خبر بين« مغامرة » تموز اللبنانية ومذبحة كانون الغزية../ ناصر السهلي*

الساعة 10:22 ص|08 يناير 2009

* كاتب وصحافي فلسطيني

 

07/01/2009  10:17 

 

المشهد بلا شك دموي.. بكل المقاييس التي يمكن أن يقيسها أي عاقل أو متهور في الموقف من هذا الطرف أو ذاك.. وما دام المشهد يطغى عليه ما يطغى من اختلاط الدم والأشلاء بميوعة المواقف من هذه المذبحة التي تشهدها غزة فإننا أمام إعادة بث لاسطوانة "المغامرة".. إعادة تحمل في الجوهر نفس ما حملته عربيا وإقليميا ودوليا، فالضحية تتحمل مسؤولية ذبحها، والمعتدي الذي يبث كل أكاذيبه ومبررات قتله لشعب يُراد له أن يموت وبصمت.. مبررات تكررها لغات عربية ومستعربة وغربية ومتغربة..

 

ظهر الأحد، بعد يوم من بدء المذبحة والتدمير، يجلس آفي ديختر مزهوا بكم الدم المسفوك ليحدثنا من شاشة الجزيرة كـ"ناطق باسم الشعب الفلسطيني" في غزة مصورا ما يجري هناك بـ" الفرح"!..

 

ديختر هذا يختصر كل المشهد الذي سبق ولحق كيل الأكاذيب وقلب الحقائق مع سقوط حمم الدمار على سقوط أبناء الشعب الفلسطيني في غزة.. إنها لغة لا تختلف عن لغة مجدي دقاق الذي من جهة يحاول أن يسرق موقف الشارع المصري ومن جهة ثانية يعود ليلوك تصريحات ليفني.. ثم لم يتردد بيريس في اظهار الوجه الحقيقي لسفاح قانا والحاصل على جائزة نوبل مزهوا ايضا باستهداف الاطفال الفلسطينيين في انكار فاضح لهذا السفك المتواصل للدم في غزة...

 

ها نحن أيضا أمام إعادة تسويق خطابات "الاعتدال" اللاهث خلف تصنيف أميركا وتل أبيب لكل من يرفع رأسه رافضا الموت بصمت.. إنها عودة إلى ذات الخطابات والشعارات التي حاولوا دسها في تموز 2006 وهم يحتمون بوعود رايس لجماعتها في المنطقة عن شرق أوسط جديد..

 

- الجوز الفارغ لغزة.. ومحاولات دفعها لرفع الراية البيضاء

 

هو المشهد المختزل لاعادة ما قاله البوسنيون يوما، حين كانوا يُذبحون "إن الموقف الاسلامي منا يكمن في مدّنا بالطعام لنأكل ومن ثم يأتي كرازيدتش وميليشياته ليذبحونا كالخرفان".. فها هي الحدود فجأة تُفتح.. لاستقبال الجرحى.. أو عبور من هم في عداد الموتى.. هاهي الطائرات والشاحنات والاطباء تنتظر فتح معبر رفح الذي لا يُفتح على هذا معسكر الاعتقال الذي فاق معسكرات اوشفيتس.. وما يزال البيان الرسمي المصري مرتبكا ومكبلا نفسه في تقوقع غريب على "أم الدنيا" وهي تختار التحول الى مجرد "نزيه" في وساطته بين الجلاد والضحية..

 

تماما كما أظهرت مداولات مجلس الأمن بعد مجزرة مدرسة الفاخورة التابعة للانروا.. وكم كان مخزيا أن يظهر بان كي مون وهو يقدم الأرقام دون كلمة واحدة على تكرار قانا اللبنانية على الأرض الفلسطينية.. معادلة دولية قد يقول البعض.. لكن هل للضحايا أن يفهموا معنى أن يكونوا وقودا في هذه المعادلة..

 

لكن، وبالرغم من كل دموية المشهد وكل الحديث الذي لا مكان له الآن عند الشعب الفلسطيني طالما ظل العدوان مسلطا قتلا وتدميرا أمام نظام عربي مهلهل ونفاق غربي واضح في تحميل الضحية مسؤولية هذه الممارسات البشعة في استهداف كل الحجر والبشر، بينما تل أبيب مزهوة أمام هذا النفاق الغربي والعربي باستهداف ما تشاء..

 

أقول أنه بالرغم من كل دموية المشهد فإنه حقا علينا الانتباه للوجه الآخر له.. مشهد العودة بالذاكرة الى حيث كانت القضية الفلسطينية ومقاومة شعبها مصدرا للالهام لدى شعوب وأمم في نواحي المعمورة.. لقد اختار حكام تل أبيب المسافة الفاصلة بين الأعياد ليقوموا بهذا العدوان الهمجي.. لكنهم لم يفهموا أن التراكم الذي خلفته العدوانية والتراجع عن كل اتفاق ومعاهدة والإصرار على كسر إرادة الشعب الفلسطيني قد أدت إلى إنكشاف كل الخديعة وافتضاحها.. تماما كما هي فضيحة النظام الرسمي العربي، الممسك بسفراء تل أبيب كما لو كان مقدسا بينما هذا النظام الرسمي العربي يسحب ويطرد سفراء عرب من عواصمه بسبب تصريح أو مقال ناقد.. لكنه المشهد الآخر، من طوكيو مرورا بلندن وأوسلو والعواصم العربية وصولا إلى الولايات المتحدة وفنزويلا وتشيلي تتبلور حالة أخرى تكشف وبوضوح معاني ما كنا نقوله دوما عن مكانة القضية الفلسطينية وعن هذا الكيان الذي تعتبره شعوب الارض من أكثر الكيانات خطرا على السلم العالمي.. إنه المشهد الذي دفع و يدفع الشعب الفلسطيني ثمنه الدموي.. من الحاجز والجدار والاعتقال والاستيطان حتى هذا النزف الذي شهدته وتشهده غزة المحاصرة والضفة المخنوقة.. لكنه مشهد يختلف عن كل مشاهد الخنوع والانبطاح والتردي الذي شهده المشهد العربي الرسمي المرتكز على تصنيفات واشنطن.. مشهد أليم وفظيع هذا الذي دفع الشعب الفلسطيني فيه ثمنا باهظا لتبرز الصورة الأخرى منه..

 

إنها صورة الإنتفاض وغسل العار الذي أراد الرسميون العرب أن يعم ويتسيد الساحة العربية وانفضاض المناصرين والمؤيدين حول العالم من حول هذه القضية العادلة.. وبارتباك صهيوني واضح، رغم كل قشور التماسك والتشفي بالدم الفلسطيني النازف، تنقلب الآن كل الصور التي حاول من خلالها تسويق نفسه عند الشعوب الغربية والعربية هذا الكيان الممارس لأبشع صور الاحتلال والعنصرية البغيضة وقراءته الاستعلائية بحق الآخر.. صورة تتهشم وتعود إلى نقطة البداية لتكون الوقود لحالة فرز واصطفاف حقيقي في كل المنطقة والعالم من حولنا.. ليست صورة عاطفية وحسب هذه التي تخرج هادرة لتطغى على هدير التقنية العسكرية الاميركية المستخدمة ضد المساجد والبنية التحتية لشعب محاصر.. صورة تعود بنا الى مشاريع تجريم المقاومة في تموز لبنان وكانون غزة.. وما يدور في الكواليس لا يبتعد أبدا عن إعداد جوقات البحث عن تكرار ذات المشهد لفرضه بعد المذابح المسكوت عنها!

 

صورة الصمود الفلسطيني ليست جديدة.. ولاحاجة الآن لفحص كل ألبوم هذا الصمود.. لكنه هذه المرة ومع زيادة الهمجية وانفضاحها يقدم، ورغم كل الدمار والدماء التي تسيل في غزة والضفة، عنوانا لمعاني العزة ومعاني الصمود ومعاني الوحدة الميدانية لهذا الشعب التي تتكسر على صخرتها كل المؤامرات والمخططات التي أرادت له أن يرفع الرايات البيضاء.. إنه عالم حر يولد من جديد تشارك فيه ملايين الجماهير حول العالم.. لا العالم الذي أرادته عقلية القتل والدمار في تل أبيب والعواصم التي تؤيدها سرا وعلنا!

 

هي صورة تعود بالزمن إلى حيث يجب أن يكون.. بعيدا عن كل الممارسات الدعائية الصهيونية.. فإن إجتاحت إسرائيل غزة، فسيكون السؤال: وماذا بعد؟

 

ويبقى لنا أن نسأل:

هل تشافيز وبلده فنزويلا أكثر عروبة من العرب؟؟ وهل أردوغان أكثر رجولة وإنسانية من بعض العرب المبرر لهذه المجزرة.. ألا يرى هؤلاء ما يجري حول العالم؟

إنه حقا لزمن عجيب هذا الزمن العربي الذي يخجل من مقاومة العدوان والممعن في ابتذال الخطاب والشعار.. زمن النضال يريده هذا البعض أن يختفي من الوجود ليسود زمن "الاعتدال" وما أبعد منه..