خبر القرار 1860 والحقبة العربية الجديدة .. رضوان السيد

الساعة 11:10 ص|11 يناير 2009

ـ الاتحاد الإماراتية 11/1/2009

جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1860 بشأن مأساة غزّة، بعد مخاضٍ عسير. فحتّى مساء الخميس، عندما غادر الرئيس الفلسطيني نيويورك إلى مدريد، ما كان هناك أملٌ كبيرٌ لدى الوفود العربية بأن يُتّخذ قرارٌ قبل نهاية الأسبوع. ويرجعُ ذلك إلى عدة عوامل: اتفاق إدارة بوش الغاربة أو الغابرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الغارب أو الغابر أيضاً على تمديد أَمَد الحرب حتّى تطمئنّ إسرائيل إلى تحقيق أهدافها بإنهاك حركة "حماس" أو إنهائها ولو كلّفها ذلك إعادة احتلال قطاع غزّة. والعامل الثاني التلاعُب الفرنسي -إذ إنّ فرنسا تسلمت رئاسة مجلس الأمن لهذا الشهر- تارةً بحجّة إقناع الولايات المتحدة، وطوراً بحجة معرفة مصائر المبادرة المصرية التي كان للرئيس الفرنسي فضلٌ في إقناع الرئيس مبارك بها. وأخيراً بذريعة تطرُّف مشروع القرار العربي، وانصراف بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لإعداد مشروع قرارٍ آخر بالتنسيق مع العرب! والعامل الثالث تخوُّف أعضاء في مجلس الأمن أن يظلَّ القرارُ بدون أثر، وأنّ الأفضل التوصُّل إلى هُدْنةٍ إنسانية قبله، عن طريق التشاور مع الأطراف المتصارعة على الأرض، تُمهِّدُ لاتّخاذه.

بيد أن الإصرارَ العربي من جانب الأمير سعود الفيصل والأمين العام للجامعة العربية، ولجهتين: لجهة دعم وجهة النظر العربية من جانب الصين وروسيا، والأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن -ولجهة اقتناع الأميركيين أخيراً بأنّ العرب جادُّون في قَلْب الصفحة في المجال الدولي، والمجال الشرق أوسطي، إن أصرَّ الأميركيون، وأَهْلُ "الرُباعيّة" على مَسْح توقيعاتهم ومساعيهم السابقة، والتي تُوِّجَتْ بالقرار رقم 1850 من جانب مجلس الأمن الدولي قبل شهرٍ ونصف. والواقع أنّ القرار رقم 1860 هو قرارٌ شديد الجدية وقد كلَّف مرورُهُ عملاًً دؤوباً سياسياً وتقنياً. فمن الناحية التقنية يخلو القرار من الصِيَغ الإنشائية الصريحة في الإدانة للأعمال الإسرائيلية الشائنة، لكنه غاصٌّ بالتذكير بالمسار المؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة، والخالية من قيود الاحتلال والحصار، والتي يلتزم المجتمعُ الدوليُّ بدعم قيامها مادياً وإدارياً وحمايةً على الأرض. بيد أنّ الأهمَّ هو الجانبُ السياسيُّ، والذي يعني رؤيةً عربيةً ودوليةً محدَّدةً لحلّ المشكل الفلسطيني. وهذا يتطلَّبُ عملاً عربياً كبيراً لاستعادة التوازُن في الداخل والجوار والعالَم. واستعادةُ التوازُن هذه غير ممكنة إلاّ بثلاثة أمور: أن تتسلَّم مصر زِمامَ العمل من أجل فلسطين (بما يتضمنُهُ ذلك من استيعابٍ للانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني)، وأن تتسلَّم المملكة العربية السعوديةُ زِمامَ استيعاب الانقسامات والتفاوُتات العربية- العربية، وأن تكونَ خليّةُ أزمةٍ عربية ضمن الجامعة تقوم بمراجعة العلاقات مع الدول المُجاورة في آسيا وأفريقيا؛ وبخاصةٍ إيران وتركيا.

الواقعَ أنّ مأساةَ غزّة أدخلتْنا في مرحلةٍ جديدةٍ تختلفُ قواعدُها لاختلاف وقائعها. وترميمُ النظام العربي ضروري لنكونَ أكفاء في مواجهة المرحلة.

ولكي يكونَ واضحاً ما أَقْصِدُهُ، وفي الاتجاهات الثلاثة؛ هناك أولاً ما عانتْهُ مصر قبل الهجوم الإسرائيلي على غزّة وبعده. فقبل الهجوم الإسرائيلي على غزّة، ومنذ استيلاء "حماس" على القطِاع، تعاون السعوديون والمصريون في عملية جَمْع الفلسطينيين ومن الرياض إلى القاهرة. وبعد عشرات العهود والمشروعات واللقاءات، أَمَّل المصريون أن يكونَ اجتماعُ العاشر من نوفمبر الماضي بين سائر الفصائل الفلسطينية بالقاهرة، خاتمةَ الأحزان. وكانت هناك ورقةٌ مصريةٌ قالت "حماس" إنّ لها عليها مُلاحظات، لكنها تستحقُّ الدَرْسَ والنقاش. لكنّ الأَمْرَ لم يصل حتى إلى الاجتماع النقاشي، لأنَّ "حماساً" استبقت ذلك بالقول إنها لن تجتمع بجماعة "فتح" إلاّ بعد أن تُطلق السلطة معتقلين من "حماس" بالضفة الغربية. وكان يمكن بالطبع -لو كان هذا السبب حقيقياً- أنْ تبدأَ جََلَساتُ الاجتماع بمناقشته. لكننا نعرفُ الآن أنه منذ ذلك الوقت كانت "حماس" قد صمَّمت على استدراج إسرائيل إلى معركة ذات هدفين؛ أحدهما إقليمي وعنوانُه إسقاط نهج التسوية بالمنطقة (وهذا ما قاله كلٌّ من خالد مشعل ومحمد نزال وأُسامة حمدان خلال القتال بغزّة)- والآخر عربي ودولي وهو يقتضي انتزاع الاعتراف بشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني بقطاع غزّة، بحيث تُصبحُ طرفاً في كُلّ تفاوُض، ويكتملُ استقلالها عن السلطة الفلسطينية، وعن مصر بالتحديد. ولذلك بدأ الهجومُ على مصر والسعودية من جانب إيران و"حزب الله" و"حماس" وفي الفضائيات، ثم سوريا ودولة قطر -والبعض قبل الهجوم الإسرائيلي، والبعض الآخَر خلال الهجوم المستمرّ. وتقزَّمَ الطلبُ من مصر إلى حدود فتح معبر رفح، والاستغراب من اعتراضها على القمة الاستثنائية. وعندما تقدمت مصر بمبادرة لوقف النار على غزّة اعترضت عليها "حماس"، وقال لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني بدمشق، وقد غلبت عليه النزعة الإنشائية إنّ المبادرة المصرية تدسُّ السُمَّ في العَسَل! وما أُريدُ استخلاصَهُ من هذا الاستطراد أنّ القضية الفلسطينية قضيةٌ كبرى، وقد كسرتْ الماضي العربي، وعطّلت الحاضر، وتوشِكُ أن تَسُدَّ طريق المستقبل بحثامين الشُهداء. ولذا لا يجوزُ أن يحجمَ دَورُ مصر أو يغيب إذ بدونها لن تزدادَ الأوضاعُ العربية إلاّ سوءًا وانهياراً. ومشكلةُ "حماس" صار جانبٌ كبيرٌ منها إيرانياً، لكنْ لا يجوزُ أن تحتلَّ مساحةً أكبر مما تستحقُّ من قضية فلسطين. ولذا لابُدَّ من استيعابها، وضمن العباءة الواسعة لمصر وللسعودية؛ وبأيِّ شكل.. إذ هناك مصلحةٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ كبرى (ومصر زعيمة الإسلام عندنا وليس إيران أو تركيا) في استعادة الأُسُس والثوابت في قضايا العرب الكبرى، وأكبرُها قضية فلسطين، ودونما عرقلةٍ لأسبابٍ وعوامل تكتيكية وإعلامية. وقد علمتْنا مصر في زمننا الحديث كيف تُحَلُّ المشكلاتُ دونما عنفٍ أو تجاهُل؛ أو تبقى غزّة، وربما القضية الفلسطينية رهنَ الدم الذي تًُهدرُهُ "حماس" وغيرها لكي تبقى على قيد الحياة.

وفي الجانب العربي- العربي، برز في الأزمة التبايُنُ الكبيرُ بين السعودية ومصر من جهة، وسوريا.. وإلى حدٍ ما قَطَر من جهةٍ ثانية. وأياً يكن رأْيُنا في المسار السوري ومنذ عقود؛ فإنّ القواسم المشتركة في عمليات تحرير الأرض العربية ينبغي أن تكونَ هي الغالبة. إذ الإيرانيون يبتزُّوننا برفع راية القتال في فلسطين. والطريف أنّ الإيرانيين عادوا أثناء الحرب على غزة للتمركُز بدمشق، وبيروت، وإطلاق النار على مصر بحجة معبر رفع وبحجة المبادرة المصرية لوقْف النار، دونما كلمةٍ عن التفاوُض السوري مع إسرائيل، وأهمُّ بنوده: سدّ طريق "حزب الله" للتسلُّح وطرد التنظيمات الفلسطينية المقاتلة من دمشق!

والذي أراهُ أنّ الأَمْرَ مع قَطَر أَهْوَنُ شأناً وتكلفة. إنّ في العالم العربي قضايا كثيرة يمكن لقطر أن تلعب دوراً فيها. فينبغي العملُ على الخروج من هذه الدائرة المُغْلَقَة، لكي لا تستمرَّ الخروقاتُ في النظام العربي لهذه الجهة أو الجهتين.

والأَمْرُ الثالثُ يتصل بالعلاقات العربية الإقليمية مع إيران وتركيا. فقد انقطع الحوارُ بين إيران والسعودية منذ عام. ويبذل الإيرانيون جهوداً كبرى بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين لإحداث انشقاقات داخلية في العالم العربي، مستعينين تارةً بالبُعد المذهبي، وطَوراً بالإسلام السياسي. وفي كلا الملفَّين أمكن لهم حتى الآن اصطناع متاعب كبرى للعرب. فلابُدَّ من سياساتٍ جديدةٍ تُجاه إيران، تعتمدُ الحوارَ الصريح والقاسيَ أحياناً، دونما حاجةٍ للعداء أو التآمُر. فليس بيننا وبين إيران عداوة تاريخية، وبعد الحرب العراقية- الإيرانية، ما أضررْنا بإيران، وهي التي تُبادرُ إلى إحداث الضرر.

ولا يختلفُ الأَمْرُ في مآلاتِه مع تركيا أيضاً. فقد كنتُ من أصحاب منطق الإيجابية تُجاه المحاولات التركية، بداعي إحداث توازُن مع إيران، والتوصُّل إلى حديثٍ استراتيجيٍ مع كلٍ منهما. لكنّ تركيا -مثل إيران وإنْ بأُسلوبٍ سلمي- دخلت أيضاً في الشقوق والانقسامات العربية، ثم قالت أخيراً إنها مسؤولةٌ عن الإسلاميين العرب أيضاً!

ما يزال علينا أن نبذل جهوداً كبرى من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن. وربما تكونُ المبادرة المصرية هي الآلية المطلوبة. لكنّ الواقعَ أنّ مأساةَ غزّة أدخلتْنا في مرحلةٍ جديدةٍ تختلفُ قواعدُها لاختلاف وقائعها. وترميمُ النظام العربي ضروري لنكونَ أكفاء في مواجهة المرحلة الجديدة.