اختبار صعب للردع الإسرائيلي

الساعة 12:41 م|06 ديسمبر 2018

بقلم

لسنوات طويلة مضت، أعقبت الانتصار العربي الكبير في السادس من أكتوبر 1973، استطاع الإسرائيليون بدعم دعائي غربي، وأمريكي بالأساس، ومشاركة أبواق إعلامية عربية تمرير أكذوبة امتلاك إسرائيل التفوق المطلق في الردع، وزادوا على ذلك أن إسرائيل لديها وعود أمريكية تؤمِّن لها التفوق العسكري النوعي المطلق على كل الدول العربية مجتمعة.

هذه الأكذوبة لم تجد من يدحضها عربياً، رغم أن آخر انتصار عسكري لإسرائيل كان عام 1967. ولقد نجح الإسرائيليون، بكل أسف، في اختراق دوائر حكم عربية كثيرة، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً على المستوى الشعبي العربي، وظنوا أنهم، وفي ظل الإدارة الأمريكية للرئيس دونالد ترامب، بات في مقدورهم فرض التطبيع على المستوى الشعبي، اعتماداً على ثلاثة مرتكزات؛ أولها، ترويع الإرادة العربية بتكثيف الترويج لأكذوبة امتلاك إسرائيل القدرة الفائقة على الردع، وثانيها، الانحياز الأمريكي المطلق لإدارة ترامب وما سوف يفرضه مشروع «صفقة القرن» على العرب من تنازلات، وثالثها، النجاح الإسرائيلي غير المسبوق في تسويق شراكات مع عدد من النظم العربية ترتكز على قاعدة الصراع ضد العدو الإيراني المشترك، والاستعداد لتأسيس حلف «ناتو عربي» يكون طرفاً في أي حرب إسرائيلية محتملة ضد إيران. الرهان على هذه المرتكزات الثلاثة يواجه تحديات هائلة، أولها، وجود أسباب لم يعلن عنها بعد دعت رئيس الحكومة الإسرائيلية لمطالبة واشنطن بتأجيل إعلان «صفقة القرن»، وثانيها، تعثر دعوة تأسيس حلف «الناتو العربي» لأسباب كثيرة أيضاً لم يكشف عنها، لكن يبدو أن هناك حالة ارتباك تسيطر على أطراف هذين الرهانين: «صفقة القرن»، و«الناتو العربي» باتت تحول، ولو مؤقتاً، دون المضي قدماً في إنجازهما، لكن التعثر الأهم هو ذلك الانكشاف غير المسبوق لأكذوبة امتلاك إسرائيل التفوق المطلق في الردع.

أول من اعترف بافتقاد قدرة إسرائيل على الردع هو بنيامين نيتانياهو نفسه على خلفية قبوله الإضطراري بـ «وقف إطلاق النار» والقبول بالتهدئة المؤقتة مع قطاع غزة، بعد هزيمة قواته، وفشل العملية الاستخباراتية التي حاولت تنفيذها وحدة كوماندوز إسرائيلية خاصة شرق مدينة خان يونس (11/11/2018)، وما أعقبها من قصف صاروخي مركز شاركت فيه كل فصائل المقاومة في قطاع غزة أرعب الإسرائيليين ودفع مليوناً من المستوطنين إلى الملاجئ في ما يعرف بـ «مستوطنات قطاع غزة»، وأحرجت كفاءة «القبة الحديدية» في التصدي لصواريخ المقاومة التي تزداد يوماً بعد يوم كفاءة في التصويب وقدرة في التدمير.

ففي محاولة منه لإقناع كل من نفتالي بينيت وزير التعليم زعيم حزب «البيت اليهودي» اليميني المتطرف وموشيه كحلون وزير المالية بالبقاء في الحكومة وعدم الانسحاب منها بعد استقالة وزير الحرب أفيجدور ليبرمان اعتراضاً على قرار الحكومة المصغرة «الكابينيت» وقف القتال ضد غزة ورفض القبول بدعوته لاجتياح القطاع وإعادة احتلاله، قدم نيتانياهو وعداً للوزيرين بأنه «سيعمل على استعادة قدرة إسرائيل على الردع»، حسب اعتراف أدلى به نفتالي بينيت. وبعد نيتانياهو يأتي اعتراف شركائه فى الحكم وأولهم أفيغدور ليبرمان الذي برر استقالته من الحكومة بخضوع نيتانياهو لما سماه بـ «المنظمات الإرهابية»، وخضوع الجيش الإسرائيلي للمستوى السياسي (القيادة السياسية) «الذي لم يتخذ القرارات اللازمة لاستعادة القدرة على الردع». وبعد ليبرمان يأتي الدور على نفتالي بينيت الذي كان يحلم بتولي منصب وزير الحرب خلفاً لأفيغدور ليبرمان عقب استقالته، فقد أعلن أن «غزة لا بيد الجيش الإسرائيلي، وأن الجيش لم يعد قادراً على تحقيق الانتصار منذ حرب ».

ينسحاق بريك ، المنتهية ولايته، الذي توجه إلى أعضاء لجنة «الخارجية والأمن» في الكنيست الإسرائيلي بتحذيره من أن «قادة الجيش لا يقولون لهم الحقيقة بشأن جهوزية الجيش للحرب». الأدهى من ذلك، أن جبهات القتال الثلاث التي يمكن أن يقاتل فيها الجيش الإسرائيلي لإثبات قدرته المتفوقة على الردع باتت شبه مغلقة.

فالجبهة الجنوبية في غزة أضحت عصية على الاجتياح بعد أن تحّول هذا الخيار إلى خيار «شبه انتحاري» باعتراف نتانياهو نفسه الذي يعلم جيداً أن تكاليف أي هجوم من هذا النوع سيكون ثمنه غالياً عسكرياً وسياسياً وبشرياً، بسبب القدرات المتطورة للمقاومة، وفشل «القبة الحديدية» في التصدى للقصف الصاروخي المكثف والمتسارع على النحو الذي حدث فى المواجهة الأخيرة. بهذا المعنى لا يبقى أمام إسرائيل سوى الجبهة الشمالية بشقيها السوري واللبناني.

الجبهة السورية تكاد تكون مغلقة الآن أمام إسرائيل بعد تداعي التوافق الإسرائيلي- الروسي الذي كان يعطى لإسرائيل ضوءاً أخضر لضرب أهداف لإيران أو لحزب الله من ناحية وكان يعطيها أيضاً فرصة المطالبة بمنع أي وجود عسكري إيراني أو للميليشيات الحليفة بالتمركز في الجنوب السوري، وبالتحديد عدم تمكين حزب الله وإيران من إحياء جبهة الجولان لتكون جبهة مواجهة ثانية ضد إسرائيل على غرار جبهة الجنوب اللبناني. حادثة سقوط الطائرة الروسية «إيليوشن 20» جمدت هذه التفاهمات، على أقل تقدير، وعجلت بتسليم روسيا بطاريات صواريخ «أس- 300» للجيش السوري فضلاً عن تعهدات روسية بالتصدي لأي اختراق جوي في الأجواء السورية.

أما جبهة جنوب لبنان فهي التحدي الأكبر، بل والأخطر الآن بالنسبة لإسرائيل بسبب القدرات العسكرية الهائلة لحزب الله، باعتراف أبرز القادة العسكريين، وهي القدرات المدعومة بأكثر من مائة وخمسين ألف من الصواريخ الباليستية المتعددة الأحجام والأبعاد، وباتت تتمتع بقدرة تدميرية عالية جداً، ودقة في إصابة أهدافها، قادرة على ضرب أهداف حيوية في العمق الإسرائيلي وفرض أي معركة لتكون على «أرض إسرائيل» وأن تكون الجبهة الداخلية الإسرائيلية هي أول من سيدفع أثمانها، وهي، بالمناسبة نقاط حمراء مميتة بالنسبة للأمن الإسرائيلي.

مجمل هذه التطورات لها معنيان مهمان أولهما أن القدرة الإسرائيلية على الردع المتفوق باتت مهددة خصوصاً أن مرتكزات هذه القدرة تتعرض للتآكل فضلاً عن الفرص المحدودة للتحالفات الدولية (بقاء إدارة ترامب) والإقليمية مشكوك في صلابتها واستمراريتها، وثانيهما، أن الطرف الآخر الرافض الخضوع لأكذوبة التفوق الردعي الإسرائيلي أضحى قادراً ليس فقط على الصمود بل وأيضاً على الرد الموجع، في رسالة لها مغزاها القوى على مستقبل الصراع وعلى قدرة إسرائيل على الردع.