من حلبة الموت ليوّجه سهامه إلى السادة الطغاة، بدل توجيهها إلى الضحايا المستضعفين أمثاله، فتبعه آلاف البؤساء المُستعبدين المتعطشين للحرية، والتواقين للانعتاق من نير العبودية، فانتزعوا حريتهم من فك عدوهم، وقاتلوا مستعبدهم وطغاتهم، لمدة عامين من الزمان، عاشوا فيها أحراراً أعزاء، بعد أن كانوا عبيداً أذلاء، حتى قتلوا في ميدان الوغى رجالاً عظماء، فماتوا أحراراً أعزاء، بعد أن رفضوا

أن يُقتل بعضهم بعضاً في مباريات الموت، ليكون القاتل والمقتول ضحية على مذبح السادة الطغاة.

الصراع حتى الموت على حلبة المصارعة الرومانية بين البؤساء المستعبدين، هو في الحقيقة صراع بين الضحايا يتكرر بصور مُختلفة عبر التاريخ، ومن أمثلته الصراع بين إمارتي الغساسنة في الشام التابعة للروم، والمناذرة في العراق التابعة للفرس، فالصراع بين الإمارتين العربيتين قبل الإسلام هو مصارعة بين الضحايا لصالح الإمبراطورتين الرومانية والفارسية، من أجل تحقيق مصالحهما ونيابة عنهما، والنتيجة زوال الضحايا وإمارتيهما، وبقاء السادة وإمبراطوريتهما إلى حين، وهذا الشكل من الصراع بين الضحايا لا زال مستمراً بين العرب المهجنين والأعراب المستنسخين، مع فرق بسيط هو تغيّر السادة من الروم والفرس، إلى سادة غيرهم كالجرمان، والطليان، والفرنجة، والانجليز... وصولاً إلى الأمريكان والروس ومعهما يهود الصهاينة... وآخر أشكال صراع الضحايا ما أنتجته ثورات الربيع العربي القاحل من ثورات دموية، وجماعات إرهابية، ووحوش بشرية، تجيد صناعة الموت، وتنفيذ مخططات السادة.

أما فيلم سبارتكوس في نسخته الفلسطينية لا ينتمي إلى الدراما التاريخية؛ بل إلى الكوميديا السوداء؛ ذلك بأن السجينُ فيها يُصبح سجاناً، والضحيةُ تلبسُ ثوب الجلاد، والمقهور يتقمّص دور القاهر، والمغلوب يقتدي بسلوك الغالب، والمستضعف يتماهى مع شخصية المستكبر... وقد تكون هذه الظاهرة نوعاً من التوّحد بالمعتدي وفق تفسير مدرسة التحليل النفسي، أو كما جاء في كتاب ( سيكولوجية الإنسان المقهور) لمصطفى حجازي "إن المقهور يتماهى بأحكام المتسلّط الذي يستغل الفرصة ليتسلط على من هم أضعف منه"، أو كما قال ابن خلدون في مقدمته "إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

وإذا لم يكن الأمرُ كذلك فكيف يُمكن تفسير سلوك السلطة وأجهزتها الأمنية في كل من الضفة وغزة في قمع المتظاهرين، واستخدام طُرق قمعية مُهينة ضد المواطنين، وهي سلطة تحت الاحتلال، أو مُحاصرة من الاحتلال، رغم أن القانون الأساسي الفلسطيني أعطاهم الحق في التظاهر السلمي للتعبير عن رأيهم تجاه منهج سياسي وأمني خاطئ. كالتنسيق الأمني، والعقوبات المفروضة على غزة، وملاحقة المقاومين واعتقالهم، وفرض قوانين مناقضة لحقوق المواطنين. أو تجاه سياسة اقتصادية عمّقت معاناة الناس وزادتهم فقراً على فقر، وأضافت إلى حصار الاحتلال وعقوبات السلطة زيادة الضرائب وغلاء الأسعار.

وصراع الضحايا في جميع صوره وأشكاله لا يصلح فيه التقسيم الثنائي القاطع، بين القائل والمقتول، والغالب والمغلوب، والمنتصر والمهزوم، والقاهر والمقهور، والسجان والسجين، والجاني والمجني عليه... فالطرفان المتباينان ظاهراً والمختلفان شكلاً، هما في الواقع متفقان باطناً ومتشابهان مضموناً، فالطرف الضحية هما الذي يقتلهما جميعاً ويقهرهما جميعاً الاحتلال الذي أوقعنا في كمين السلطة، فأوهم بعضنا أنفسهم أنها الطريق إلى الدولة المستقلة، وصدّق بعضنا الآخر بأن السلطة يُمكن أن تحملَ في جوفها نقيضها، وأن تلدَ من رحمها ضدها، فإذا هما سلطتان منفصلتان، أشبه بالكبشين المتناطحين، والضرتين المتناكفتين.

هذا عن صراع الضحايا، أما ضحايا الصراع فأولهم فلسطين بأرضها وشعبها وقضيتها، وثانيهم آلاف بل مئات الآلاف من طوابير الخريجين الواقفين على أرصفة البطالة القاتمة، ومواكب العاطلين التائهين وسط صحراء الفقر القاحلة، وحشود المتسوّلين المصطفين أمام أبواب الجمعيات والشئون والأسواق، وأفواج المهاجرين الهاربين من رمضاء الحاضر المجهول إلى نار المستقبل غير المعلوم، وأجيال الشباب الهائمين على وجوههم المُحطّمة أحلامهم على صخور الاحتلال والحصار والانقسام، وقوافل الأجيال الصاعدة من الفتيان والفتيات المتوقف قطار حياتهم وحياتهن عند محطة البطالة والفقر.... وبعد كل ذلك أما آن للضحايا أن يتوقف صراعهم فيما بينهم وتتوّجه طاقاتهم وتتصوب بندقيتهم نحو جلادهم وعدوهم، كما فعل البطل الثائر سبارتكوس الذي عاش حراً ومات عزيزاً.

 

كلمات دلالية