خبر هذا يوم المقاطعة ورفض التطبيع ..د. أنيس مصطفى القاسم

الساعة 06:03 ص|13 يناير 2009

 

في هذه الايام التي يشتعل فيها الغضب ليس فقط في العالمين العربي والاسلامي وانما في معظم أقطار العالم ضد اسرائيل وحاميتها أمريكا، يجب التذكير بسلاح المقاطعة الاقتصادية والتجارية الذي أُشهِرَ قبل مدة، وخَفَتَ صوت الدعاة له الى حد ما في الآونة الأخيرة. واذا كانت الأنظمة عاجزة عن تنفيذ الارادة الشعبية، فإن الشعب نفسه قادر على تنفيذ ارادته. المتظاهرون والدعاة يجب أن ترتفع اصواتهم الآن عالية مطالبة بالمقاطعة الكاملة للبضائع والمنتجات الامريكية والاسرائيلية، جنبا الى جنب مع رفض التطبيع وقطع جميع العلاقات مع المحتل الصهيوني.الشعب هو المستهلك، وهو القادر على التحكم. في الوقت ذاته لا بد من رفع شعار الرفض الكامل للقيود التي فرضت على مجتمعاتنا استجابة للطلبات الامريكية لحرماننا من فعل الخير، والمبادرة الى رعاية الايتام والارامل والمحتاجين بحجة أن ذلك يدعم الارهاب.

الادارة الامريكية التي تُوَدِّعُنا بموقف سلبي في مجلس الأمن حمايةً للمعتدي الاسرائيلي وتقف الانظمة العربية عاجزة عن الرد المناسب، يجب علينا، نحن الشعوب، أن نودعها هي ونستقبل الادارة الجديدة بفعل مؤثر قوي، بالمظاهرات الغاضبة من جهة وبالمقاطعة الكاملة من جهة أخرى. المظاهرات تعبر عن الغضب والاستياء ودعم الصمود الاسطوري لأهلنا في غزة، والمقاطعة ورفض التطبيع يعبران عن التنفيذ العملي لذلك في مواجــــهة الاحتلال والمؤيدين له. وهما بالنسبة للادارة الراحلة توديع تستحــــقه بسبب سياستها الظالمة والفاشلة، وبالنسبة للادارة القادمة إخــــطارٌ بما هو آتٍ إذا استمرت في السياسة المعروفة لامريكا ولم يشملها شعار التغيير الذي رفعته. ولقد لفت الأنظار أن الادارة الجديدة لم تعلق بكلمة واحدة على ما يجري في غزة، في حين أنها علقت على أمور أخرى. ولا نعرف السبب الحقيقي وراء هذا الصمت، ولذا وجب أن تبادر الشعوب نفسها، عربية واسلامية وأجنبية، بارسال هذه الرسالة الواضحة، وتضع الادارة الجديدة أمام أحد خيارين: إما أن تواصل دعمها المطلق لاسرائيل وحينئذ يتواصل الغضب والمقاطعة، وإما أن تقف موقفا متوازنا، على أقل تقدير، وعندئذ تعيد الشعوب النظر في خطواتها في ضوء ذلك الموقف.

 

المقاطعة كسلاح مواجهة

 

في هذه اللحظة التاريخية التي تعاني فيها امريكا من انهيار مالي واقتصادي وانهيار أخلاقي على المستوى السياسي العالمي، فإن المقاطعة ستكون من أهم عناصر المواجهة معها التي لا تستطيع هي أو الشركات التي تشملها المقاطعة تجاهُلَها أو التقليلَ من أهميتها. وفي هذه اللحظة بالذات فإن سلاح المقاطعة يستطيع أن يُحْدِثَ أثره، ويلفت النظر الى أهمية الاسواق العربية للبضائع الامريكية.وإذا استمرت المقاطعة وبدأت الشركات تشعر بأثرها على مبيعاتها وأرباحها فلا يستبعد أن تصبح الشركات التي تشملها المقاطعة قوة ضاغطة على الحكومة الامريكية لانتهاج سياسات مغايرة. الشركات، وفي الظروف العادية، تحرص على زيادة مبيعاتها وتوسيع اسواقها، فكيف يكون الحال والاقتصاد كله يعاني من انكماش وقلة في السيولة، وإقالته من عثرته تعتمد كلياً على الأسواق الاستهلاكية؟

ليس هذا فحسب، بل إن الشركات التي ألزمت نفسها بدفع مبالغ مالية ضخمة سنويا أو يوميا لدعم الكيان الصهيوني، وهي كثيرة، ستضطر لإعادة النظر في مواقفها اذا ووجهت بمقاطعة حاسمة من المستهلكين، وعرفت أن سبب المقاطعة هو هذا الدعم الذي تقدمه. كثير من هذه الشركات الامريكية يخصص نسبة معينة من ثمن البيع لدعم منظمات صهيونية تحت غطاء أن هذه المنظمات خيرية، فتحصد المليارات من وراء ذلك، والذي يدفع هذه المليارات هم المستهلكون، ومن بينهم بطبيعة الحال المستهلك العربي أو المسلم. هي تفعل ذلك على حساب المستهلك، لا على حسابها، لأنها، وفقا للقانون الامريكي، لا تحتسبه في دخلها الخاضع للضريبة. ومؤدى ذلك أن المستهلك العربي أو المسلم يساهم، من حيث لا يدري ولا يريد، في دعم المنظمات الصهيونية التي تدعم الاحتلال وتموله.وليس من الصعب على شباب الانترنت من العرب والمسلمين اكتشاف هذه الشركات وتعريف المستهلك بها. فقد أرسل لي أحدهم رسالة عن شركة سكائر أمريكية تخصص 12' من ثمن مبيعاتها لمنظمات صهيونية، وقال في رسالته إن المدخنين في العالمين العربي والاسلامي يستهلكون ما قيمته مائة مليون دولار يوميا من سجائر هذه الشركة، ومعنى هذا، اذا صحت هذه الارقام، أن المستهلك العربي والمسلم يساهم بمقدار 12 مليون دولار يوميا في دعم المنظمات الصهيونية.. المستهلك العربي أو المسلم الذي يدفع ثمنا بسيطا فيما يبدو لعلبة السكائر قد يغيب عن باله أن الحصيلة الاجمالية تصل الى هذه الملايين يوميا. وقس على ذلك شركات أخرى، كشركات مستحضرات التجميل وشركات المشروبات الغازية والوجبات السريعة، والمنظفات المنزلية والأدوات الكهربائية والألعاب التلفزيونية والكثير الكثير غيرها.

 

دور النساء و.. التجار

 

وفي هذه المعركة يبرز الدور الهائل الذي يمكن لسيداتنا أن يقمن به. فسلاح المقاطعة هذا في أيديهن، وهن القادرات على استعماله، بداية بما ينفقنه لدعم شركات مستحضرات التجميل، وهو يقدر بمليارات الدولارات سنويا بشراء المستحضرات الامريكية. إننا لسنا من المتشددين الذين يريدون حرمان المرأة من حقها في تجميل نفسها، والقرآن نفسه يحدثنا عن الزينة المستحبة، ولكننا نتساءل ألا توجد مستحضرات تجميل، أو مستحضرات تنظيف منزلية أو أدوات كهربائية الا المنتجات الامريكية؟ والسيارات الامريكية التي تملأ الدعاية لها شاشات بعض الفضائيات العربية الا يوجد بديل لها وأحسن منها؟ السيارات الامريكية تعاني الآن، فلماذا لا نستغل هذه المعاناة بمقاطعة هذه الشركات وشراء سيارات من صنع غير أمريكي؟ ألا يوجد بدائل من صنع غير أمريكي للسكائر والمشروبات ومستحضرات التجميل والسيارات؟ بالنادر ألا تكون هناك بدائل، واذا انعدم البديل وقامت حالة الضرورة، فإن الضرورات لها أحكامها.

إننا ندعو التجار والمستوردين العرب والغرف التجارية العربية الى الاقتداء بزملائهم الاتراك الذين قرروا التوقف عن التعامل مع الشركات الامريكية والاسرائيلية، ويقينا أن تجارنا ومستوردينا وغرفنا التجارية ليسوا بحاجة الى الاقتداء بالغير في هذا الموضوع، بل أنهم سيقودون فيه ويصبحون هم القدوة. والموقف نفسه مطلوب من الاتحادات الاخرى التي تقدم خدمات أو يستورد أعضاؤها سلعا استهلاكية، مثل اتحاد العمال العرب ونقابات العمال في الاقطار العربية المختلفة التي تستطيع أن تمتنع عن تقديم خدماتها في الموانئ أو المطارات، ونقابات الصيادلة الذين يستطيعون الاستغناء عن المنتجات الامريكية واستبدالها بغيرها، مع مراعاة عدم الاضرار بالمحتاجين لأدوية لا تنتجها الا شركات أمريكية، إن وجدت. واتحاد الاطباء العرب الذي أقدم أعضاؤه بعزم وإصرار على الذهاب الى خطوط المواجهة المباشرة، بما في ذلك من أخطار شخصية مؤكدة، يستطيع تذكير أعضاءه بأن تستبعد وصفاتهم، قدر الامكان، الادوية أمريكية الصنع.

كل فرد منا قادر على المساهمة. فأهم ما في المقاطعة هذه أن القرار فيها قرار شخصي، فلا يستطيع أحد أن يرغمك على شراء سيارة أو تدخين ســــيكارة أو استــعمال مسحوق من المساحيق من نوع محدد. كل واحد منا يتحكم فيما يشتريه، والقرار في يده، لا في يد المنتج أو الحكومة.

 

والجمعيات الخيرية؟

 

والى جانب هذه المقاطعة يجب أن تقوم حملة شعبية واسعة لإلغاء القيود المفروضة على التبرعات للجمعيات الخيرية العربية والاسلامية، والفلسطينية منها بشكل خاص. لقد فرضت أمريكا علينا مقاطعــــة هذه الجمعيات بحجة مقاومة الارهاب. وكانت النتيجة حرمان المؤسسات التي تعنى بالايــــتام والارامل والفقراء والمحتاجين من صدقات المسلمين. بل وقامت سلطات اسلامية، وفي مقدمتها السلطة الفلسطينية، باغلاق هذه الجمعيات وحرمان المستفيدين من الدعم الذي يتلقونه منها في مواجهة أعباء الحياة. إن هذه السلطات تريد الانتقام من المنظمات 'الارهابية' وتدمير بنيتها التحتية بهذه الاجراءات فكانت الضحية هؤلاء المحتاجين.

لقد أفتى حجة الاسلام بوش بذلك، وسارت السلطات على نهج هذه الفتوى. لقد زال بوش الآن، ونرجو أن تزول معه فتواه، ويعود المسلمون الى سابق عهدهم والى دينهم الذي يحثهم على تقديم الصدقات لمحتاجيها ويحثهم على رعاية الايتام والمحتاجين والفقراء وأبناء السبيل. الصدقات هذه وأوجه الصرف فيها ميزة من أهم وأنصع مزايا ديننا وتراثنا، ولا يصح اطلاقا الرضوخ لامريكا وغير أمريكا في هذا الخصوص. إنها الطريقة الاسلامية للرعاية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي الحر الذي يقدمه المسلم عن قناعة وشعور بالمسؤولية الاجتماعية التي تصون المجتمع وتحميه وتؤسس للتضامن والتراحم بين أبنائه. فكيف يجوز أن نضحي بهذه القيم الاجتماعية التي توارثناها استجابة لمنظور ظلامي يأتي من مهووسين لا تهمهم اطلاقا معاناة الايتام والمحتاجين ولا النتائج التي تترتب على هذه المعاناة؟ إن السيدة المصرية، حيَّاها الله، التي جاءت من القاهرة الى معبر رفح في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2009 تحمل في سيارتها ما جمعته من صديقاتها وجاراتها من مساعدات عينية، من بينها أرغفة خبز، لتقديمها للمحاصرين في غزة لم تكن تفكر في حماس أو في الجهاد أو غيرهما من فصائل المقاومة، وانما كانت هي وصديقاتها وجاراتها يفكرن فقط في الاطفال الذين يحتاجون الى أرغفة الخبز، وتحركن بدافع الخير الذي توارثناه.

والسيدة المصرية التي أصرت على التبرع بالدواء الذي تأخذه ضد مرض السكر، والسيدات السودانيات اللواتي تبرعن بالأساور والخواتم وذهبهن، فأرجعتنا السيدات بتصرفهن هذا الى الايام الخوالي حين كان التبرع لدعم النضال من أجل الاستقلال نضالا يشمل المجتمع كله. بارك الله فيهن.

ونقول مرة أخرى، إذا كانت الانظمة لأسبابها عاجزة عن المقاطعة فإنها لا تستطيع أن تفرض عدم المقاطعة على الشعب، واذا كانت تساهم في رفع المعاناة عن شعبنا في غزة، أو كانت تتحرج من تقديم أنواع معينة من المساعدات، فإن الشعوب قادرة على المساهمة المباشرة في رفع المعاناة ودعم الصمود.

افتحوا الابواب، ولا تقتلوا ما في النفوس من حرص على فعل الخير من جانب والشعور بالانتماء والامتنان لمجتمع فيه الكثيرون من أهل الخير في جميع المستويات من جانب آخر.

وإذن وفي نفس الوقت الذي نرفع فيه نداء مقاطعتهم يجب أن نرفع أيضا شعار الغاء المقاطعة التي فرضت علينا، هذان جانبان من جوانب المواجهة في هذه الايام العصيبة والمجيدة.

 

' عضو المجلس الوطني الفلسطيني