خبر الشرق الأوسط الإسلامي يـولَد في غزّة ..ناهض حتر

الساعة 03:38 م|20 يناير 2009

ـ الأخبار اللبنانية 20/1/2009

غزة ليست أول مذبحة إسرائيلية بحق الفلسطينيين والعرب. ولا نتحدث عن الماضي، بل عن الأمس القريب. ففي 2002، قام الاحتلال الإسرائيلي بعدوان واسع النطاق على الضفة الغربية لإنهاء انتفاضة الأقصى. وفي عام 2006 شنّ الإسرائيليون حرباً مدمرة على لبنان لضرب حزب الله. وبينهما، شهد العراق أكبر مذبحة في التاريخ الحديث على أيدي الغزاة استمرت بين 2003 و2007 لتدمير الدولة، ولاحقاً المقاومة العراقية. لكن رد فعل الجماهير العربية على تلك المذابح لم يصل إلى هذا المستوى من المشاركة والمثابرة والغضب والثقة، كما ظهر منذ بدأت الطائرات الإسرائيلية تقصف غزة في 27 كانون الأول 2008.

من البديهي القول إن تراكم الغضب في هذا العقد الصعب من تغوّل التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي على المنطقة، كان لا بد له من أن ينفجر في النهاية. وقد انفجر بمناسبة العدوان على غزة. لكن ما نشهده في الحقيقة هو أكثر من تحرك تضامني مع غزة وأقلّ من انتفاضة. ولا يمكننا منذ الآن أن نتنبّأ بمستقبل ذلك التحرّك. ولكن يمكننا أن نلاحظ صيرورته في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي: أوّلاً، تحرّر الوعي الجماهيري العربي من هيمنة ما يمكن أن نسمّيه «أيديولوجية السلام» مع إسرائيل. «أيديولوجية»؟ نعم! فهي تضمّ جملة من الأفكار والرؤى والخيالات والممارسات المتعاضدة التي كان النظام الساداتي قد أطلقها في نهاية السبعينيات لتبرير عقد صفقة كامب ديفيد مع إسرائيل: نبذ الحرب والمقاومة وما ينتج منها من ويلات لمصلحة الدور السحري للدبلوماسية الشطارية غير المكلفة التي تقوم على مساعي التأثير على السياسة الأميركية، ونبذ وجدان التضحية والفداء باعتباره وجداناً عاطفياً وساذجاً وتعبيراً عن «ثقافة الموت» في مقابل «ثقافة الحياة»، وتحويل قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى سلسلة من القضايا الإجرائية التي يمكن حلها بالمفاوضات الثنائية، وبتنازلات هي خير من التضحيات الجسيمة المكلفة، وتحويل الصراع ذاك بكل معانيه التاريخية وظلاله الاجتماعية والسياسية والفكرية، إلى نزاع فلسطيني ـ إسرائيلي، كما لو كان خلافاً حدودياً بين جارين طبيعيين.

الشق الثاني لهذه «الأيديولوجية»، وهو ما يمنحها هذه الصفة، يتعلق بنشر وانتشار رؤى الليبرالية الاقتصادية على مستوى النخب (حتى القومية منها، كما نلاحظ مثلاً في سوريا) وثقافة البزنس على المستوى العام، مقرونةً بالنشاط السلمي المقبول المدعوم مالياً من الغرب، لمؤسسات «المجتمع المدني» من أجل استكمال مشهد السلام والبزنس بالليبرالية السياسية والمدنية.

لكن هذه الدعاوى سقطت تجريبياً. فبعد «التنازل» الذي قدمته إسرائيل في كامب ديفيد بالانسحاب من سيناء عسكرياً لقاء السيطرة سياسياً على مصر كلها، فإن ما أُُطلق عليه تسمية «العملية السلمية» منذ عام 1991 لم يؤدِّ إلى أي تنازل إسرائيلي آخر. بل على العكس، مكّن الاحتلال الإسرائيلي من قضم معظم الضفة الغربية وإعادة تشكيلها بحيث لا تعود تصلح لإقامة أي كيان سياسي مهما كان نوعه. وهي حقيقة جعلت من معاهدة وادي عربة التي وقعتها عمّان مع تل أبيب عام 1994 بلا مضمون. ففي المعاهدة تلك، قدّم الأردنيون تنازلات ضخمة في الأرض والمياه والسيادة، لقاء حماية المملكة من مشروع الوطن البديل، من خلال إقامة كيان فلسطيني في الضفة والقطاع، وإيجاد تسوية «واقعية» لمشكلة اللاجئين والنازحين.

وبينما لم تتمكن سوريا من تحقيق انسحاب الإسرائيليين من الجولان، أو حتى جعل قضية الجولان ساخنة بما يكفي لإبقائها حيّة، استطاعت المقاومة اللبنانية طرد الاحتلال من جنوب لبنان، ثم كسر محاولته البائسة للعودة صيف 2006. وهو سيناريو تكرر مع غزة، سواء لجهة الانسحاب الاضطراري عام 2005، أو لجهة مسعى العودة لتحطيم المقاومة، كما يحدث الآن.

على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، ذابت ثقافة الليبرالية الجديدة وأحلام البزنس على نار الانحدار الكارثي في مستوى معيشة الجماهير وتلاشي الطبقة الوسطى في العالم العربي. ثم جاءت الأزمة المالية الاقتصادية للرأسمالية العالمية لتضع حداً نهائياً ليس فقط لأوهام الثراء السهل والحل الفردي بل أيضاً، للاقتراح الليبرالي كله.

وعلى المستوى السياسي والمدني، بدا واضحاً أن دعاوى الإصلاح ليست أكثر من محرك هامشي لإدماج النخب اليساريّة والمتمرّدة في النظام. فالمسار الواقعي للسلام والليبرالية الاقتصادية أدّى فعلياً إلى تعزيز الاستبدادية والظلامية والتعصّب والتفتّت الطائفي.

ثانياً، فتح الطريق أمام التحرر من الوعي الطائفي لمصلحة نظام إقليمي إسلامي جديد. فالمذبحة الإسرائيلية في لبنان، وما واجهته من مقاومة بطولية، حدثا في أوج تصعيد الدعاوى الطائفية والوعي الطائفي الذي غذّته الحرب الأهلية بين السنّة والشيعة في العراق المحتل. وكان النظامان السعودي والمصري قد أفادا من تشيّع النظام الاحتلالي الناشئ في بلاد الرافدين بعد 2003، وما حظي به ذلك النظام من دعم إيراني على حساب وحدة العراق ومقاومته، لدعم الإرهاب المذهبي الوهابي وتحويل المقاومة العراقية ذات الطابع السنّي عن أهدافها في مقاتلة الأميركيين إلى مواجهة «المشروع الشيعي» وإثارة المخاوف من الخطر الإيراني على نطاق واسع.

ووسط هذه الأجواء المسمومة، استطاع ما سمّي بمحور الاعتدال أن يجاهر باصطفافه مع إسرائيل ضد حزب الله، من دون أن يخشى الثمن. بل إننا نستطيع القول إن ذلك المحور قد نجح في امتصاص الآثار السياسية الناشئة عن العدوان الإسرائيلي وهزيمته في لبنان 2006، إلى حد كبير، مستفيداً من غموض موقف حزب الله من المقاومة العراقية.

لكن الرصاص الإسرائيلي غير المسبوق في إجراميته، ينصبّ على رؤوس فلسطينيين سنّة، وتنبري له مقاومة منبثقة من صفوف الحركة السنّية الأكبر في العالم العربي، حركة الإخوان المسلمين. وفي ما بدا أنه لحظة للوحدة قد تكون مديدة، أظهر حزب الله ما كان متوقّعاً منه على مستوى الدعم السياسي والإعلامي للمقاومة الفلسطينية، بينما انكشفت قوى السلطة الفلسطينية عن موقف «محايد» إزاء المذبحة الإسرائيلية، وموقف معاد للمقاومة التي تواجهها.

ليس سراً أن المقاومة الفلسطينية السنية تحظى بدعم متعدد الأشكال من جانب الدولة الشيعية الإيرانية. بالمقابل، فإن الدولة العربية السنية الأكبر، مصر، تقف علناً إلى جانب إسرائيل في حربها على غزة. والنظام المصري، المذعور من قيام «إمارة إسلامية» قوية ومعترف بها على حدوده، تجاوز كل الحدود بمشاركته في العدوان من خلال تشديد الحصار على قطاع غزة المنكوب، ونشاطه المحموم لتحقيق الأهداف الإسرائيلية من العدوان، ومنع انتصار المقاومة. أما السعودية، بلد التسنّن الوهابي، فهي تخفي وراء صمتها عن العدوان، تأييداً مصمّماً لأهدافه السياسية التي تراها الرياض متطابقة مع مصالح المملكة السعودية التي ترتكز على استقرار محمي بالقوة الإسرائيلية والنفوذ الأميركي، وتقليص حجم النفوذ الإيراني ومداه.

هنا، يأتي الدخول التركي على المشهد الإقليمي كظاهرة استراتيجية. لم يسبق لتركيا، الرسمية أو الشعبية، أن اتخذت هذا الموقف المناوئ لإسرائيل، حليفتها القديمة. وإذا كانت المذبحة الإسرائيلية في غزة، بمثابة صدمة لأي ضمير حي، فإن حجم التحرك الجماهيري التركي لا يدل على عفويته، بل على تحشيد سياسي له أهداف بعيدة المدى. هل قررت تركيا استعادة دورها المشرقي؟ بلا شك. ولكن إلى أي مدى؟ وهل ستستطيع حكومة حزب العدالة والتنمية أن تحوّل هذا الالتفاف الاستراتيجي نحو الشرق إلى سياسة إجماع وطني؟ هذه أسئلة أساسية مطروحة على مرحلة ما بعد غزة. فإذا تمكنت تركيا من كسر العوائق الداخلية التي حالت حتى الآن بينها وبين العودة إلى الشرق، فإننا سنكون أمام نظام إقليمي جديد، يحل فيه الأتراك محلّ المصريين والسعوديين في تمثيل قوة التوازن السنية المطلوبة موضوعياً مع القوة الإقليمية الشيعية القائمة في الدور الإيراني. وإذا أدت نيران غزة إلى إنضاج صيغة للتفاهم بين أنقرة وطهران، فسنكون هذه المرة بالفعل، أمام شرق أوسط جديد، لكن على العكس مما أرادته كوندوليزا رايس، بلا إسرائيل، بل في مواجهتها، وفي سياق ولادة نظام عالمي ما بعد أميركي:

(1) من خلال تقديم الحماية والدعم إلى سوريا التي تمثل الشريك العربي الذي لا بد منه، لاعتبارات جيوبوليتيكية ورمزية وتمثيلية، في النظام الإقليمي الإسلامي الجديد.

(2) ومن خلال تبنٍّ جديد للقضية الفلسطينية سوف يظهّرها على مستويين، حلول المقاومة محل منظمة التحرير الفلسطينية في قيادة الشعب الفلسطيني وتمثيله، وإعادة طرح القضية، دولياً، بوصفها قضية شعب مضطهد ومشرّد ومظلوم، لا قضية تتعلق بأمن إسرائيل وبأراض متنازع عليها، كما سيكون بالإمكان التوصل إلى تفاهم بشأن العراق يمكّن العراقيين من تطوير عملية سياسية وطنية تنهي الاحتلال والنفوذ الأميركي في العراق.

(3) ومن خلال الأسلمة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط، التي ستحوّله إلى قطب دولي. وهي أسلمة، للمفارقة، من شأنها أن تؤدي إلى تحييد الدين والطائفية من العملية السياسية الإقليمية، وإضعاف الوهابية والتعصب والسلفية الجهادية. فالقوتان الوازنتان في الشرق الأوسط الإسلامي الممكن هما قوة سنية علمانية وحديثة، وقوة شيعية سوف تتأثر بهذا الاتجاه. وسيكون من الممكن أن ينشأ عن هذه العملية السياسية الثقافية المعقدة أفق جديد للتنمية في المنطقة.

ثالثاً، تراجع الوعي القومي لمصلحة الوعي الإقليمي والاجتماعي. ويمكننا أن نستنتج ذلك من الضمور غير المسبوق لمشاركة القوى القومية في التحركات الشعبية العربية المعادية للعدوان الإسرائيلي على غزة، لمصلحة المشاركة الإسلامية واليسارية. إلا أن هذا الاتجاه يجد أساسه العميق في انحلال النظام العربي، وتحوّل قواه الرئيسية إلى جزء من الحلف الأميركي ـ الإسرائيلي. إن التاريخ، كالطبيعة، لا يقبل الفراغ. وحين يعجز العرب عن تكوين قوة قطبية عشية ولادة عالم متعدد الأقطاب، فسيكون البديل الإسلامي الجيوبولوتيكي (الإيراني ـ التركي) هو البديل.