بالصور أطفال "نهر البارد".. براءةٌ مدفونةٌ في القمامة!
الساعة 04:56 م|18 أكتوبر 2018
فلسطين اليوم
فلسطين اليوم - عبد الرؤوف زقوت
كالباحث عن إبرة في كومة قش، تمضي في طريقك إلى جنوب قطاع غزة وفي رأسك ألفُ تساؤلٍ عن طبيعة حياة سكان منطقة حتى "أهل البلد" لا يعرفون عنهم شيئًا، لسبب بسيط جداً وهو أنهم "مدفونون تحت أكوام القمامة".
ليس في التعبير مبالغةٌ أو وصف مزاجي لما يحدث، فمنطقة "بطن السمين" أو "نهر البارد" كما تشتهر غرب مدينة خان يونس تجثو أسفل أطنان قمامة تتسرب رائحتها وأمراضها إلى أجسادهم خلسةً، حتى أصبحت أجساد أطفالهم مرتعًا للأمراض.
قد لا تصدق أن هؤلاء الأطفال يعلقون "مراجيحهم" ويلعبون الكرة ويركضون بين أكوام القمامة، وتتساءل عن قدرتهم الخارقة على احتمال هذه الروائح؟ لكن ما أن تقترب منهم وترى جلودهم الذائبة ووجوههم الغائرة حتى تعي جيدًا ضريبة السكنى في "نهر البارد".
موتٌ مجاني
بين البيوت المتهالكة كثيرًا ما تسمع أصوات سعالٍ مفرطٍ من أحدهم، وهذا ما قادنا إلى الستيني محمد زرعي، جد الطفل شادي الذي رحل عن العالم مبكرًا بسبب الفقر وسوء البيئة المحيطة وأشياءً كثيرة تخفيها "مقبرة البشر" جنوب القطاع.
يبحث محمد في البيت الضيق ذو الأحجار غير المتوازية وسقف "الزينكو" بين الأوراق ليخرج لنا التقارير الطبية الخاصة بشادي الذي كان مريضًا بتضخم الكبد وسرطان الدم، ولم يستطع الصمود أكثر من عامٍ واحد، ليترك والده خالد وزوجته وطفلان آخران للحزن والفقد والحسرة.
ويروي جد الطفل لمراسل "فلسطين اليوم الإخبارية" قائلًا: "أعاني من أزمة صدرية بسبب الروائح الكريهة، وأسكن أنا وخالد في هذا البيت رغمًا عنا، فلا عمل ولا حياة، وكان الأطباء دومًا ما يطلبون منا عدم التعرض للروائح السيئة، خاصة في حالة شادي، لكن أين نذهب؟".
ليس ذلك فحسب بل يتعرض سكان "نهر البارد" لأبشع من ذلك عند قيام "مجهولين" بحرق أكوام القمامة الملاصقة لهم، مما يحول الهواء إلى أشباحٍ سوداء تستوطن صدور الصغار والكبار، وتغرس فيهم الأمراض شيئًا فشيئًا.
رحلة عذاب
من منزل بدائي لآخر تفوح القصص كما الرائحة المحيطة بالمكان تمامًا، فهذا محمود فروانة الأب لثمانية أطفال يسكن في منزل لا يصلح للحياة الآدمية، أغلب أرضيته من الرمل، فيما تتوزع الثقوب بين الأحجار الصامدة حتى الآن.
محمود العاطل عن العمل "اضطر" لأن يمنع طفله ابن 11 عامًا من إكمال دراسته من أجل العمل، ويقول لمراسل "فلسطين اليوم الإخبارية": "قعدته في الصف الثاني وجبتله كارة وحمارة يشتغل عليها ليصرف علينا".
ليس هذا فحسب فباقي أطفال الرجل الخمسيني كما أطفال المنطقة يضطرون للسير قرابة الكيلو متر من أجل الوصول إلى أقرب مدرسة، ويعانون بحسب روايات عائلاتهم من التعليقات السيئة من باقي الطلاب وحتى من المعلمين بسبب أمراضهم الجلدية ورائحتهم أحيانًا.
أما ابنته ملك ابن العامين فوضعها الصحي أصبح مقلقًا مع ازدياد نوبات السعال والاختناق التي تعاني منها، بسبب الدخان والحشرات والرائحة الكريهة في المنطقة، لكنها لا زالت تلعب في الشارع بين أكوام القمامة وتركض خلف الفتيات!
عذاب مستشري
في طريقنا من منزل لآخر في المنطقة التي يسكنها قرابة الـ200 عائلة شاهدنا أطفالًا يلعبون الكرة وبعض الفتيات اللاتي يمسكن ألعابهن ويجلسن على الأرض، فيما نحاول نحن الهرب من الرائحة التي لا مفر منها، حتى وصلنا إلى منزل سوزان حميدة.
سوزان زوجة لرجل مصاب بشلل في يده اليمنى، ومريضٌ بـ "الرعاش الهستيري"، كما أنها أمٌ لثمانية أطفال تتفاوت درجة إصابتهم بالأمراض، لكن حالة ابنها منذر كان لافتة جدًا.
يعاني منذر من تقشر في الجلد وطفح جلدي في باقي الجسم، وتقولها سوزان صراحة: "ما بقدر أشتري الدوا اله واللي بعطوني إياه في المستشفى بستخدمه"، في إشارة إلى أنها تكتفي بالأدوية المجانية داخل المستشفيات أما غير المتوفرة فإنها لا تستطيع توفيرها.
أما طفلها الآخر ابن العامين فيعاني من التهابات في الكلية، لكنها لم تراجع المستشفى منذ زمن طويل لتفقد حالته، فهي لا تملك حتى ثمن المواصلات للوصول إلى المستشفى، فاعتمادها الكلي على راتب "الشؤون الاجتماعية" الذي لا يكفي لشيء. بحسب قولها.
مصدر دخل سوزان يشبه كثيرًا مصدر دخل منطقة "نهر البارد" كلها، لكن هناك عائلات لا تستطيع حتى الحصول على رواتب من "الشؤون الاجتماعية" ولا يوجد لها أي مصدر دخلٍ ثابت تستطيع العيش منه.
أما عزيزي القارئ عن سؤالك الأهم: لماذا يعيشون هنا، وما الذي يجبرهم على البقاء؟، فجوابه أن هذه أرضٌ حكومية، فهم حتى لا يملكون الأرض التي يعيشون عليها، ولولا ضيق الحال وانعدامه لما سكنوا بيوت آيلة للسقوط بين أكوام قمامةٍ وحشراتٍ وحيوانات مفترسةٍ أحيانًا.
تصوير: عبد الرحمن زقوت
