خبر المفكر عزمي بشارة يكتب بيان وقف إطلاق النار

الساعة 05:45 م|19 يناير 2009

 

عزمي بشارة

 

* وقف إطلاق النار (1) الذي أعلن ليلة السابع عشر من يناير/كانون الثاني 2009 هو تعبير عن عدم قدرة إسرائيل على الاستمرار بالحرب، وذلك في حملة برية لاحتلال غزة بأسرها.

 

لقد فحص جيش الاحتلال ذلك عمليا باقتحامات شتى ووجهت بمقاومة شرسة. وقلّب قادته الأمر، فوجدوه مكلفا غير مضمون العواقب. ولكن اقتصار الحرب على القصف الجوي والمدفعي لا يحسم المعركة. صحيح أنه يدمر ويقتل ويحرق دون تمييز، وصحيح أنه يكلف المجتمع الفلسطيني ثمنا باهظا، ولكنه لا يحسم المعركة.

 

ومن ناحية أخرى لم يتمكن مبعوثو المخابرات والرئاسة المصرية من فرض الشروط السياسية الإسرائيلية على حركات المقاومة. وهي تتلخص بالتعهد بوقف المقاومة ونزع سلاحها.

 

لقد كان المطلوب هو توقيع المقاومة على "منع تهريب السلاح" وعلى "تهدئة" دائمة أو طويلة المدى. فما كان من إسرائيل أن أوقفت النار من طرف واحد مدعية أنها أنجزت الأهداف من الحملة. ولكنها لم تنجزها.

 

* كانت رايس جاهزة لمنح ليفني أية ورقة تمكِّنها من العودة إلى المجتمع الإسرائيلي بإنجاز ما، ودون انتظار تحقق الإملاءات المصرية على حماس ناهيك بتفاهمات معها.

 

لا نعرف تفاصيل الاتفاق، وأقصد عدا الأمور العامة المتعلقة بتجند الولايات المتحدة لمنع وصول السلاح إلى حماس. وطبعا سوف يتعلق الأمر بمدى استعداد إدارة أوباما لمتابعة التنفيذ ومدى تعاون مصر معهم في ذلك. وبالمجمل، هذه اتفاقيات غير ممكنة التنفيذ دون تعاون عربي.

 

* ما هي الأهداف التي حققتها إسرائيل من حربها على غزة؟ هل هي مدارس وكالة الغوث "الأونروا"؟ هل هو حرق البشر بالفوسفور؟ هل انتصرت الإف 15 على من هم في سن الـ15 عاما مستعيدة هيبة الردع، أو الرعد أو الرعب؟

 

ردعت إسرائيل الأطفال في غزة وفي كافة منازل الوطن العربي. مرحى مرحى مرحى، هورا هورا هورا. لتستمر مقاهي تل أبيب (المدينة دون توقف كما يحبون تسميتها هناك) باحتضان الطيارين الشباب والفنانين والصحفيين الذين يروون النكات عن غزة، وعن أطفال ونساء غزة. فهذا لا يثير انطباعا عند من انطبعت الصور في أذهانهم. كل شيء هنا توقف غير تلك الصور في الأذهان، وكل شيء هنا يتوقف على إنجاز مهمة واحدة، أن يعود التاريخ إلى نفسه في المنطقة العربية وهو لا يشمل إسرائيل. إنه لا يشمل تل أبيب ولا بطرها من حروب قليلة الضحايا عند من يملك الطائرات، ولا فائض سخريتها ممن لا يملكها.

 

* إن ما يحتاج إلى دراسة هو تحول قتل المدنيين، والتباهي باستهدافهم إلى مركب في الثقافة الإسرائيلية.

 

هنالك ميل سادي كولونيالي واضح لدى الشباب الإسرائيلي على مر الحروب لتحويل عذاب الفلسطينيين إلى تسلية. أما رسم الابتسامات وعلامات النصر من قبل الجنود العائدين من المجزرة إلى الحضارة، ومن قتل العائلات إلى عائلاتهم ومن التنكيل بالمدنيين إلى الحياة المدنية. فهو ليس فرح الجبناء فحسب بل طقوس العبور لتشكل الرجولة في مجتمع المستوطنين المستعمرين العابرين.

 

* إذا كان المقصود بتحقيق الأهداف هو الأهداف المعلنة في بداية الحرب، فليس صحيحا ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلي من تحقيق الأهداف. فلم تحقق الحرب الأهداف العلنية المتعلقة بتغيير الوضع الأمني في "جنوب إسرائيل". أما إذا كان الهدف الذي تحقق هو اغتيال قيادات في المقاومة، فقد بات هذا من مسلمات المقاومة. ليس ذلك إنجازا، لأن قيادات المقاومة بحكم تعريفها تتوقع الاغتيال في أي وقت.

 

* توحدت الأمة العربية مع المقاومة، وتوحدت الشعوب معها، إلا في لبنان حيث ينقسم الشعب، ولكن ليس إلى مواقف، بل إلى طوائف.

* وانقسم النظام الرسمي العربي إلى اثنين لكل منهما هوامش ما زالت تتقاطع. ويمكن تمييزها باختصار شديد بما يلي: يعتبر الموقف الأول الاحتلال هو المشكلة وهو سبب الحرب، في حين يعتبر الموقف الثاني مقاومة الاحتلال هي المشكلة ويحملها مسؤولية الحرب.

 

* ومن هذه الزاوية فإن القمة العربية في الدوحة هي استجابة بالحد الأدنى ليس للانقسام الرسمي، بل للرأي العام العربي. والأمر الأهم الذي أنجزته هو كونها أول مراجعة رسمية لخط التسوية. لأول مرة تحصل انعطافة في الخطاب الرسمي العربي منذ أن سيطر عليه خطاب التسويات المنفردة مع إسرائيل.

 

* إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلي المتأخر أن وقف إطلاق النار هو استجابة لطلب الرئيس المصري هو محاولة لإنقاذ المعتدلين العرب. فمن مصلحة إسرائيل أن يبدو المعتدلون شركاء يحظون ببعض المصداقية. لقد كان ضحية القصف الأولى هم المدنيون الفلسطينيون، أما الضحية الثانية فهو التسوية وجماعة عملية السلام.

 

* كان غضب مبارك وأبو الغيط (الذي سعد لدقائق أن تتطلب الوظيفة مرة واحدة تقمص شخصية تشي جيفارا) غضبا تكتيكيا. حماس لم تقبل بشروط المخابرات المسماة أفكارا مصرية، وإسرائيل لم تنتظر. وقد أوقفت إطلاق النار مستغنية عن الجهد المصري. كما كانت هنالك قمة الدوحة التي أثارت غضبا غير تكتيكي إذ طرحت أفكارا أخرى غير المبادرة المصرية، وشاركت فيها أنظمة رسمية متجاوبة بالحد الأدنى مع رأيها العام. كان لا بد من إنقاذ مبارك بتصريح مفاده أن وقف إطلاق النار هو استجابة لطلب مبارك. ولكن هذا التصريح الإسرائيلي تحول إلى إهانة وإساءة لمصر. فإذا كان بوسع مبارك وقف إطلاق النار وإذا كانت إسرائيل تصغي له، فلماذا لم يطلب فيستجاب طلبه قبل عشرين يوما؟

 

* حين ظهر هذا الخطاب المصري الجديد من وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط وحتى الانسحاب، واصل ممثلو السياسة الخارجية استخدام نفس النبرة واللهجة القديمة في حديثهم مع ممثلي حماس في القاهرة، أي واصلوا مطالبتهم بالتعهد بوقف تهريب السلاح وبتهدئة طويلة المدى والعودة إلى اتفاق عام 2005 بشأن معبر رفح. كان ذلك خطابا للاستهلاك المحلي.

 

* يوم 18 التالي لوقف إطلاق النار تنادت بسرعة فائقة دول متفاجئة من استدعائها على عجل. لقد اجتمعت في شرم الشيخ نفس القوى التي بررت وأيدت قتل الأطفال والنساء في فلسطين، والتي تعتبر قتل الأطفال دفاعا عن النفس وقتل الجنود إرهابا.

 

اجتمعت القوى التي تعتبر مصير جندي مثل شاليط جاء لقصف المدنيين من دبابة أكثر أهمية من مصير أهل غزة. دعاهم رئيس عربي يشاركهم تقدير حياة شاليط، ويتعامل مع حياة أبناء شعبه في قطار محترق وعبّارة تغرق وبنايات تنهار باحتقار أشد حتى من احتقاره لأهل غزة.

 

* وما اجتماع القوى الاستعمارية الكهلة في شرم الشيخ سوى إخراج لوقف إطلاق النار، لكي يبدو كأنه نزول عند رغبة مبارك والدول الأوروبية وعملية السلام، وغير ذلك من الكلام الفارغ. وقد جرى إخراج وقف إطلاق النار بعد أن اتخذ القرار في هذه المسرحية لمصلحة إسرائيل والرئيس المصري. اتخذ القرار من طرف واحد، وتبعه إخراج من هذا النوع.

 

قمة شرم الشيخ هي عبارة عن مساندة لدور الرئيس المصري الذي تضرر في هذه المرحلة داخليا وخارجيا. فهو إخراج لوقف إطلاق النار في إطار قوى التسوية ليظهر وكأنه "إنجاز لها"، وليس رغما عن هذه القوى.

 

فنحن لم نر هذه القوى أو نسمع بها طيلة الحرب. لم تحاول تكبيل أيدي إسرائيل أو إدانة قتلها للأطفال، ولم تبد حرصا على حياة المدنيين. وحين يئست إسرائيل من تحقيق أهدافها وتوقفت، تقدمت هي لتقطف وقف إطلاق النار كأنه نتيجة لتحركاتها وليس كنتيجة لصمود المقاومة والمجتمع الفلسطينيين في غزة.

 

* للبنان حدود مع سوريا وإسرائيل والبحر، وتحد غزة مصر وإسرائيل وبحر مغلق. وهذا هو الفرق كل الفرق. إن كان ذلك بالنسبة للمدنيين، وإن كان ذلك بالنسبة للمقاومة. وقد جرت الحرب على أساس هذا الفرق. الدولة العربية المجاورة لم تكتف بعدم دعم المقاومة بل أرادات تلقينها درسا قاسيا. لقنت إسرائيل الدرس القاسي للمواطنين ولم تحقق أهدافها وتوقف إطلاق النار.

 

* وبعد وقف إطلاق النار يدرك المجتمع ما جرى له وما حل به وهو يضمد الجراح ويتفقد الأنقاض. سيبدأ الضغط من أجل المساعدات ومعالجة الجرحى وإعادة الإعمار. ويبدو أن إلإغلاق المستمر للمعبر في رفح، وإمكانيات الدخول والخروج عبر مصر سوف تستخدم للاستمرار في ابتزاز المقاومة لقبول الشروط بعد وقف إطلاق النار.

 

* لذلك فالمهم الآن هو الضغط لفتح المعبر للإغاثة وإعادة البناء، وعدم السماح لإسرائيل أن تتملص بجريمتها، وأن يرفع الحصار. ويجب عدم التسامح مع الأنظمة التي صمتت أو تواطأت، وما زالت، يجب عدم التوقف الآن عن الحملة لفضحها، وذلك لأن هذه السياسة مستمرة ولم تتأثر. فما يقال في الخطابات شيء وما ينفذ على أرض الواقع شيء آخر تماما. ولن يصح أي تعهد تتخذه الدول العربية أو غيرها للمساعدة في إعادة الإعمار، إذا لم يفتح المعبر ولم تصل المساعدات لغزة.

 

* جمع الأموال لإعادة الإعمار يجب ألا ينسي الدول والمؤسسات التي أعلنت نيتها التقدم بدعاوى مطالبة إسرائيل بدفع التعويضات على ما لحق بالناس. لم نسمع عن محاكمات لإسرائيل عن ما اقترفته أيديها في لبنان عام 2006، ونأمل ألا تؤول التهديدات الحالية إلى المصير ذاته.

 

* أما سياسيا فإن المرحلة هي مرحلة وقف توسع خطاب التسوية والتطبيع مع إسرائيل ورده على أعقابه وبدء صعود خطاب سياسي جديد. وهذه عملية بدأت في الدوحة ويجب أن تستمر وتندفع وأن يدافع عنها في الكويت بقوة.

 

* من أهم إنجازات المقاومة في هذه الحرب أن إسرائيل لم تعد خارج القطاع من طرف واحد كنوع من إعادة الانتشار. لقد خرجت في العام 2005 بخيارها كي تجتاحها متى شاءت. وها هي تدرك الحقيقة المرة. لقد تغيرت الأمور خلال عامين. وهي مضطرة أن تحارب كي تعود. فعودتها إلى غزة يعني حربا، وهي حرب غير محمودة العواقب. لم يتحرر قطاع غزة عام 2005، بل تحرر الآن من الاحتلال. لأول مرة منذ عام 1967 لا تجتاح إسرائيل المناطق التي احتلت عام 1967 بسهولة كنوع من إعادة الانتشار، بل تضطر أن تحارب لاجتياحها.

 

* وبقيت قوات إسرائيلية في غزة. ليس لهذا الغرض تصح المقاومة، بل لأن فلسطين كلها محتلة، القدس محتلة والضفة محتلة. وطالما هنالك احتلال هنالك حق بمقاومته. وفلسطين وطن واحد، وقضى الحال والتجربة أنه يمكن مقاومة احتلال غزة من القدس، ومقاومة احتلال القدس من غزة.

 

* ليست غزة دولة مستقلة، ولا شعبا ولا كيانا. ويجب أن تتوقف النبرة التي تتعامل معها كذلك، (وهي نبرة قائمة حتى عند أوساط قليلة في حركة حماس). وهي تقاوم احتلال فلسطين وليس احتلالها وحدها. ولكن غزة لا تستطيع أن تحمل وحدها قضية فلسطين، فهي في ظل الحصار بالكاد "تحمل حالها". ولذلك لا يجوز أن تبقى بقية جوالي الشعب الفلسطيني في الشتات والضفة خارج إطار التنظيم الوطني الذي يجب أن يقود المقاومة. وهو أوسع من حماس.

 

لقد آن الأوان أن تفكر حماس والجهاد والجبهة وغيرهم من طاقات وقوى الشعب الفلسطيني بتشكيل إطار تحرر وطني موحد مقاوم في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، يحمل برنامجا وخطابا مؤهلا لقيادة الشعب الفلسطيني. وجود هذا الإطار وهذا الخطاب هو الذي سوف يشكل القوة الضاغطة والرافعة لإعادة بناء منظمة التحرير.

 

في هذه الحرب أدرك الجميع ما معنى دور الأجهزة الأمنية في الضفة، وما معنى تغييب منظمة التحرير حتى في الشتات وتهميشها من قبل السلطة. ولذلك فإن المهمة أعلاه مهمة تنظيم وتأطير بقية مناطق تواجد الشعب الفلسطيني، هي مهمة لا تحتمل التأجيل. فليست مهمة غزة أن تقاوم عن كل الشعب الفلسطيني، ولا مهمة الآخرين أن يتضامنوا.

 

* لقد قاومت بقية الجاليات الفلسطينية في الماضي، وواصلت الضفة الانتفاضة في حينه حتى حين حوصرت في غزة. فهي ليست جديدة على الموضوع. وما تغير هو قيام السلطة وتهميش الشتات وقيام جيل من الأجهزة الأمنية يقمع شعبه من يناضل ضد إسرائيل وينكل به. وهذا أمر لا يجوز تجاهله عند استخلاص النتائج وإعادة بناء المؤسسات على ضوء ما جرى في هذه الحرب.

 

* لا مشروعية لأية تسوية. ليس الجميع قادرا أو مضطرا للمقاومة، ولكن الجميع قادر على رفض التسوية غير العادلة، وعلى استنباط وسائل للحياة دون تسوية مع إسرائيل والصهيونية.

 

 

 

 

ـــــــــــــــ

مفكر عربي

 

 

(1) لم يستخدم أولمرت في خطابه عبارة "هفسقات إيش" (وقف إطلاق النار) بل استخدم مصطلح "نتسيرت إيش" أي بمعنى ما لجمها وكبحها، والمقصود هو "وقف مؤقت" لإطلاق النار، وقف مرحلي.