في الطريق إلى أوروبا

حكايات مهاجرين من غزة قبل الصعود إلى مراكب الموت

الساعة 04:59 م|23 يناير 2019

فلسطين اليوم

يلفُّ يداه حول فنجان قهوته، يسرحُ في شيءٍ ما، أو في كل شيء، يتمتمُ من حينٍ لآخر ببعض الكلماتِ عن غزة، أو عن الهجرة، لكنه لم يستطع أن يداري خوفه الذي سكن صوته واجتاح لون وجهه، فيما يحاول بعثرة نظره هُنا وهناك لكي لا تعترف عيناه بالحقيقة الصعبة كذلك.

هو واحد من ثلاثة ضمتهم طاولتنا في أحد استراحات منطقة الفاتح بمدينة اسطنبول التركية، قبل ساعات من "رحلة الموت" _كما يُطلق عليها_ من اسطنبول إلى اليونان عبر البحر، كل ذلك للفرار من شبح يطاردهم أسموه "غزة".

اسطنبول الباردة الماطرة ما هي إلا محطة انتظار لهم، وحلمٌ للكثير من الشبان في قطاع غزة الذين أرقتهم الأحلام عن الهجرة، والخروج من قطاع غزة، ورؤية العالم، لكن السؤال الذي طرحته عليهم، وطرحوه على أنفسهم كثيرًا بالطبع: "هل أنتم ذاهبون للحياة حقًا أم للعذاب؟".

ماهر محمد (اسم مستعار) شابٌ متزوج في غزة ولديه طفلين، ويحمل شهادة البكالوريوس في التصوير الطبي منذ 5 سنوات، يعيش في منزل الأسرة المكون من 9 أشخاص، جاء إلى اسطنبول يجرُّ خلفه ديونًا متراكمة، ومشاريع أفشلتها الأوضاع الاقتصادية في غزة.

يقول محمد الذي كان يقطن وسط قطاع غزة في حديثه لمراسل "فلسطين اليوم الإخبارية": "أنا معيل لأسرتي، حيث توفى والدي وأنا صغير، وبعد أن تخرجت حاولت أن أحصل على وظيفة في مجالي ولم أستطع، تقدمت أكثر من مرة ووصلت إلى مقابلات التوظيف لكنهم لم يختاروني، فقمت بدفع كل ما نملك كعائلة في مشاريع خاصة لكنها فشلت".

شارك الشاب صاحب الـ(29 عامًا) في "كافتيريا" صغيرة، وكان الأمر جيدًا في البداية، لكن مع اشتداد الأزمات في غزة، أصبح الإقبال ضعيفًا جدًا، وبدأ الإيجار يصبحُ حملًا ثقيلًا، حتى أقرَّ أنه لن يستطيع الاستمرار، وخرج صفر اليدين، بعد أن فقد كل ما يملك.

حاول كذلك العمل في أكثر من مجال غير مجاله، مثل بيع الملابس الرياضية، لكن الأمر لم يدم طويلًا، إذ أن أصحاب المحال التجارية بدأوا بإغلاقها والتخلي عن العمال، نظرًا لضعف القوة الشرائية وانهيار الاقتصاد في غزة.

وعن فكرة الهجرة يذكر محمد: "بدأت بالتفكير بالهجرة منذ عام 2014، لكنني كنت أعي جيدًا أنني المعيل الوحيد لأسرتي، وكان لدي أمل في أن أمتلك وظيفة أو أقوم بمشروع ناجح، بعد كل الأحلام المتحطمة أخذت قراراي وانتظرت 5 أشهر من أجل الخروج من معبر رفح في طريقي إلى تركيا".

باع الشاب ذهب زوجته من أجل تأمين ثمن "الفيزا" إلى تركيا، ومصاريف السفر، وكذلك المصاريف اللازمة للتهريب من تركيا إلى اليونان بحرًا، ولن يبقى بحوزته شيء في حال وصوله إلى أحد الجزر اليونانية، ناهيك عن السيناريوهات المرعبة التي قد تحدث!

ويضيف: "مستعد أن أسلك أي درب مهما كان خطرًا، لكن أن تكون نتيجته وصولي إلى أوروبا وقدرتي على جلب زوجتي وأطفالي، وسداد الديون المتراكمة عليَّ في غزة".

ويحاصر الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة منذ أكثر من 12 عامًا مما أدى إلى تردي الأوضاع الانسانية والاقتصادية بشكل كبير، ناهيك عن شن الاحتلال لثلاثة حروب خلال فترة الحصار ارتقى خلالها آلاف الشهداء، وتدمير آلاف المنازل، وإصابة عشرات الآلاف.

قصص متشابهة لكن بدرجة أوجاع وحسرة مختلفة لربما، هذه كانت حصيلة جلستنا التي تخللها العديد من الاتصالات والتحضيرات لليوم التالي الذي من المقرر أن يكون يوم السفر، وأحد هؤلاء الشباب هو ابن العشرين عامًا معتز ناصر (اسم مستعار) من مدينة غزة.  

"ابن العز الذي جارت عليه الدنيا" هكذا وصفه الجميع، فهو ابن واحد من أكبر تجار الأسماك في قطاع غزة، قبل أن تتحول الدنيا ويصبح من أكبر الناس الملاحقين بالديون والمآسي.

بعد أن أُودع والد ناصر بالسجن بسبب تراكم الديون، قرر الشاب أن يجد طريقًا لمساعدته، وأصبح من ابن تاجر إلى أحد بائعي السمك على "البسطات"، لكن الأمر لم يجدِ نفعًا، فقرر الهجرة أملًا في إيجاد فرصة تستطيع انتشاله وعائلته من وحل الديون والملاحقة.

عاد ابن البحر إليه بعدما وصل إلى اسطنبول وعمل سائقًا لمركب عند أحد المهربين، لكن في أحد المرات تم القبض عليه وأودع السجن لمدة 20 يومٍ تقريبًا قبل أن يتم إطلاق سراحه، فوجد نفسه مفلسًا لا يجد مكانًا لإيوائه، فقرر الهجرة كما هو حال معظم الغزيين هنا.

ويقول: "نظرًا لعملي معهم قرر المهرب أن ألا أدفع مبلغًا كبيرًا لصعودي إلى المركب، وقمت بالاستدانة من بعض الشبان بعد محاولات وسعي كبير ورفض أكبر من الأغلبية، وها أنا أستعد إلى الهرب إلى اليونان آملًا في الوصول وحجزي في المعسكر هناك مع باقي المهاجرين".

وعن الخطة التي يسعى إليها يضيف: "كل ما أريده هو أن أصل إلى الكامب كما يسمونه في أحد الجزر اليونانية، وأمكث هناك مدة لا تقل عن 6 أشهر، بعد أن يأخذوا بصماتي، ثم آخذ الإقامة، وبعدها أشق طريقي إلى بلجيكا أو السويد، وأقدم طلبًا للجوء".

يعلم ناصر تمامًا مخاطر الرحلة البحرية خاصة في أجواء عاصفة وباردة جدًا، لكن يصرُّ على الرحيل، مؤكدًا أنها الفرصة الوحيدة المتبقية أمامه، فهو لا يملك مسكنًا أو مصدرًا للدخل في اسطنبول.

وأدى الحصار الإسرائيلي إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة، والفقر، والفقر المدقع في قطاع غزة، ووصلت نسب البطالة بين الخريجين إلى 73% وارتفعت نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 69%.

وبحسب الإحصائيات فهناك 255 ألف عاطل عن العمل في قطاع غزة، فيما يوجد مليون شخص يعتمدون على المعونات الخارجية من المنظمات الأهلية الدولية، كما وصلت معدلات الفقر إلى 54.9% في نهاية هذا عام 2018.

أما أصغرهم سنًا فهو عبد الفتاح حسن (اسم مستعار)، ابن الـ(19) عامًا الذي جاء إلى تركيا وأحلامه تسبقه، ولديه من الطاقة والآمال الكثير، بعد أن وعده عدد من الأصدقاء بتأمين حياة مرفهة له.

لم يكمل حسن دراسته في قطاع غزة، لكنه كان شابًا نشيطًا، واستطاع أن يأمن حياته في غزة من خلال أعماله المتعددة في السوق والمصانع وغيرها، وفي نهاية المطاف قام بأخذ قرض من إحدى المؤسسات ليقوم بمشروع صغير وهو "بسطة سجائر".

"كان دخلي جيدًا جدًا وكنت أقوم بسداد 175 دولارًا للقرض شهريًا، لكن بدأ الوضع يسود شيئًا فشيئًا، وكانت الكارثة بعد خصومات رواتب السلطة الفلسطينية، وارتفاع أسعار السجائر بشكل كبير جدًا من حين لآخر" يقول حسن.

لم يستطع الشاب الاستمرار في دفع أقساط القرض، مما أدى إلى تورط من قام بكفالته، ومن هنا بدأ المشاكل والأزمات في حياته، مما اضطره لترك كل شيء والهرب، بعد أن قدم له مجموعة من أصدقائه وعود بدخل جيد وحياة كريمة في تركيا.

استدان ناصر من عائلته ثمن رحلته ووصل اسطنبول، لتتكسر كل أحلامه، بعد أن رفض من وعده بالعمل حتى استقباله، وبدأت رحلة معاناته في تركيا، لتنتهي بالتفكير بالهجرة.

ويضيف: "جلست في اسطنبول بدون عمل لمدة شهرين كنت لا أجد فيها حتى الطعام، وبعد شهرين عملت في أحد المصانع الذي يبعد عندي 12 محطة بالقطار، وكنت آخذ 1200 ليرة، لا تكفي للمواصلات ودفع إيجار سرير في غرفة يسكنها 7 أشخاص، وأكل وجبة واحدة يوميًا".

طلب ناصر من أهله العودة، لكنهم أصروا على بقائه نظرًا لأوضاعهم الصعبة جدًا، وقاموا بتأمين مبلغ التهريب له للذهاب إلى اليونان عبر البحر، وها هو ينتظر الساعات لتمر ليحمله المركب إلى مصيره المجهول.

يشار إلى أن العقوبات التي فرضتها السلطة الوطنية الفلسطينية في آذار 2017 على قطاع غزة، ساهمت في انهيار الاقتصاد الفلسطيني، وزيادة معدلات الفقر والبطالة في قطاع غزة.

وخلال الأشهر الماضية خرج من قطاع غزة آلاف الشباب بنية الهجرة إلى إحدى الدول الأوروبية، علهم يجدون حياة افتقدوها بحثوا عنها، من بينهم متعلمين وحاصلين على شهادات عليا، وغيرهم من العائلات الكاملة، وإن تعدد الطرق والخطط للوصول لكن الوجهة واحدة.

قصصٌ أصبحت عادية ومتكررة في بلدت اكتظت بالمهاجرين، لكن النتيجة الأكيدة أن الأحلام التي يخرج من أجلها الفلسطيني لن يجد منها شيء هنا، بل وأكثر بكثير، فمنهم من فقد حياته في الطريق إلى ما أسماها "الحرية"، ومنهم من طحن البرد عظامه في الشوارع، نظرًا لأنه لا يمتلك حتى ثمن تذكرة العودة، والكثير الكثير مما سيدهشك في شوارع اسطنبول المكتظة بالعرب.

كلمات دلالية