خبر المجتمع الدولي” وامتحان غزة ..عبد الاله بلقزيز

الساعة 11:04 ص|12 يناير 2009

إذ تستفحل الأوضاع الإنسانية في غزة جرّاء الحرب البربرية الصهيونية، وإذ يستبسل أبطال المقاومة في “حماس” وسواها من الفصائل في ردّ العدوان والدفاع عن الأرض والشعب والكرامة الوطنية، وإذ تنفجر مدن العالم وشوارعها بالاحتجاج الصارخ على المجزرة، وإذ يقدّم النظام الرسمي العربي الدليل تلو الدليل على فداحة عجزه ومستوى الشلل في “إرادته”، يتساءل من يتساءل: أين “المجتمع الدولي” وأين القانون والشرعية وسائر مفردات من يحكمون العالم ويفرضون شريعتهم على البشرية منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل ما زال في رؤوس أصحاب القرار الدولي بقيّة من رائحة ضمير يهزّ الوجدان ويوقظ حسّ المسؤولية الأخلاقية عن أرواح بشر تزهق بغير حق؟

في وسع أي أحد أن يردّ: وماذا تنتظر من “المجتمع الدولي” أن يفعل إذا لم يكن النظام العربي معنياً بمصير الشعب الفلسطيني تحت النار والقتل والجريمة، ولا تستحق عنده كل هذه الدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت والمقدّرات التي دمّرت والكرامة التي مُرّغت قمة طارئة يسمع فيها العالم أن العرب اجتمعوا لتدارس الموقف؟

وصاحب السؤال الاستدراكي على حقّ. غير أننا ما تساءلنا عن موقف “المجتمع الدولي” إلا لأننا نعلم بأن لا تعويل على موقف رسمي عربي يستُر العورة ويسدّ مسدّ الواجب السياسي والإنساني والأخلاقي ويُسعف أهل غزة المنكوبين بجريمة العدوان. ثم إننا ما تساءلنا عن موقف ذلك “المجتمع الدولي” إلا لأن العرب أنفسهم -مسؤوليهم نعني- لم يفعلوا شيئاً آخر غير المراهنة عليه. وإذا كان “المجتمع الدولي” غير آبه بما يجري من مذابح في غزة لأنه مرتاح من غياب أي ضغط عربي عليه -وهذا صحيح- فإن سؤالنا عن موقفه إنما ينصرف الى ملاحظة ذلك الكمّ الهائل من الضغوط التي يُمارسها عليه شارعُه الأوروبي والأمريكي الغاضب من الصمت الدولي على المذبحة، وهي ضغوط تفرض عليه شكلاً ما من الاستجابة تفرضها طبيعة العلاقة بين القرار واتجاهات الرأي العام في المجتمعات الغربية. فحين لا يكون لأصوات وصرخات جماهيرنا المتظاهرة صدى لدى صناع القرار في البلاد العربية، فلا يجوز قياس الحال في بلاد الغرب على أحوالنا.

تسمح لنا خبرتنا المعاصرة مع السياسات الغربية، وما تعرضت له شعوبنا من لسعاتها القاتلة، أن ندرك على الوجه الأمثل خلوَّ تلك السياسات من قيم العدالة والإنصاف واستواءها على مقتضى الازدواجية في المعايير. مأساة فلسطين منذ التقسيم (1947) ومنذ قيام الكيان الصهيوني عليها والاعتراف به، ومأساة العراق منذ حرب “عاصفة الصحراء” حتى غزوه وتدميره، من الشواهد على ذلك، وهي ما تكررت إلا لأنها تحوّلت الى أخلاقية سياسية مزمنة. وهذا سبب إضافي جديد للشك في مدى قدرة تلك السياسات على إنصاف الضحية في غزة وعدم مساواته مع الجلاد كما يفعل نيكولا ساركوزي محاولاً تهذيب و”أنسَنَة” سياسة غربية (أمريكية خاصة) صريحة العداء للحقوق الوطنية الفلسطينية وشديدة التعاطف مع الصهيونية والتغطية لجرائمها. لكننا، اليوم ندرك أن هذه الازدواجية في المعايير لا تمنع حكومات الغرب من الإصغاء إلى البعض القليل من مطالب شارعها والمسارعة إلى إصدار قرار بوقف الحرب. ورفع الحصار عن الشعب في غزة. وهو أمر لن يكلفها فقدان ودّ الصهيونية والانحياز لها حتى لا نقول إنه يسمح لها بإنقاذ “إسرائيل” من نفسها فضلاً عن إنقاذ ماء وجهها أمام شعوبها الغاضبة.

ثمة عامل آخر من عوامل الضغط سيفرض على الدول الكبرى التدخل لوقف العدوان هو صمود غزة وصمود المقاومة وإفشالهما أهداف العدوان. قد يتأخر ذلك التدخل ليومين أو ثلاثة، لكنه حاصل لا محالة. بعد أحد عشر يوماً من الحرب وأربعة أيام من الاجتياح البري، تقف “حماس” -ومعها الفصائل- بكل إباء وشجاعة في وجه جحافل الغزاة، تردهم على الأعقاب مدحورين وخائبين. بضعة آلاف من المقاتلين الأبطال يصنعون المستحيل في تلك الرقعة الصغيرة من الأرض العربية. يفعلون ما لم تقو عليه جيوش نظامية مجتمعة، ويكبدون الجيش الغازي المدجج بالتكنولوجيا والتغطية الدولية الخسارات الجسيمة في جنده وآلياته وهيبته، ويفسدون عليه الشعور بالتفوق، ويكسرون فيه إرادة الانتصار. يكررون ما فعل “حزب الله” قبل نيف وعامين على الرغم من ضعف التسليح وفقدان العمق اللوجستي. هل هذه الملحمة شيء عديم القيمة والدور في حساب السياسة الدولية؟

في المقابل، ما نجح العدو في أن يظفر حتى الآن بأي مكسب بعد أحد عشر يوماً من الحرب. نعم، قتل المئات من الشهداء المدنيين وفي جملتهم أطفال ونساء وجرح الآلاف من السكان ودمر البيوت والمؤسسات والمساجد وشرد عشرات الآلاف من الناس، وخرب البنى التحتية، وأغرق مدن القطاع وبلداته في عتمة الظلام وطوفان مياه الصرف الصحي والجوع والفاقة.. الخ، لكنه ما نجح في أن يحتل بلدة صغيرة واحدة، ولا في أن يدفع المقاومة إلى الاستسلام أو يكسر إرادتها، ولا في أن يوقف سيل صواريخ القسام وغراد المنهمرة على مستعمراته في فلسطين المحتلة. منحه “المجتمع الدولي” الزمن الكافي للسيطرة على قطاع يصغر القاهرة أو بغداد مساحة، لكنه عجز عن إنهاء مهمته، وما عاد ممكناً التمديد له أكثر وإلا بات انفضاح “المجتمع الدولي” أكبر.

ولقد كنا ننتظر الروس والصينيين في هذه المحنة، لكنهم خلدوا للصمت على غير عهدنا بهم في مثل هذه الأحوال. أحفاد العثمانيين وحدهم كانوا الرجال وأبلى رئيس وزرائهم أردوغان البلاء الحسن، وكان أفضل من حمل قضيتنا إلى العالم ورفع صوت الحق جهيراً حين أصحاب الحق من غير أهل غزة صمتوا! ولسنا نشك في أن لموقف تركيا أثراً في السياسة الدولية لثقلها في الإقليم وعضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن. وإذا ما اجتمع هذا الدور مع صمود المقاومة في الميدان وحراك الشارع في الغرب وفي بلادنا العربية، فسيعوض ذلك عن دور رسمي عربي مفقود.