كتب د. وليد القططي: جمال عبد الناصر.. قراءة خارج صندوق الإخوان

الساعة 12:26 م|26 سبتمبر 2018

فلسطين اليوم

تمرُّ علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الثامنة والأربعين لوفاة الزعيم العربي المصري الراحل جمال عبد الناصر؛ ولم يكفْ الجدال الدائر حول شخصيته وزعامته، ولم يتوّقَف السجال المُحيط بذاته ونظامه، وتفاوت الجدال ما بين مُحبٍ غالْ ومُبغضٍ قالْ، وتباين السجال ما بين مُبجّلٍ والهْ ومُحقّرٍ كاره، وتغاير الخصام ما بين مُقدّسٍ لسيرتهِ عاشقٍ لمسيرته، ومُدّنسٍ لسيرتهِ ماقتٍ لمسيرتهِ. وما بين النقيضين درجاتٍ من الحُبِ والعشق، ودركاتٍ من الكُرهِ والبُغض، وخيرُ مثالٍ لمن صعدَ بحُبهِ أعلى درجات العشق التيار القومي الناصري، وخيرُ مثالٍ لمن انحدرَ بكُرههِ أدنى قاعِ دركاتِ البُغض جماعة الإخوان المسلمين. وكان لكاتب هذه السطور نصيبٌ من كلا النقيضين المتباعدين، فلنعرض لهما من خلال التجربة الخاصة للكاتب، ثم فلنُعدْ قراءة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خارج الصندوقين، بعيداً عن الطائفتين، وقريباً من البصيرتين: العقل والقلب.

كغيري من أبناء جيلي فتحنا أعيُننا على الدنيا، وتلمسنا خطواتنا الأولى فيها، على حب الزعيمين: ياسر عرفات وجمال عبد الناصر، ياسر عرفات باعتبارهُ رمزاً للوطن الصغير وحُلم التحرير والعودة، وجمال عبد الناصر باعتبارهُ رمزاً للوطن الكبير وحُلم الوحدة والتحرر، وكان أقصى تعبير عن حبي للزعيمين هو وضع صورتهما مُعلقةً على جدار الغرفة التي كنتُ أنامَ فيها، وبالنسبة لجمال عبد الناصر لا أتذكر سوى تصفيق الجمهور المُتكرر في إذاعة صوت العرب عندما كان يخطب، وفي سنوات لاحقة بعد وفاته تمكنتُ من الحصولِ على بعض الكتب القومية الناصرية وقراءة بعضها، قبل أن تبدأ مرحلة التشويه لعصره في عصر السادات، فأُعجبتُ بمبادئ ثورة 23 يوليو المُعادية للاستعمار والإقطاع، والمساندة لحريات الشعوب والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية، وما شهدته مصر في عصره من نهضة اقتصادية وتغير اجتماعي وتطور عمراني، ولم يكن بالإمكان آنذاك معرفة حجم الخراب المتغلغل في البُنية التحتية للنظام الحاكم الذي قاد مصر للنكسة 1967.

وبما أن الثابت الوحيد في الحياة هو التغّير، فقد سرت هذه السُنة الكونية على موقفي من عبد الناصر، فتحوّل الحبُ تدريجياً إلى كرهُ، والإعجاب إلى ازدراء؛ مُتأثراً بما قرأته من كُتب الإخوان المسلمين حول تجربتهم مع نظام عبد الناصر، يصفُ الكثيرُ منها التعذيب داخل السجون المصرية آنذاك، وصُدمت من حجم القسوة البالغة التي كانت أجهزة أمن النظام الناصري تمارسها تجاه معتقلي جماعة الإخوان المسلمين، وما قام به النظام من إعدام لبعض قادتها المفكرين الذي أثروا المكتبة الإسلامية، أمثال سيد قطب وعبد القادر عودة. ولم يكن التعذيب فقط هو المثلب الوحيد للنظام، فما كُتبَ عن دور مراكز القوى التي عاثت في مصر فساداً واستبداداً، وما عُرف عن دور بعض (الضباط الأحرار) في هزيمة 1967، وما رافق ذلك من تحوّل فكري وعاطفي نحو الحركة الإسلامية، لاسيما بعد أفول نجم الحركة القومية العربية، وتراجع دور الحركة الوطنية الفلسطينية بعد حرب 1982... أدى كل ذلك إلى التحوّل من النقيض إلى النقيض تجاه الزعيم جمال عبد الناصر.

وكما انكسر صندوق الحب الذي يختزن داخله صورة جمال عبد الناصر، بدأ صندوق الكُره هو الآخر يتكسّر بالتدريج حسب سنة التغير الدائم، ولم يكُن هذا التغّيرُ ليحدثَ لولا مرور الزمن وتراكم النضج وتتابع القراءات والأحداث التاريخية، التي قادت إلى الإدراك بأن التاريخ المكتوب ليس معصوماً من الخطأ؛ بل هو الانحياز أقرب ومن الموضوعية أبعد، وإلى التلفيق ألصق ومن التدقيق أطلق، يستوي في ذلك الكتّاب المنتمين للحركة الإسلامية أو غير المنتمين لها. وفي إطار هذا الفهم كان من الضروري الاهتداء إلى سؤال مهم مضمونه: هل كان عداء جمال عبد الناصر للإسلام نفسه أم لجماعة الإخوان المسلمين؟، وهذا يستدعي بدوره سؤالاً آخراً هو: هل سبب هذا العداء هو تبني الإخوان المسلمين للإسلام أم لأنهم يشكلون تهديداً لنظام الحكم الناصري؟.

للإجابة على السؤال الأول من الضروري تفكيك فرضية خاطئة تتبناها معظم الحركات الإسلامية، وهي أنها تعتبر نفسها ممثلة للإسلام، وليس اجتهاداً داخل الإسلام ورؤية لفهم الإسلام؛ وبناءً على هذه الفرضية الخاطئة والفهم المغلوط ترى من يتبنى هذه الفرضية من الحركات الإسلامية في كل خلاف معها أو عداء لها بأنه خلاف مع الإسلام وعداء للإسلام، وهكذا صُوّرَ جمال عبد الناصر بأنه عدوٌ للإسلام!؛ مع أنه في كتاب (فلسفة الثورة) عام 1954م اعتبر الإسلام قوة تحريرية وتوحيدية ورفض اعتباره (أفيون الشعوب) كما ترى الماركسية، ورأى في الحج مؤتمراً سياسياً سنوياً لتحقيق تعاون المسلمين فيما بينهم، وفي (الميثاق الوطني) لعام 1962 يرى في الإسلام ديناً تقدمياً يدعو للعدالة والمساواة بين البشر، وفي رسالة الإسلام أعظم الحضارات البشرية، وفي (بيان مارس) عقب النكسة عام 1968 يرى في الإسلام قوة دافعة للصمود أمام العدوان وتجاوز الهزيمة. وفي عهده أُنشأت (هيئة البعوث الإسلامية) التي كان له دورٌ بارز في هداية ملايين الأفارقة والآسيويين للإسلام، وأُنشأت إذاعة القرآن الكريم، وتم تطوير جامعة الأزهر لتصبح جامعة عصرية منارةً للإسلام الوسطي المعتدل.

قد يكون كل ذلك من باب توظيف الدين لخدمة نظام الحكم، وإضفاء شرعية إسلامية على السلطة، وإنشاء دين رسمي موازي يسحب البساط من تحت الإخوان المسلمين، وهذا ديدن السلطة المستبدة منذ أول التاريخ، ولكن الصحيح أيضاً أن الدافع الأساسي لعداء جمال عبد الناصر ونظامه لجماعة الإخوان المسلمين هو تهديدهم لنظام حكمه وسلطته، وهنا تأتي الإجابة على السؤال الثاني، فسبب العداء هو الخوف على ضياع السلطة وليس تبنيهم للإسلام، فقد حارب النظام اليسار المصري بكل قسوة، وحتى بعض الضباط الأحرار لم ينجوا من هذه القسوة عندما هددوا زعامته، فالأنظمة الحاكمة المستبدة لا يعنيها المضمون الإيديولوجي والمحتوى الفكري للمعارضة، بقدر ما يعنيها حجم التهديد لسلطتها ومصالح النخبة الحاكمة المُحتكرة للسلطة والثروة.

خُلاصة الأمر أن هذه القراءة لجمال عبد الناصر خارج صندوق الإخوان المسلمين لا تعني تبرئته من كل ما نٌسبَ له ولنظامه من ظُلمٍ وفسادٍ واستبداد، أو نفي ما تسبب به من هزيمة وخيبة وإحباط. ولا تعني إدانة جماعة الإخوان المسلمين بالمسؤولية عن الصراع الدموي مع نظام عبد الناصر، أو إدانة الضحية والمجني عليهم أمام الجلاد والجاني؛ ولكنها تعني أهمية وضرورة التفكير خارج صندوق الإخوان المسلمين، وعدم اعتبار كل من اختلف معهم كمن اختلف مع الإسلام؛ لتكون قراءتنا للتاريخ موضوعية ومتوازنة ومتزنة.

كلمات دلالية