خبر المئات من محمد الدرة في غزة: حرب أم حملة؟.. انتصار أم خيبة للعدو؟

الساعة 06:48 ص|19 يناير 2009

حلمي موسى

ما ان تم الإعلان عن وقف النار من طرف واحد، حتى اختلفت الآراء في إسرائيل بشأن ذلك: هل أكمل الجيش مهمته، أم تم إيقافه قبل إنجازها.. وانتهت الهدنة المعلنة بين القوى السياسية والتي كانت كما هي العادة دائما: سكوت إنهم يطلقون النار. ومع ذلك، بدا جليا أن هناك فارقا بين مواقف المستوى السياسي القائل بأن المهمة أنجزت، ومواقف المستوى العسكري الذي قال رئيس الأركان فيه أن المهمة لم تنته بعد. وفي كل الأحوال، فإن كتابات المعلقين في الصحف الإسرائيلية عكست بأشكال مختلفة هذه الصورة وبعض جزئياتها.

ففي »إسرائيل اليوم«، كتب عاموس ريغف ان »الجيش الاسرائيلي شن الحرب، وانتصر. القيادة السياسية شنت الحملة ـ وفوتت الفرصة«. وبحسب ريغف، فإن سبب تفويت الفرصة هذه المرة يعود إلى أن »كل شيء يبدأ بفرضيات على أسس مغلوطة. الجيش الاسرائيلي سيستوعب مئات الإصابات اذا ما تجرأ على الدخول الى قطاع غزة، كما حذر الخبراء. أما خبراء الشؤون العربية، فادعوا بان حماس اصبحت حزب الله. فهتف الجميع بان الحرب في غزة متعذرة، لان الجمهور الاسرائيلي لن يحتملها. لا شيء من هذا حصل. ولكن هذه كانت فرضيات أساس، ومن الصعب التنكر لها حتى حيال واقع ينتصر فيه الجيش الاسرائيلي، يفتت حماس، ويصل الى كل هدف يضعه نصب عينيه، بحد أدنى من الخسائر«.

ويشدد ريغف على انه في الحرب هناك نصر وهناك هزيمة، موضحا انه »في الحرب في غزة، لم يكن هناك من تصميم سياسي. ذات الزعماء الذين قادوا اسرائيل الى فك الارتباط والى التهدئة وأغلقوا عيونهم امام العنوان الواضح على الحائط، الذي كان يحذر من أن هذا سينتهي بالصواريخ على عسقلان واسدود ـ ذات الزعماء هم الذين أمروا الجيش الاسرائيلي، بانعدام شهية، بشن الحرب ـ ولكن، حرب »محدودة«. كتلك التي تؤلم حماس ولكن لا تسقطها. كتلك التي تعيد لنا الردع، استعدادا للمرة التالية ـ ولكن لا تخلق وضعا لا يكون فيه ربما مرة تالية«.

ورغم الحديث عن النصر والهزيمة، فإن إسرائيل لم تحدد بعد ما إذا كانت حرب غزة حربا، وهي لا تزال تتعامل معها على أنها مجرد عملية حربية. وهكذا، فإن ناحوم بارنيع كتب في »يديعوت أحرونوت« »سألت احد مخططي الحملة: ما هذه، حملة أم حرب؟ فأجاب: هذه هي الحملة الأكبر في تاريخ الجيش الاسرائيلي. من زاوية نظر عسكرية إسرائيلية، هي حملة محدودة، حملة لفرقة. ولكن من ناحية الفلسطينيين في غزة، هذه حرب بكل معنى الكلمة. وهذا يعيدنا الى الجدال في العام ١٩٨٢ حول حق اسرائيل في شن حرب بخيارها. حرب لبنان الاولى كانت حربا بخيار: في نهاية المطاف، الجمهور في اسرائيل رفضها. منذ ذلك الحين، ليس لنا أي حروب بخيار. لدينا حملات بخيار«.

وثمة ما يشبه الإجماع بين المعلقين على أن الحرب، على الأقل من جانبها العسكري، كانت ناجحة. وهكذا، فإن بارنيع نفسه يشدد على أن »الدمج الذي تحقق في الحملة بين قوات الجيش الاسرائيلي في الجو، في البر، في البحر واذرع الاستخبارات ضمن نجاحا عسكريا ووفر في حياة جنود الجيش الاسرائيلي. من هذه الناحية، وليس فقط منها، طرأ على جهوزية الجيش تحسن دراماتيكي بالقياس الى العام .٢٠٠٦ تحسن دراماتيكي لا يقل عن ذلك سجل في معالجة الجبهة الداخلية«.

ويرى بارنيع أن »حزب الله« وحماس »اكتشفا أن السلاح الصاروخي الذي يطلق نحو الجبهة الداخلية هو نقطة ضعف لدى الإسرائيليين. هنا يتوقف وجه الشبه. في الأشهر الاخيرة، خرجت عن اذرع الأمن في اسرائيل قصص رعب عن المنظومات المحصنة التي بنتها حماس في القطاع، عن الأنفاق وعن الافخاخ وعن تصميم القوة المقاتلة لحماس. القصص خدمت هدفا: منع عملية عسكرية إسرائيلية. ومثلما وقع جهاز الأمن في خطيئة الاستخفاف بحزب الله قبل الحرب في ،٢٠٠٦ هكذا وقع في خطيئة التقدير الزائد لحماس قبل العملية الحالية«.

أما عاموس هارئيل وآفي يسخروف في »هآرتس«، فكتبا أنه »اذا انتهت المعارك حقا، فيمكن لإسرائيل أن تسجل في صالحها انجازات عديدة: تحسين الردع، ضربة شديدة لحماس (التي فقدت ثلاثة من عشرة مسؤوليها الكبار)، الإحباط المؤقت لتهريب السلاح وتجسيد حصانة الجبهة الداخلية، التي من خلال سياسة التحصين السليمة منعت هذه المرة نار الصواريخ من ان تصبح سلاحا استراتيجيا. ولكن قبل ان يسيطر التملق على الجيش الاسرائيلي هنا على جدول الاعمال العام، جدير ملاحظة عدة ظواهر نشأت في القتال:

- المس بالأبرياء: اكثر من ١٢٠٠ فلسطيني قتلوا (في صيف ٢٠٠٦ قتل الف لبناني). وحتى بحسب التقديرات الأكثر حذرا، نصف القتلى على الأقل هم مدنيون.

- في اليومين الأخيرين، عقب سلسلة أخطاء أدت الى ضرب منشآت الاونروا، أخذت فرقة غزة قسما من صلاحيات المصادقة على النار من الألوية. ولكن أحجام القتل غير مفاجئة. اسرائيل تدفع، عن وعي، ثمنا أخلاقيا باهظا كي تحقق أهدافها في الحملة وتمنع خسائر فادحة اكثر للجيش الاسرائيلي«.

ضباط كبار يُسألون عن ذلك، لا يعتذرون. يقولون، هذا هو وجه الحرب في منطقة مدنية مكتظة، والجيش الاسرائيلي يجتهد »اكثر من أي جيش آخر في العالم« لمنع المس بالمدنيين. في هذا الزعم، يوجد أكثر من مجرد مزايدة أخلاقية. على طول الحملة، تباهى الجيش الاسرائيلي بالقدرة على »اغلاق دائرة قصيرة« بين القوات على الأرض وسلاح الجو. أما عمليا، فيدور الحديث عن إجراء إشكالي أحيانا. ضباط في المستوى المتوسط في قيادات الألوية يصادقون ويوجهون النار نحو شخوص يحدق منها، برأيهم، خطر على القوات. كما أن التواجد في الليل في الشوارع او على سطح بيت، على مسافة كيلومتر او كيلومترين عن جنود الجيش الاسرائيلي، هو ذريعة للنار.

سلاح الجو، في هجماته المبادر إليها، يستخدم تسليحا فائق الدقة، في محاولة تقليص المس بالمدنيين. ولكن قنبلة بوزن طن، حتى لو زرعت بالضبط في السقف المناسب، تحدث ضررا محيطيا هائلا، وللتأكيد في ظروف الاكتظاظ الهائل وبمقاييس البناء الغزي. سنوات من المساعي استثمرها الإسرائيليون كي يثبتوا بان أيدينا لم تسفك دم الطفل محمد الدرة. في ثلاثة أسابيع شطبنا (من دون نية، ولكن ايضا من دون ان يرجف لنا جفن) البعض من صفوف مدرسة أطفال من أبناء جيله.

- كمية التسليح: سلاح الجو وحده ألقى نحو ١٥٠٠ طن مادة متفجرة على غزة، قسم كبير منها هو تسليح دقيق. هذه ذخيرة من شأن الجيش الاسرائيلي أن يحتاج لها في المواجهات الأكبر ايضا (لبنان؟ سوريا؟ ايران؟). هذه الصعوبة تنشأ بالذات في سنة ميزانية صعبة، ،٢٠٠٩ حين ستدعي المالية بان الجيش اثبت كفاءاته وبالتالي لا يحتاج الآن الى المال كي يستكمل الفوارق ويحافظ على القدرة«.

وفي كل الأحوال، فإن جاكي خوجي في »معاريف« يرى أن »معركة »الرصاص المسكوب« بلا شك، هي الحرب الأكثر نجاحا. اكثر من حرب لبنان الثانية، التي فرضت فيها قيود على التصوير في معظم المناطق، وبالتالي اكثر من كل سابقاتها. ولما كانت هذه الحرب قد دارت على شاشات التلفزيون، فانها ستحسم ايضا في المعركة الإعلامية. في هذه المعارك، يعرف كل طرف قيمة صورة »النصر«، تلك اللحظة الساحقة التي ستنطبع في الذهن على مدى الأجيال، في شكل صورة المظليين في المبكى في حرب الأيام الستة، او العلم الذي رفع في ايلات في حرب الاستقلال«.

ويضيف »يجتهد الطرفان جدا لتحصيل مثل هذه الصورة، وفي هذه الأثناء يقومان بنصف عمل: حماس تنشر أفلاما قصيرة توثق نار القناصة نحو جنود الجيش الاسرائيلي، وان كانت لا تثبت بان الجنود قد أصيبوا بالفعل. أما الجيش الاسرائيلي من جانبه، فيوثق المعركة من البحر، من الجو، ومن البر، غير انه لا يكفي النار من السفينة نحو أهداف على الشاطئ او دبابة تنثر في الظلام القذائف في كل صوب، من دون دليل ملموس على انه في الجانب الآخر العدو هو الذي أصيب، وليس مجرد فلاح ما في مزرعته«.

ويرى ان »البحث عن صورة النصر في معركة غزة هي مهمة مخيبة للآمال جدا بالنسبة للإعلام الاسرائيلي. وبقدر ما يبدو هذا غريبا، لا يوجد في واقع الامر ما ننتصر فيه هناك. الجيش الاسرائيلي خرج لمعاقبة حماس وليس لتحرير أقداس اسرائيل. وليس لحماس، مثلما لحزب الله في حرب لبنان، دبابات يمكن توثيقها بعد ان تكون ضربت او طائرات يمكن تدميرها. أزقة الزيتون وجباليا لا توفر اماكن يرغب المظليون في ان يتصوروا فيها، وهم يتطلعون في عيونهم الى السماء. وحتى الأسرى لا حاجة لإسرائيل لهم، فآلاف منهم يتكدسون منذ الآن في السجون في اسرائيل«.

ويخلص خوجي إلى ان »الواقع ألاشوه الذي صورت فيه الحرب تجلب لدولة اسرائيل مشكلة أخلاقية حادة اذ تأتي للادعاء بان حملة »الرصاص المسكوب« كانت دفاعا عن النفس وسيسأل الجميع كيف انطلق الجيش الاسرائيلي للدفاع عن أطفال الجنوب من خلال قتل أطفال غزة؟ وقد وجه هذا الزعم لحماس وباقي الفصائل في الأيام الفظيعة للعمليات التفجيرية في المدن الاسرائيلية. فقد سئل رؤساء الحركات هذه كيف تطالبون بحقوقكم السليبة من خلال سلب حياة الآخرين؟«.

في هذه الظروف، توجد »صورة نصر« واحدة ووحيدة يمكن لإسرائيل ان تطلبها لنفسها ـ جلعاد شاليت، »الذي ينقذ من آسريه ويقاد بأمان الى بيته. في غياب مثل هذه الصورة، فان ما سيملأ الذاكرة للأجيال، بل اكثر من حرب لبنان الثانية، هي الصور التي سترغب اسرائيل في نسيانها«.