خبر الأنفاق التي تحمي والأنفاق التي تحارب ..بلال الحسن

الساعة 11:55 ص|18 يناير 2009

ـ الشرق الأوسط 18/1/2009

وفي الأسبوع الثالث من الحرب، قصفت إسرائيل مقر قيادة الأونروا في غزة. اعتذرت عن قصف مدرسة الأونروا ولم تعتذر بعد عن قصف مقر القيادة. وكنتيجة هامشية تم قصف مخزن الطحين. وفي ظرف غزة الراهن، فإن قصف مخزن الطحين أشد فداحة من قصف الأونروا. الأونروا مؤسسة تمثل الأمم المتحدة، وتمثل مجلس الأمن، وتمثل الدول الخمس الكبرى، ولكن الطحين لغزة الآن أهم من كل هؤلاء. وإسرائيل قصفت في هذا اليوم أيضا مقر الهلال الأحمر الفلسطيني، وقصفت مستشفى الهلال الأحمر. وأشعل قصف المستشفى النار، وهددت النار غرفة قوارير الغاز التي تستعمل في تشغيل الأجهزة الطبية، وفي تشغيل حاضنات الأطفال، وحدث كل ذلك بعد أن أصبح المستشفى أداة «إرهابية» بيد الفلسطينيين. مستشفى يحمي الإرهابيين ويضمد جراحهم ويساعدهم على البقاء أحياء. وأيضا بعد أن أوضحت تسيبي ليفني أن إسرائيل لا تحارب أهل غزة، إنما تحارب الإرهاب، الإرهاب وحده فقط، الإرهاب المصفى الذي يمكن تمييزه في الشوارع، حتى أنه يمكن إطلاق النار عليه من دون إيذاء أحد غيره.

وإسرائيل قصفت في هذا اليوم أيضا، الصحافيين والعمارة (البرج) التي يعملون داخل غرفها. لقد مارسوا عملهم عشرين يوما ولم تعتبرهم إسرائيل خطرا مباشرا. ولكن إسرائيل تنبهت أنها هي منعت الصحافيين الأجانب، وأن الصحافيين الفلسطينيين في تلك العمارة ـ البرج يمثلون الصحافيين العالميين ويمدونهم بالمعلومات، فأدركت أنهم لا يحترمون أوامرها فصوبت نحوهم طائرات ومدافع ليتناسب التدمير مع مستوى خطورة الصحافيين. في عرف إسرائيل، لا يمكن للفلسطيني أن يمثل الصحافيين العالميين، الفلسطيني إرهابي فحسب، فكيف يكون مصدرا لحرية المعلومات. كيف يمارس الفلسطيني حرية تمنعها إسرائيل؟

والخلاصة.. حرب إسرائيلية مجيدة، ضد مجلس الأمن، وضد هيئات الإغاثة، وضد الإعلام العالمي، بينما تواصل تسيبي ليفني الحديث ضد الإرهاب الفلسطيني.

وتتم حرب غزة على مراحل. مثل مراحل التاريخ، أو مراحل التعليم الجامعي. وفي اليوم العشرين قالت إسرائيل إنها لم تبدأ المرحلة الثالثة من الحرب بعد. أنجزت مرحلة القصف. وأنجزت بعدها مرحلة التطويق. وهي تنوي بعدها بدء مرحلة الحرب البرية. ولكن الحرب البرية لم تبدأ بعد. يوم ويومان وثلاثة وخمسة أيام، والحرب مستمرة، ولكن الحرب البرية لم تبدأ بعد، هكذا تقول إسرائيل، القصف مستمر، والتدمير مستمر، والتغلغل مستمر، ولكن الحرب البرية لم تبدأ بعد. هكذا تقول إسرائيل. ماذا نسمي كل هذا القتال إذا؟ الدوريات الإسرائيلية تدخل الشوارع، وتغوص داخل الأحياء، وتواجه مقاتلين ينبعون من تحت الأرض حسب وصف الصحافة الأسبوعية، يتواجهون ويتقاتلون ثم يعودون، ولكن الحرب البرية لم تبدأ بعد. كل هذا القتال يتم من دون تسمية، إنه قتال بعد القصف وبعد التطويق، وعلى أبواب مرحلة الحرب البرية، ولكن مرحلة الحرب البرية لم تبدأ بعد. لماذا؟ لأنها إن بدأت فلا بد أن تنتهي. والنهاية هنا هي القضاء على المقاومين الفلسطينيين، وإذا كنا لا نستطيع القول إن القضاء على المقاومين قد تم، فما الفائدة من القول إن القتال معهم قد بدأ؟ لذلك فإن المرحلة الثالثة من القتال لم تبدأ بعد. إنها موجودة قبل حرب غزة. وستبقى موجودة بعد حرب غزة. إنها المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية المفتوحة. إنها ليست مرحلة. ولأنها كذلك، ليس لها بداية، وليس لها نهاية.

بدأت حرب إسرائيل على غزة باتفاق سياسي داخلي كامل. وها هي الآن تعيش حالة خلاف إسرائيلي كامل. توفر لها إجماع وطني ضم اليمين واليسار، وضم العلمانيين والدينيين، وضم أنصار السلام وأنصار الحرب. كلهم قالوا نعم للحرب ضد الفلسطينيين، نعم للحرب ضد تخويف الآخرين، نعم للحرب من أجل استعادة هيبة الردع. وما إن وصلت الحرب إلى يومها العشرين حتى دب الخلاف بينهم من جديد. هناك من يرى أن الحرب حققت أهدافها ويجب وقفها. وهناك من يرى أنه يجب الذهاب حتى النهاية، أي إلى تدمير المقاتلين فردا فردا. هناك من يرى ضرورة التوقف قبل استلام الرئيس أوباما للسلطة، وهناك من يرى أنه لا بأس من مواصلة القتال وفرض الأمر الواقع عليه.

هذا الخلاف الإسرائيلي، له في ظل القصف والتدمير والقنابل الفوسفورية ترجمة أخرى. فريق يرى أن ألف قتيل يحقق الهدف الإسرائيلي. وفريق آخر يرى أن قتل 300 طفل هو هدف مثالي. فريق ثالث يرى أن هذا لا يكفي، وأنه يجب الذهاب إلى النهاية، يجب قتل الجميع، يجب التخلص من كل الأطفال، يجب رمي غزة في البحر، كما تمنت ذلك من قبل جولدا مائير.

إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، كما يردد ضباط إسرائيل الكبار أمام جنودهم، لكي يضمنوا تعبئة نفسية ملائمة لإنجاز مهماتهم القتالية، ولذلك فإنهم الآن يختلفون إذا ما كان عدد القتلى الفلسطينيين كافيا لكي يتخذوا قرار إنهاء الحرب أم لا؟ والمؤكد أنهم لم يصلوا إلى قرار حازم، حتى أنهم طلبوا الاستعانة بواشنطن لكي تساعدهم في ضمان الأمن، وكما هو الحال دائما.

خلاصة التحليل الإسرائيلي. خلاصة القصف والتدمير والقنابل الفسفورية. خلاصة قتل الأطفال والنساء والمدنيين. خلاصة التجويع. أن هناك شرا ينبع من الأرض الفلسطينية ولا بد من القضاء عليه، بإصرار يوازي إصرار القضاء على الفلسطيني الجيد. هذا الشر هو الأنفاق. الأنفاق هي الشر الذي لا يعرف أحد كيف تم استنباطه. الأنفاق هي الإبداع الذي يتفوق على الطائرة وعلى المدفع وعلى قنابل الفوسفور بكاملها. الأنفاق هي موضوع الدراسة الاستراتيجية المقبلة أمام القيادة الإسرائيلية. كيف تبني نفقا؟ كيف تهدم نفقا. هذا هو موضوع الاستراتيجية الحربية الجديدة التي ستقرر مصير الصراع.

الأنفاق موجودة في غزة منذ زمن طويل. وجدت أيام الإدارة المصرية واستخدمها المهربون، ولم تزدهر آنذاك لأن نظام القطاع الاقتصادي كان يقوم على الاقتصاد الحر ومن دون ضرائب لتمكين الناس من العيش. ووجدت أيام الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967، وبنيت آنذاك داخل المدن، واستخدمت للاختباء والتنقل من منزل إلى منزل، ولعبت دورا بارزا في تطوير عمل الفدائيين ضد الاحتلال، الفدائيين الذين واجهوا العقيد آرييل شارون سنتين كاملتين، وهو الذي لجأ إلى أساليب الاغتيال في الشوارع على أيدي فرق شمشون ودوفدوفان وغيرهما من فرق القتل العمد. ثم بنيت الأنفاق بين إسرائيل ومصر، حيث تتداخل الأرض، ولا يمكن التفريق فيها بين حبة رمل مصرية وحبة رمل فلسطينية، ومن أجل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد اتفاقية كامب ديفيد. والآن.. وبعد أربعين سنة من الاحتلال، تريد إسرائيل فرض وقف بناء الأنفاق، وهدم ما تم بناؤه من الأنفاق، ومنع بناء أنفاق جديدة، حتى يتوفر لها تجويع القطاع فعليا إذا تم حصاره ثانية، وحتى يتوفر لها منع استقدام السلاح من أجل مقاومة الاحتلال، وحتى يتأمن لها الحصول على خنوع الشعب الفلسطيني، بقرارات دولية، ومساعدة هندسية أميركية.

ولكن الشعوب التي اجترحت معجزة الأنفاق، مثل الشعوب التي اجترحت معجزة الأهرام. علامات تاريخية لا يمكن لأحد أن يقضي عليها. قد يذهب نفق ولكن الأنفاق تبقى. تماما مثلما يموت فرد ولكن الإنسان يبقى.. إنها إرادة الحياة ضد أعداء الحياة.