خبر هناك ما يمكن فعله ..محمود الريماوي

الساعة 11:07 ص|12 يناير 2009

 

إضافة إلى المرارة التي يشعر بها الرأي العام العربي، إزاء الوحشية المتمادية لدولة الاحتلال، فإن الاضطراب في الجسم السياسي العربي، والقصور عن التعامل مع التحدي الجسيم، والاستعاضة عن الفعل السياسي بإطلاق حملات إعلامية وتعبيرات وجدانية، كل ذلك يؤدي إلى حالة من الاحتقان المكبوت، والشعور بدفع الأمور نحو التيه وتضييع البوصلة، وكأنما بصورة متعمدة لا اضطرارية.

 

الخطاب الرسمي المضمر الذي يسعى لتبرير الشلل، يستند إلى زعمين اثنين، الأول هو التفوق العسكري النوعي للعدو، بما يحول دون أي تكافؤ، ويجعل أي مواجهة عسكرية معه لصالحه مسبقاً. والزعم الثاني أن الاتفاقات المبرمة معه، تحول دون اتخاذ موقف مناوئ له وينتصر لأبسط الحقوق العربية ويكفل عدم تصفية القضية الفلسطينية.

 

هذه المزاعم هي مجرد ذرائع. فليس مطلوباً إشعال الجبهات العسكرية أو شن حرب. كما أن التخلي عن الاتفاقيات بصورة تامة ليس وارداً، لما يؤدي إليه ذلك من العودة إلى حالة الحرب الرسمية ومواجهة تداعيات نقض اتفاقيات دولية. ذلك أنه بين الخيار العسكري وبين إلغاء المعاهدات، هناك مروحة.. طيف من الخيارات البديلة والإجراءات المتاحة، التي تنسجم مع أحكام القانون الدولي ومع سيادة الدول، وتعكس دينامية الدبلوماسية والردود السياسية الخلاقة التي ترمي لتحريك الساكن وتوجيه رسائل سياسية قوية، وإشاعة مناخ الثقة باستثمار الموارد والمزايا التي يتمتع بها العالم العربي.

 

في مقدم هذه الخيارات تفعيل قرارات سابقة للقمم العربية (قمة القاهرة الطارئة عقب اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2001) بمحاكمة مجرمي الحرب. لقد نجح العرب في خوض مواجهة قانونية وسياسية حول الجدار العازل في لاهاي أمام محكمة العدل الدولية. فكيف يستقيم أن يؤدي النجاح إلى قعود الهمة وشلل الإرادة، خلافاً لمنطق الأمور وطبيعة الأشياء حيث يحفز النجاح على بذل محاولات أخرى. وإذ تلتقي تصريحات ومواقف الزعماء العرب في المحنة الأخيرة على إدانة قتل الأبرياء واستهداف المدنيين، ألا يدفع ذلك نحو التقدم خطوة إلى الأمام بالعمل على إحالة الجناة المعلومين إلى العدالة انتصاراً للضحايا، ولتقييد أيدي القتلة ولتنظيم حملة سياسية يتم فيها وضع الجناة في دائرة الضوء، والعمل على تفعيل أحكام القانون الدولي، حتى لو وقفت دون ذلك بعض العوائق، فالمهم هو العمل بهذا الخيار وعدم تعطيله.

من الإجراءات الأخرى المتاحة دعوة المجتمع الدولي، لتفحص ما إذا كات الممارسات “الإسرائيلية” الإجرامية والمنهجية، تنسجم مع العضوية “الإسرائيلية” في الأمم المتحدة، وما يترتب على هذه العضوية من التزامات وضوابط، بما في ذلك تنفيذ القرارات الصادرة عن أعلى هيئة دولية (مجلس الأمن). وقد يكفي في مرحلة أولى حشد تصويت عشرات الدول في عالمنا عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح هذا الأمر، من أجل وضع هذه العضوية تحت الفحص، وما إذا كانت الدولة العبرية تستوفي شروط الاستمرار في عضويتها في نادي الأمم. وهناك سابقة في هذا المجال، تتعلق بعضوية “الصين الوطنية” حيث ألقت الصين الشعبية بثقلها وراء قرار وقف عضوية شطر من الصين حتى تم لها ذلك.

إن الخشية الشديدة من العودة إلى المواجهة العسكرية، باتت تمتد إلى الميدان السياسي، وهذا هو مكمن العطب في المواقف العربية الرسمية، فقد بات الأمر يقتصر في العواصم العربية هنا وهناك على شن حملات إعلامية، وكأن قدرات الدول لا تزيد عما يمتلكه الإعلاميون، من أسلحة الكلمة والصوت والصورة. بينما تمتلك الأنظمة وفي إطار سيادة دولها، اتخاذ مواقف مثل تخفيض وتجميد مستوى العلاقات مع دولة الاحتلال، وإغلاق ما يعرف ب “المكاتب التجارية”. لقد اعتمدت تل أبيب من جهتها رفض التطبيع مع العالم العربي، عبر سياساتها العدائية والنازية، فلماذا يتم التمسك عربياً بهذه السياسة العقيمة وغير المبررة؟

 

ولا تقتصر الخيارات على ما تقدم، فهناك خيار استدراج اهتمام دولي وملموس بالوضع في الأراضي المحتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة على السواء، وذلك عبر توفير حماية دولية مؤقتة، كيما يتمكن الشعب الرازح تحت الاحتلال من تقرير مصيره، والعيش بكرامة بعيداً عن الاجتياحات “الإسرائيلية” المتعاقبة. والخلاف داخل الصف الفلسطيني حول هذه المسألة ينبغي أن يدور حول طبيعة التفويض لقوات الحماية المطلوبة، وليس على مبدأ الحماية، وما يحدث من عمليات إبادة في غزة، هو دليل صارخ على مثل هذه الحاجة. علماً أن الاحتلال ارتكب دون وازع من قبل مئات الاجتياحات السابقة للضفة والقطاع، فلماذا لا تجرى الإفادة من تجارب سابقة في عالمنا وبالذات في البلقان. ولماذا لا يتم قطع الطرق على استفراد قوة الاحتلال الغاشمة بشعب أعزل ومحاصر، وتحميل “المجتمع الدولي” مسؤولياته إزاء ضمان الحماية دون التأثير على الحق في الحرية والاستقلال؟

 

هناك بالتأكيد إجراءات وخيارات أخرى للتعامل الناجع على ما يحدث، بدلاً من اكتفاء العواصم ببث التعليقات السياسية، بما يجعل أصحاب القرار يزاحمون الإعلاميين في العمل الإعلامي، وخلافاً لمهمة صنع القرارات والتعبير عن الإرادة السياسية وتفعيلها. هناك ما يمكن فعله حقاً، ومما لا يحتاج إلى توافق مسبق بالضرورة عبر قمة عربية أو سواها، إذ إن المبادرات مطلوبة في هذه الآونة وهذا هو وقت إطلاقها.