خبر غزّة والحقيقة المُرّة ..هشام نفاع *‏

الساعة 05:59 ص|13 يناير 2009

 

تبلغ تكلفة الطائرة الحربية إف ــ 16، بطرازها الجديد (F-16-I-2006)، نحو 70 مليون دولار. سابقاتها الأقدم أقلّ تكلفة، لكنها تظلّ هي الأخرى بعشرات الملايين. وهذا لا يشمل وقودها ولا تسليحها بتقنيّات القتل. أي في حوالى الحادية عشرة والنصف من صباح السبت الدموي 26 كانون الأول 2008، كانت سماء غزة تتمزّق بمئات ملايين الدولارات الأميركية أو أكثر، على صورة سرب من طائرات أف ــ 16 الأميركية التي قادها شبّان إسرائيليون، وألقوا منها، بأرفع المنظومات الرقميّة، حممَ القتل والتدمير على إحدى أفقر بقاع العالم، على قطاع غزة المكتظّ المحاصَر المحتلّ.

كيفما أطلّ المرء (صاحب الضمير، أقصد) على هذا العدوان المجزري، لا فرق من أية زاوية، فسينتابه الشعور بالغضب والألم والنقمة. مع ذلك، فهناك جانب لا يبعث إلا على الغثيان، على القرف. إنّ مشهد، أو مجرّد فكرة، قصف قطاع غزة الفقير بهذا الكمّ الهائل من البارود القاتل، بهذه النوعية الدقيقة من السلاح ومن هذه الطائرات العالية التطوّر، هو أمر يسمّم العقل والقلب والحلق بالغثيان. هو الغثيان من بشاعة هذا الاستعلاء وهذه الغطرسة المتوحّشة. هناك انعدام تام صارخ حتى السّماء لأي تكافؤ عسكري، بالأحرى لتكافؤ القوّة، لكن هذا لا يمنع دولة الترسانة العسكرية الأكبر في هذه المنطقة من إخراج كامل قوّتها للفتك بمن لا يكادون يملكون شيئاً. هناك وحشية بلا حدود في هذا، لكنْ هناك أيضاً جبن وخسّة بأقصى الحدود. إنها خسّة مَن لا يملك ذرّة من شهامة المحارب، وسأفترض أنه يجب أن تكون شهامة لدى المحارب أيضاً. فالمتيقّن من تفوّق قوته، الذي لا يتورّع عن إخراجها بالكامل إلى حيّز التنفيذ تجاه من لا يقاربه أبداً في القوّة، هو نذل. هذا الجيش الإسرائيلي الكبير القوي المدرّب المجهّز يتصرف كنذل يتلذّذ بساديّة بتفوقه العسكري على أهالي إحدى أفقر بقاع العالم.

رتابة التوحّش هذه مرعبة بالمعنى الإنسانيّ الوجودي العميق. هذا المتوحّش هو إنسان مثلك، لكنه ينهش إنسانيتك بمجرد انتمائكما الإنساني المشترك. ما يفوق ذلك فظاعة، هو ما يغيب خلف دخان القتل والتدمير، هو دقّة بشاعة هذه الخسّة، حيث يقضي فقراء مُعدَمون محاصَرون بنيران مُهندَسَة بأعلى التقنيّات.

إنها بشاعة الحداثة الصورية حين تُفرّغ من أية أخلاق، حتى من أخلاقيات الحرب، وسأفترض أن للحرب أيضاً أخلاقيات.

حتى إذا استطعنا، افتراضاً، تجريد المشهد الدموي من جميع خصائصه السياسية وإخراجه من جميع سياقاته السياسية، فسيظلّ المشهد العاري الوحيد هو قتل جماعي ينفذه طيّارون شبان من شرائح إسرائيل الغنية، بحق فقراء غزة الفلسطينيين، بواسطة أحدث الطائرات الحربيّة الأميركية وأغلاها. من الصعب العثور على تجسيد أدقّ لمفهوم الغثيان مقابل أحد أدنى أشكال التبلّد الإنساني.

لقد أثبت العدوان الهمجي الإسرائيلي على قطاع غزة، مجدداً، أن المشكلة تتجاوز سياسات إسرائيل الرسمية. بل هي تمتدّ عميقاً في المجتمع الإسرائيلي بغالبيته الساحقة. قبل سنتين ونصف السنة، نجحت المؤسسة الإسرائيلية بسهولة كبيرة في وضع المجتمع الإسرائيلي كله تقريباً، في طابور واحد داعم وزاعق للحرب العدوانية على لبنان ــ تموز 2006.

كان المشهد مخيفاً. فبعد عقود من سياسات الحرب والتوّسع والقتل والتدمير والعدوان الفاشلة، لم يتبيّن فقط أن حكّام إسرائيل لم يتعلّموا أيّ درس، بل إن المجتمع برمّته تقريباً فاقد لأي ذاكرة أو رشد أو يقظة. بدا المشهد مأخوذاً من وحي دولة اسبارطة اليونانية القديمة، حيث كل شيء وكل فرد مجنّد لآلهة الحرب. مضت الأيام والشهور، ورأى المجتمع الإسرائيلي بوضوح أن الحرب كانت خطأً كبيراً. وانهال سيل الانتقادات على الحكومة حتى كادت تتقوّض. وبرز بالأساس حشد الصحافيين الإسرائيليين بنقدهم اللاذع للحكومة والجيش، مع أنهم في أول أيام تلك الحرب على لبنان، لم يكونوا أكثر من بوق زاعق تافه يمجّد الحكومة والجيش والحرب. بالطبع، فلم يأت النقد لأن هناك من استوعب بشاعة العدوان، بل لأن «الجيش لم ينتصر»!

مرّت سنتان ونصف السنة، وعاد المشهد البشع نفسه ليتكرّر في غزة. حكومة ترسل جيشاً لاقتراف عدوان دموي، بل مجزريّ، وتنجح في صَفّ مجتمع بأكمله في طابور واحد مهلّل للقتل بعيون عمياء وبصيرة منغلقة. ولا حاجة للتوقّف مطوّلاً عند سلوك الصحافيين الإسرائيليين (ما عدا من يمكن عدّهم على أصابع يد واحدة، أبرزهم جدعون ليفي وأميرة هاس الجريئان) وقد تجنّدوا بخسّة وجبن خلف سادة الحرب والقتل، وقد انعقدت ألسنتهم إلا عن النفاق لسياسة الموت.

ليس هذا تعميماً غاضباً. فكلّ بيت تقريباً في هذه الدولة مجنّد للعدوان الدموي على غزة فعلياً. مجتمع بأكمله يسلك كأداة طيّعة عديمة الحول والقوّة والوعي بأيدي حكّامه. صوت النقد والشك وحتى التساؤل مفقود تماماً. العجز عن رؤية العلاقة بين صاروخ «القسّام» يدويّ الصنع والحصار القاتل والمهين على غزة لا يكشف غباءً جماعياً إسرائيلياً، بل يكشف عن مجتمع أنانيّ منغلق جبان يهرب من الحقيقة. أما الأصوات الضئيلة التي تتجرّأ على الخروج من القطيع فتضيع وسط ضجيج طقس التمجيد الوثني للقتل والعدوان.

الجيش يقتل بالصواريخ 40 إنساناً، جميعهم مدنيون، داخل مدرسة في غزة، لكن الخبر يمرّ برتابة فظيعة في تقارير القنوات الإسرائيلية. بعدها بدقيقتين لا يتورّع الصحافيون وضيوفهم في الاستوديوات عن تبادل بعض الابتسامات والنكات الخفيفة مع انتقالهم إلى النبأ التالي. بين النشرة والنشرة تتوالى البرامج عن الطبخ والرحلات وشتى المستحضرات والتفاهات، بينما المجتمع الإسرائيلي يواصل دوره المرسوم كمشاهد، برتابة بمشاعر متبلّدة باردة.

حكامه وجيشه يقتلون أطفال ونساء ورجال، جيرانهم في غزة، لكن هذا لا يهزّ في قطيع المشاهدين أي ضمير ولا يثير أيّ قلق.

ليس الحديث عن اليهود شعباً. الأمر غير متعلّق بالأعراق، بل بالتشوّه الأخلاقي الذي يضرب مجتمعَ أغلبية في دولة احتلال، يتصرّف بأنانية وانغلاق، ويغوص في ثقافة النهم والاستهلاك والمنفعة الذاتية الرخيصة. تفطن للحظة قصيرة بالديموقراطية، فتكاد معدتك تنقلب وأنت ترى دولة بأكملها مصبوغة بلون القتل والتدمير. تبحث عن معنى المواطنة وعن وجوه المواطنين، فلا ترى سوى أشباح أحاديّة المظهر تتداخل معاً في كتلة عديمة الوجوه.

الحقيقة مرّة. ربما هذا هو طعم الحقيقة حين تطلّ من قلب الحضيض. فمنظومة الحرب في إسرائيل، وهي هوس مرَضي، لا يمكن إلقاء المسؤولية عنها على عاتق «الحكام» و«المؤسسة» وما شابه، فحسب. بشاعة اللحظة لا تحتمل أيّ تجميل أو تخفيف. إن هذا المجتمع الإسرائيلي يتصرّف كمريض مصاب بالعمى الأخلاقي والسياسي، وهو مُنقاد إلى حتفه، فيما هو يهلّل للموت ويرقص رقصة الموت ويسجد لآلهة الموت. من المرعب التيقّن مجدداً أن هؤلاء لم يتعلموا شيئاً رغم كل دماء الماضي البعيد والقريب، ومن المرعب التفكير أنهم سيسلكون بالعمى نفسه في العدوان المقبل. بقي أن العلاج الوحيد لهذا المرض الجماعي هو العلاج نفسه الذي لا يزال المريض يرفضه: إنهاء الاحتلال الكولونيالي واحترام جميع الحقوق الفلسطينية كاملةً. ولا مفرّ من فرض هذا العلاج عليه، سواء شاء أو أبى. هناك أمراض تحتاج إلى علاجات قسريّة بالصدمة!

* صحافي فلسطيني