خبر ولماذا لا يحاكم قادة إسرائيل كمجرمي حرب؟ .. بلال الحسن

الساعة 01:36 م|11 يناير 2009

.. ولا تزال الحرب الإسرائيلية مستمرة ضد غزة. والحرب الإسرائيلية المستمرة لا تعني إلا المزيد من قتل الأطفال والنساء والمدنيين، ولا تعني إلا المزيد من تدمير المدارس والبيوت وقتل عائلات بكاملها.

 

ستنتهي هذه الحرب مهما طال زمنها، ولكنها ستسجل مع بدايتها ونهايتها، أن إسرائيل هي دولة جرائم الحرب، وسيسجل التاريخ أنها الدولة التي لم تحاسب مرة واحدة على الجرائم التي ارتكبتها. أما بعد هذه الغارة الممتدة فإن الجريمة كبيرة وكبيرة إلى حد لا يسمح بالصمت بعدها. لا بد من حملة يبادر لها من يجد نفسه كفوا لها، تدعو إلى محاكمة إسرائيل كدولة تقود وتنفذ جرائم حرب. ولا بد من حملة تدعو العالم لكي يفرض على إسرائيل دفع تعويضات للشعب الفلسطيني عن كل جرائم الحرب المرتكبة بحقه.

 

 

لقد كانت إسرائيل محمية دائما من الولايات المتحدة الأميركية، وسمحت هذه الحماية لإسرائيل لكي تنجو دائما من دعوات محاسبتها على جرائمها. ولكن جرائم غزة الأخيرة لقيت استهجانا من عواصم العالم بأكمله، وخرجت مظاهرات الشعوب في كل العواصم، تستنكر ما فعلته إسرائيل، وتستنكر الحماية الأميركية لجريمة إسرائيل. وتشكل هذه الإدانة العالمية الشاملة منصة مناسبة، يمكن أن تنطلق منها، وبالاستناد إليها، دعوات محاكمة إسرائيل على جرائم الحرب التي ارتكبتها، ودعوات إجبار إسرائيل على دفع التعويضات عن عمليات التدمير التي مارستها بحق المؤسسات والمدارس والبيوت والمساجد. أما عمليات التدمير ضد المدنيين، ضد الأطفال والنساء، وضد الرضع الذين ملأت صورهم العالم بأكمله، فهي جرائم حرب لا يمكن التعويض عنها، وستبقى راسخة في الذاكرة الإنسانية، كجريمة لا تغتفر. وكجريمة لا بد من استنكارها دائما، لعلها لا تتكرر، لا على يد إسرائيل، ولا على يد سواها من الدول والحكومات والجيوش في العالم كله.

 

أما الولايات المتحدة الأميركية، التي رعت إسرائيل ومجازرها، فقد سجلت علامة سوداء جديدة في تاريخ حضارتها. إذ ثمة علامات سوداء عديدة في سجل الحضارة الأميركية. علامة سوداء في إبادة الهنود الحمر عند بداية الاستيطان الغربي في تلك الأرض. وعلامة سوداء في خطف البشر من إفريقيا واستقدامهم عبيدا إلى العالم الأميركي الجديد، ومن خلال مأساة مديدة استمرت ما يقارب المائتي عام. ثم كانت العلامة السوداء الثالثة، عندما برز المحافظون الجدد، ووصلوا إلى منصة الحكم في البيت الأبيض عام 2000، وبدأوا بفرض سياستهم، وكانت خلاصة هذه السياسة سلسلة من الحروب التي زرعت الشر في العالم كله، ونالنا منها، نحن العرب، شر كبير، في لبنان وفي العراق وفي السودان وفي فلسطين.

 

وقد فشلت سياسة المحافظين الجدد على امتداد العالم كله، ولم ترث منها أميركا سوى الضعف والكراهية، ولكن الهزيمة الأميركية الأكبر لهذه السياسة جاءت من داخل المجتمع الأميركي، حين اختار هذا المجتمع قيادة جديدة له، وطرد قيادات المحافظين الجدد من كل مواقعهم. ولكن المجرم يبقى مجرما حتى لحظة موته كما يقول علماء النفس. ولهذا.. وفي الشهر الأخير المتبقي لهم في الحكم، بادروا إلى مواصلة الإعلان عن الشر الكامن في نفوسهم، فشجعوا إسرائيل على إعلان الحرب في غزة، وضمنوا لها توفير الحماية في العالم وفي مجلس الأمن. وفي ظل هذه الحماية، تم قتل الأطفال الفلسطينيين برعاية أميركية، وتم قتل النساء الفلسطينيات برعاية أميركية، وتم تدمير بيوت الناس فوق رؤوسهم برعاية أميركية.

 

وربما تكون أميركا بريئة من هذا كله. أميركا الشعب، وأميركا المواطنين، وأميركا الناس الطيبون، الذين يكدون ويتعبون يوميا من أجل العيش. ولذلك فإن الأصوات الأميركية والعالمية لا بد أن ترتفع، لمحاكمة قادة المحافظين الجدد، على قاعدة ما ارتكبوه من جرائم بحق العالم، وعلى تشجيعهم ورعايتهم لجريمة غزة بشكل خاص، لتكون محاكمة المجرمين على جريمتهم، حماية لكل ما هو خير وطيب داخل أوساط الشعب الأميركي. وبعمل من هذا النوع، يمكن لشعار «التغيير» الذي حمل الرئيس باراك اوباما إلى البيت الأبيض، أن يجد طريقه الفعلي إلى التطبيق. وهو تغيير لا تريد له إسرائيل أن يحدث، لكي تبقى متمتعة بالحماية الأميركية لجرائمها. وهناك تحد كبير أمام الرئيس أوباما الآن، هل سيبقى وفيا لشعار «التغيير» الذي رفعه، أم أن إسرائيل ستواصل ارتكاب جرائمها معفية من العقاب؟

 

وإذا كان لا بد من وقفة أمام المجزرة الإسرائيلية المستمرة، فمن المفيد القول إن تفاصيل هذه الجريمة معروفة أمام أعين الجميع في القنوات التلفزيونية جمعاء. ولكن تبقى ثمة ملاحظات للتفسير أو للتذكير:

 

إن جريمة إسرائيل في غزة الآن ليست هي البداية، لقد سبقتها عام 2002 جريمة إسرائيل في الضفة الغربية بقيادة آرييل شارون. لقد بادر شارون يومها، وبحجة القضاء على الانتفاضة (وليس على إطلاق الصواريخ)، إلى إعادة احتلال الضفة الغربية، وقام يومها بنسف وتدمير كل مؤسسات السلطة الفلسطينية، الوزارات، ومقرات أجهزة الأمن، ومباني الإذاعة والتلفزيون، ومحلات الصيرفة. وقام أيضا بمحاصرة الرئيس ياسر عرفات في مكتبه حتى استشهد، وارتكبت في سياق هذا العمل جرائم تدمير في أكثر من مدينة، برز منها أمام العالم جريمة ومجزرة مخيم جنين. فما الذي هدفت إليه إسرائيل، سياسيا، من وراء تلك المجازر في الضفة الغربية؟ لقد كان الهدف واضحا وجليا: تصفية السلطة الفلسطينية. تصفية منظمة التحرير الفلسطينية. تصفية المقاومة الفلسطينية للاحتلال، تشتيت أجهزة الأمن. وفي الختام تصفية وإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.

 

وها هي إسرائيل تكرر الآن في غزة، الشيء نفسه الذي أقدمت عليه في الضفة الغربية. إنها تدمر مباني أجهزة السلطة، وتدمر مباني أجهزة الأمن، وتدمر مباني البلديات، وتدمر مباني المدارس، وتحاصر المستشفيات وتمنع طواقمها من العمل وتقتلهم، وهدفها الأساسي أن تقضي على أي تنظيم يمارس مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لوطنه. وكل ذلك من أجل فرض حل سياسي على الشعب الفلسطيني، حل ذليل، يسمونه أحيانا دولة فلسطينية مؤقتة، ويسمونه أحيانا «سلام اقتصادي»، ومن أجل أن يقبل هذا الحل كل من لا يزال يرفضه داخل الشعب الفلسطيني.

 

لقد بادر آرييل شارون إلى بدء ممارسة تلك السياسة في الضفة الغربية عام 2002، بعد أن اعلنت إدارة الرئيس جورج بوش، ما سمته «الحرب ضد الإرهاب»، وتقدم آرييل شارون ليقول إن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي هو عمل إرهابي، وأن إسرائيل حين تضرب هذه المقاومة فإنها تساهم في الحرب ضد الإرهاب. وقبلت إدارة بوش من شارون هذا الموقف ودعمته. وتعمقت على أثر ذلك سياسة الدعم الأميركي للجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

 

القصة إذا قديمة، وهي ليست وليدة اليوم، ليست وليدة بروز حركة حماس، وليست وليدة الصواريخ المنطلقة من غزة. إنها سياسة إسرائيلية رسمية، اعتمدت ودعمت من واشنطن ومن البيت الأبيض، وها هي تتواصل أمامنا علنا من خلال الدعم الأميركي العنيد لإسرائيل في مناقشات مجلس الأمن، ومن خلال الرفض الأميركي العنيد لكل مطلب عربي يدعو إلى إدانة الحرب الإسرائيلية، وإلى فك حصار التجويع عن أهل غزة.

 

وسواء نجح العرب في مجلس الأمن أو فشلوا، فإن الوضع خطير، والتجربة كبيرة، بحيث تستدعي النتائج وقفة كبيرة مع الذات، يتم فيها استرجاع السياسات القائمة، والبحث عن الأجوبة بروح نقدية، عما إذا كان من الممكن مواصلة هذا النوع من السياسات، أو أن جرس الخطر قد انطلق معلنا تحذير الجميع، وتنبيه الجميع إلى أن عهدا جديدا قد بدأ.

 

*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية