خبر غزة وما بعدها ـ مفصلية الحرب على القطاع في السياسة الفلسطينية ومستقبل منظمة التحرير الفلسطينية

الساعة 12:22 م|17 يناير 2009

د. اسعد غانم ـ القدس العربي 17/1/2009

الحرب الاسرائيلية على غزة تحمل برأيي معان بعيدة المدى وتاريخية على الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ابعادا قد تجعل من هذه الحرب الاهم بعد حرب حزيران 1967 واحتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان. لقد مثلت الحرب انذاك وما تبعها بداية مختلفة عما سبقها في الصراع من حيث هندسة الأسس والعوامل التي لعبت دورا في السنوات التي تلتها، وأهم هذه العوامل هي التحول الجذري في دور الفلسطينيين في الصراع وترسيخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي قادت العمل الوطني باتجاهات وأصعدة مختلفة، حتى وصولها الى اوسلو، وتوقيع اتفاق غير متوازن ولا يضمن حل القضية الفلسطينية، لكنها استمرت في قيادة العمل الوطني بسبب مركزية ياسرعرفات والتزامه الواضح بحل قضية اللاجئين والجوانب الاخرى للقضية الفلسطينية، وحتى دفعه لثمن مواقفه الواضحة في هذه القضايا خلال قمة كامب ديفيد ورفضه لعروض باراك وكلينتون آنذاك.

منظمة التحرير

لعلنا لم ننتبه لمضامين الخطاب السياسي في خضم الاحداث وسقوط الضحايا في غزة، فرغم ان وسائل الاعلام المختلفة تنقل الاف الاخبار والقطع المسجلة والمصورة، الا اننا لم نسمع عن أي دور لمنظمة التحرير الفلسطينية، سوى في سياق هجاء محمود عباس الذي لا زال يحتفظ بمنصب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. الحقيقة هي واضحة، منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني خلال اربعة ـ خمسة عقود خلت، قد استنفذت دورها التاريخي واصبحت في سجل التاريخ الماضي.

الحرب على غزة هي البداية الرسمية لما بعد منظمة التحرير الفلسطينية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ومن الجدير هنا التنويه الى ان بعض الفلسطينيين واكثر مثقفيهم اسهاما في الدفاع عن دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات وثمانينات القرن المنصرم، مثل ادوارد سعيد وهشام شرابي واخرون قد توصلوا الى نتيجة نهاية منظمة التحرير قبل عقد او اكثر على خلفية اتفاق اوسلو، الا ان المنظمة استمرت في تلك السنوات وخصوصا تحت زعامة ياسر عرفات في العمل وتبوؤ المركز الاساسي، مقابل السلطة الفلسطينية وحتى حركة حماس، في تمثيل الفلسطينيين في المساعي السياسية لتحقيق اقامة دولة فلسطينية والتفاوض مع اسرائيل. وبالمقابل في الاستمرار بالتواصل مع اللاجئين الفلسطينيين وحمل حلم العودة، وحتى تجنيد القدرات الفلسطينية والعربية في المواجهات مع اسرائيل، بما في ذلك خلال الاجتياح الاسرائيلي للضفة خلال عام 2002 وحصار عرفات حتى وفاته.

بعد عرفات تم اختيار محمود عباس رئيسا للسلطة ورئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، هذا المنصب الاخير خلا من أي مضمون فيما يتعدى منصبه لرئاسة السلطة الوطنية، فموقف محمود عباس من مسألة عودة اللاجئين، وهي المسألة السياسية والاخلاقية التي انشئت منظمة التحرير لاجلها، هو واضح، وعبر عن ذلك في مناسبات عدة اهمها واكثرها شيوعاً، من خلال 'تفاهمات بيلين-ابو مازن' في العام 1995، اذ تضمنت الوثيقة مبادئ أساسية للحل النهائي، وكان رابين ينوي الإعلان عنها قبل موعد الانتخابات 'الإسرائيلية' لتكون أساسا لبرنامجه الانتخابي في حزيران (يونيو) 1996، ولكن تم اغتياله بعد انجازها باثني عشر يوماً حيث بقي ملفها السري مغلقاً. ولكن يوسي بيلين، الشريك الاسرائيلي في صياغتها أعلن عنها، وعلى أنها ستكون مرجعاً مهماً للمفاوضين السياسيين حول مرحلة الحل الدائم.

التفريط بحق العودة

لقد ورد في البند الرابع من هذه التفاهمات حول اللاجئين بانه سوف 'تحل هيئة دولية جديدة محل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) لتعمل على إعادة تأهيل وتأمين استيعاب اللاجئين في دول وأماكن إقامتهم، والعمل على تطوير الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية وتذويبهم في الحياة اليومية للمجتمعات التي يعيشون في محيطها. وتتكفل حكومة 'حزب العمل' التعامل ثنائيا مع الدول المعنية والأطراف الدولية الراعية، من دون صخب أو ضجيج إعلامي حتى لا يشكل ذلك إحراجا للسلطة، وممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف بالتعاون مع الدول المضيفة لضمان إغلاق الملف نهائيا. وبهذا فان ابو مازن تنازل اصلا عن الاسس السياسية والاخلاقية والايديولجية لوجود منظمة التحرير، بالرغم من اصراره على البقاء رئيساً لها لاسباب لا تتعلق ببرنامج منظمة التحرير اصلا.

تعمق ازمة الحركة الوطنية

تعمقت الوضعية الصعبة لمنظمة التحرير وحركة التحرر الوطني الفلسطيني عموما، على خلفية استلام محمود عباس لرئاسة السلطة التنفيذية، واستغلاله لكل مناسبة ممكنة للتعبير عن عدائه للبرنامج النضالي التاريخي لمنظمة التحرير، واعلانه بأن المفاوضات التي يجريها هو ووفده، الذي لا يمثل الفلسطينيين، مع اولمرت وليفني، هي الطريق الوحيد لتحصيل الحقوق الفلسطينية، رغم ادراكه بان اسرائيل مستعدة فقط لحلول جزئية تؤدي الى بعثرة القضية الفلسطينية وسد الطريق لاي حل يضمن التعامل الجدي مع المشكلة الفلسطينية واساسها، قضية اللاجئين والعودة.

لقد تطورت الازمة مع صعود حماس وتصويت غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لصالحها، المرحلة التي انتهت بتنسيق فلسطيني ـ امريكي ـ اسرائيلي لاقالة الحكومة الشرعية وتعيين حكومة تسيير أعمال مقبولة من اسرائيل وامريكا والدول العربية الشريكة في حلف المعتدلين. وقد تظافر ذلك مع ارتفاع الوعي بأن الحركة الوطنية الفلسطينية قد وصلت الى طريق مسدود وفشل واضح، على ثلاثة مستويات:

داخلياً، بلغت الحركة الوطنية الفلسطينية مرحلة الصدام المدمّر والانهيار الداخلي. فبروز حماس كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية في التسعينيات، وتبنّيها لبرنامج يستند إلى معايير اجتماعية وسياسية وطموحات تختلف اختلافاً جذرياً عن معايير منظمة التحرير الفلسطينية وطموحاتها أدى إلى تفاقم الصراع بين مؤيدي المنظمة وتيارها الرئيسي فتح، ومؤيدي حماس. وأدى ذلك بدوره إلى شلّ النظام السياسي الفلسطيني وإحداث استقطاب داخلي يفكك الحركة الوطنية من الداخل. فيما يتعلّق بالعلاقة مع إسرائيل والصهيونية: لم تحقّق الحركة الوطنية الفلسطينية أياً من الأهداف الكبرى التي حدّدتها لنفسها على مر السنين، وتحديداً تحرير الوطن ورفض الصهيونية كحركة استعمارية، وعودة اللاجئين، وإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وتحقيق سلام مستقرّ.

وخارجياً، تراجعت مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية في العالم العربي وعلى الصعيد الدولي العام الى ادنى مستوى منذ حضور عرفات لنقاشات الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1974.

تطورات غزة

التطور الاهم خلال الحرب الاسرائيلية على غزة هو انعدام أي دور لمنظمة التحرير واقتصار الادوار فلسطينياً على السلطة من جهة وحماس من الجهة الاخرى. الحقيقة هي اصعب من ذلك بكثير، لان ما تؤول له نفسه في الادعاء باستمرار منظمة التحرير ودورها بعد اندلاع الحرب في غزة يجب ان يفكر في مسألة اساسية، ان محمود عباس نفسه لم يعرض نفسه كذلك، كما انه شارك في تحميل المسؤولية لحماس كما لاسرائيل، والاكثر من ذلك، ان غزة هي الحرب او الصدام الفلسطيني ـ الاسرائيلي الاول، منذ اعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في خمسينات وستينات القرن المنصرم، الذي لا تشارك بها رسميا منظمة التحرير في الدفاع عن الشعب الفلسطيني او حتى الوقوف معه. وحتى اكثر من ذلك، المشاركة في تبرير الحرب الاسرائيلية على غزة من خلال تحميل المسؤولية لحماس.

ومقولة محمود عباس الاخيرة ''ان المقاومة التي تدمر شعبها لا نريدها'، وتحصيل ذلك واضح منطقيا، هو لا يريدها كما ان اسرائيل لا تريدها، هو شريك لاسرائيل في الهدف، وسوف تكشف اوراق التاريخ بعد رحيل غالبيتنا عن هذه الدنيا ان الضلوع في التنسيق مع اسرائيل هو اكثر من ذلك، ونكتفي حاليا بما كشفتة تحركات السلطة ورجالها قبل الهجوم الاسرائيلي الاخير من تحريض على حماس وتحضير قوات خاصة للدخول الى غزة واستلامها من اسرائيل بعد سحق سلطة حماس، وقبل ذلك القيام بانقلاب ضد سلطة حماس التي استمدتها من نتائج انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006 وتعيين حكومة منسقة مع اسرائيل وواشنطن، انتهت حتى مدة حكمها الشرعية التي يجب ان تكون لسنة حسب الدستور الفلسطيني، كما نهاية حكم محمود عباس في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2009.

بعد انتهاء العمليات الحربية سوف تباشر السلطة في مباحثاتها مع اسرائيل، المعلقة حالياً بسبب الانتخابات الاسرائيلية، لاجل الوصول الى تسوية لن تتعامل بشكل جدي مع الجوانب المختلفة للقضية، وترضى باستثناء اللاجئين والقدس وتبقي على معظم المستوطنات والمستوطنين، وتقايض الارض وكأنها مسألة عقارات، لا قضية وطنية، وبعيداً عن برنامج الحركة الوطنية ومنظمة التحرير.عندها يجب ان نسأل انفسنا كفلسطينيين: ماذا فعلنا لانقاذ الحركة الوطنية والقضية من ايدي من يدعون الشرعية زوراً؟ هذا سؤال يجب ان يشغلنا، حتى في الظروف العصيبة التي تمر بها غزة، والقضية الوطنية عموماً.