خبر مشهدان في يوم واحد / معن بشور

الساعة 06:12 م|17 يناير 2009

       مشهدان جمعهما يوم واحد، بل روح واحدة، فيما لوحة الدم والدمار والموت الجماعي التي تحاول رسمها طائرات العدو الصهيوني ومدرعاته وبوارجه على ارض غزة مستمرة على مدى ثلاثة أسابيع.

       المشهد الأول هو مشهد عشرات الآلاف الذين خرجوا في غزة المدمرة يودعون الشهيد القائد سعيد صيام وصحبه البررة الذين اغتالتهم آلة القتل الصهيونية التي حولت الطائرات، الأكثر حداثة، والأكثر فتكاً، الى مجرد " بنادق"قناصة تحاول أن تصطاد بها المجاهدين الأبطال.

       لم تصدق عيناي ذاك المشهد حيث الجموع تعيد تحرير شوارع غزة بعد أن ملأتها حمم العدو بالركام والدمار والخوف بل تخرج، بكل هذا الزخم، دون أن تأبه لكل غدر الصهاينة ووحشيتهم وشهوتهم للقتل الجماعي الذي يطارد الأطفال والأمهات والمقعدين لكي يسجل "عداد" جرائمه كل يوم رقماً قياساً جديداً.

       أما المشهد الثاني فهو تجاوب ثلة من رؤساء ومسؤولين شجعان لدعوة أمير أدرك، مع الأيام، أن الإمارة الحقيقية لا تقوم إذا لم تكن مقرونة بالشجاعة والنخوة والمبادرة الى نصرة القضايا العادلة والأشقاء المظلومين، فكيف حين يكون هذا الانتصار انتصاراً لشعب ذبيح تحمل قضيته كل عناوين العدل والحقوق الوطنية والقومية والإنسانية.

       ولم تصدق عيناي ايضاً أن يكون لدينا هذا الكم من القادة،  الذي خرج، متحدياً الضغوط والإغراءات، الى اجتماع في الدوحة ليجعل منه قمة، بل جبهة، عربية وإسلامية وعالمية حقيقية في آن، فيما زاغت "قمة" مفترضة منذ اليوم الأول للعدوان عن الأنظار وامتنع على بعض أركانها الاجتماع والاعتصام بحبل الله وروح الأمة.

       في المشهدان أوجه تماثل كثيرا أولها أن غزة التي تخرج الى شوارعها، الغارقة في الدماء، مودعة قائدها الشهيد تتحول بعد ساعات الى قمة طارئة في الدوحة تحتضن قضيتها الذبيح وتتمسك بمطالبها دون تراجع أو استخذاء.

       وثانيها أن المطالب واحدة سواء في الشارع الغزاوي ومعه الشوارع في كل الوطن الفلسطيني وأرجاء العالم أو في اجتماع "الأمير" والرؤساء والمسؤولين، مطالب تدعو لوقف العدوان وسحب قوات الاحتلال وإنهاء الحصار وفتح المعابر وصون حق الشعب بالمقاومة وقطع كل علاقة بالعدو.

       وثالثها  انه فيما كانت غزة تشيع شهداءها البررة وبينهم ابنها سعيد صيام، الذي كان عينها الساهرة التي أرهقت أجهزة الاحتلال وهي تطارده ، دون جدوى  على مدى سنوات، كانت الدوحة تشهد تشييعاً من نوع آخر لمبادرة "سلام" عربية أثبتت الأيام إنها لم تكن مبدئية قط كما لم تكن واقعية، حتى أن العدو استقبلها منذ ساعاتها الأولى بحمامات الدم في الضفة وها هو يجهز عليها بحمامات دم مماثلة في غزة.

       ورابع أوجه الشبه بين المشهدين هو أن شعب فلسطين الذي تحرر من الخوف وهو يحرر أرضه على مدى عقود، والذي انتقلت منه عدوى التحرر من الخوف الى شعوب أخرى في المنطقة والعالم ، قد بدأ يسهم في تحرير حكام ومسؤولين من الخوف أيضاً.

       ففي غزة شعب يخرج بعشرات الآلاف متحدياً الموت الذي يحاصره من كل صوب، وفي الدوحة قادة يخرجون عن طاعة الإرهاب الصهيوني وهيمنة الشريك الأمريكي متحدين العجز والخوف والتواطؤ الذي يحاصرهم من كل صوب.

       بل في المشهدين ما يذكرنا بتلك الأيام المجيدة في أواسط الخمسينات، حيث بطولات غزة تحاكي بطولات بورسعيد وحيث "حي الإسلام" فيها يحاكم "حي العرب" في تلك المدينة الباسلة، بل حيث اجتماع غزة يذكرنا باجتماع باندونغ وحيث شافيز وموراليس ومعهما اردوغان ونجاد وعبد الله واد السنغالي يذكروننا بنهرو وتيتو وسوكارنو ونيكروما وسيكوتوري وفيدال كاسترو ومعهم، في تلك الايام، جمال عبد الناصر الذي نفتقده مع غزة اليوم، ونحن نحيي ميلاده الحادي والتسعين فنتذكر حصاره في الفالوجة الغّزاوية عام 1948، كما نستحضر قوله آنذاك بأن فكرة الثورة  قد اختمرت في ذهنه خلال حصاره الشهير على ارض فلسطين، ونتذكر اليوم ايضاً  قوله المأثور الذي ردده الرئيس بشار الاسد في قوله " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"

       فمن مخاض الدماء والدمار في غزة يولد بالفعل عالم جديد، بل نظام عربي جديد يستعيد استقلاله عن املاءات واشنطن، ونظام اقليمي جديد يسقط التناحر المفتعل بين قوميات واديان ومذاهب، بل ونظام عالمي جديد يسقط القطبية الاحادية وكل افكارها ووسائلها وادواتها العنصرية والمتوحشة.

       وغداً سيكتشف الصهاينة ومن والآهم ، وتواطأ معهم، كما كان مخطئاً في حربه على غزة، بل كان كم  متجاهلا لقواعد صراع بدأت تتشكل في الواقع الجديد الذي تتشكل ملامحه اليوم على يد المقاومين والمجاهدين في امتنا وعلى امتداد العالم.