خبر غزّة المحترقة تنتصر ..مهنا الحبيل

الساعة 10:49 ص|05 يناير 2009

مع بدء الزحف البري لقوات العدو وتفجّر مواقع رئيسية في المحاور أمام الزحف أدى إلى سقوط العديد من الجنود الصهاينة بين قتيل وجريح في تمركز دقيق ومنظّم من كتائب القسام وباقي قوى المقاومة اعترفت به مصادر العدو من خلال عمليات الحصار التي استهدفت القوات الخاصة  أثبتت قدرات غزة المحدودة، ولكن الصلبة والمؤمنة والقوية، قدرتَها على التغيير لقواعد اللعبة بحسب استراتيجية توازن الرعب، وأن تبدأ مرحلتها الكبرى بهذه الإرادة المتفوقة على الأرض عسكريًّا وكأنما كان حجم العدوان ودماء الشهداء المدنيين وقودًا مركزيًّا لحرب الثأر في غزة، وهو ما يعيدنا إلى إعادة قراءة برنامج العدوان ومنهجيته، ومن هو المنتصر وفقًا لهذه القواعد الاستراتيجية بين العدو وحلفائه وغزة.

 

ومجرد مراجعة حقيبة ملف العدوان وتفصيلاته التي تحدثت عن الهدف الاستراتيجي لحرب العدوان على غزة فهو يقود إلى سياق محدد لفهم ماذا جرى للمشروع الأول للعدو وشركائه، واستعراض التصريحات الصادرة قبل العدوان وبعده في الأيام الثلاثة الأولى، يقودنا لفهم الوضع الاستراتيجي ابتداءً بإعلان ليفني تغيير الوضع القائم في غزة وتصفية حماس وانتهاءً بإعلان الرئيس مبارك صبيحة الثلاثاء الماضي أن مصر لن تفتح معبر رفح، ومن ثم احتاج هذا المشروع إلى تغطية هذا الموقف التاريخي لمشاركة نظام حكم عربي في الهجوم على غزة وإسناده ميدانيًا لمنطقة من أهم المفاصل وهو مناطق الإسناد الإنساني، فضلاً عن السياسي والذي انقلب إلى إسناد للعدوان، ولذا لجأ الرئيس مبارك إلى تغطية الموقف بأنها خديعة إسرائيلية، ولا نعرف كيف تكون خديعة وقد طلب رئيس المخابرات من تل أبيب جزّ رؤؤس حماس قبيل العدوان، وأعلنت ليفني ذلك من القاهرة، لكن ذلك لا يعني عدم تورط القاهرة (ونقصد هنا النظام الرسمي وليس الشعب العربي المصري العظيم) وخشية القاهرة من تداعيات الموقف خاصةً بعد أن أدرك الرئيس مبارك بأن المرحلة الأولى من المشروع الإسرائيلي تتوجه للاضطراب والفشل، فما هو هذا المشروع الذي أُعلن رسميًّا من الأطراف الثلاثة، ولكن بلغة مختلفة في التفصيل.

 

سقوط حماس أولاً!!

 

يكشف لنا سياق التصريحات للأطراف الثلاثة، والتغطية الإعلامية الإسرائيلية، والتسريبات التي تزامنت مع الساعات الأولى للعدوان، أن هدف المرحلة الأولى ضرب قيادة حماس مباشرة، وتصفية أبرز قادتها، إضافةً إلى قدراتها العسكرية، وتحويل المعركة إلى الداخل بعد نهر الدماء؛ بتهييج الشعب على حماس في غزة، ومن ثم إحلال البديل الذي كان قائمًا، حيث نسقّت تل أبيب مع سلطة عباس بإدخال الفوج الأمني المُعدّ لهذه المهمّة مع الدبابات الإسرائيلية لإحلالهم بدل قيادات حماس، بعد أن يُنهَك الشارعُ الغَزِّي، وهذه المعلومة رُصدت على الواقع، وأشير لها إشارةً ضمنيةً، وكان أصرُحها - وهو ما بدا أنه حماقة في العرف الأمني، ولكن حماسة الرجل أطلقت بها لسانه- هو دعوة نمر حماد، مستشار عباس لسكان غزة بـ"الصبر" (أي تقبل العمل العسكري)، وقوله بأنّ الشرعية (سلطة محمود عباس) قادمة، ويبدو الأمر جليًّا وأكثر وضوحًا من خلال الحملة العنيفة على حماس من محمود عباس وطاقمه في الأيام الثلاثة المذكورة، وأن المسئول عن العدوان بحسب تصريحاتهم هو حركة حماس.

 

الإعداد لساعة الصفر

 

في نفس الوقت يجب أن يُؤخذَ بعين الاعتبار التضييقُ الشديد الاستراتيجي على غزة من معبر رفح، ومن معابر الكيان الصهيوني، وتشديده تصاعديًّا حتى الوصول إلى نقطة الصفر، وبعد انطلاق العدوان وخاصة في الأيام الثلاثة الأولى، ومع الغطاء الأمريكي الضخم لعدوان لتل أبيب, حيث ضُيّق الحصار على الجرحى وتم تشديدُ الموقع الأمني؛ بتحوُّل القوات المصرية إلى الوراء، واتخاذُ مواقعَ على مِنصَّات الأسلحة الرشاشة مقابل المضطرين للدخول لتهريب جزءٍ من الغذاء أو الدواء تحت القصف, وهنا يجب الأخذ في الاعتبار بأنّ حدود غزة رغم حجم العدوان التاريخي لأي معركة وقعت من قبل, لم تشهد زحفًا من الحشود إلى جهة الحدود المصرية، ولكنْ بضعُ عشراتٍ من الناس لاحتياجاتٍ هي أكبرُ الضرورات, وهو مقياسٌ نادرٌ، حيث أن جميع الدول التي تجتاحها الحروب يزحف الكثيرُ من سكانها المدنيين إلى مواقعِ الدول المجاورة لتأمين سلامتهم مؤقتًا وهو ما لم يقم به شعب غزة, وهو عُرفٌ ونظامٌ دوليٌّ سائد، ومع ذلك لم يُفسَح لبعض العشرات أو المئات من تحقيق ذلك في الحدود المصرية, وهنا يبدو لنا جليًّا عدمُ صحة ما قاله الرئيس مبارك من أن حصارَ غزّةَ من مصرَ بغطاءٍ دوليٍّ ولكنه العكس؛ فهو خَرْقٌ لأبسط قواعد التعامل الإنسانيّ المُقرِّ دوليًّا في حالات الحروب, والذي لا يخضع لأي اتفاقٍ آخرَ وقتَ الحرب، لكن على كل حال، إنما نحن في سياق أنّ قرار التضييق وتشديدِه على غزةَ جزءٌ من أركان تحقيق المرحلة الأولى للعدوان.

 

تل أبيب.. اضطراب الموقف أثّر على التحالف

 

لكنّ السياق لخُطّة العدوان ومرحلتِه الأولى تعطَّل؛ فلم تسقط حماسُ، ولم يتظاهر ضدَّها الشعبُ، وارتفعت تكاليف العدوان سياسيًّا وإنسانيًّا, وليس الخشية لدى التحالف من حجم الضحايا إنسانيًّا، ولكن القضية التي يخشى منها أضلاعُ التحالف أنّ هذا العدوانَ الوحشيَّ لا يمكن أن تستمرَّ تغطيتُه ومنعُ تداعياتِه التي قد تؤثر على الاستقرار السياسي لأطرافٍ عربيةٍ إقليميةٍ مهمّةٍ، وكذلك يخشى التحالف من أن تنحدر الحرب إلى تطورات تفلت الزمام عن السيطرة، ولذا برز هذا الاضطراب في اليوم الرابع، وبدأت تصريحات تل أبيب تضطرب بين الإعداد للزّحف البري والتقديمِ له وبين محاولة الحصول على استسلامٍ ولو منقوصٍ من حماس، دون الإعلان عن خروجها من غزة أو تسليمِ قيادتها، بحسب المرحلة الأولى المخططِ لها.

 

وفي المقابل كان رصدُ تخبُّط التصريحات لوزير الخارجية المصري واضحًا، وتحول عن الهجوم على حماس في طريقة حديثه للدفاع عن الشراكة الجلية مع تحالف تل أبيب لحرب غزة ديسمبر 2008، وانعكس هذا الموقف على سلطة رام الله، وأعلنت فجأةً ترحيبَها بالحوار الوطني، وصعّدت لغة إدانة العدوان الْخَجِلَةِ لديها, فيما هي تشدد الحصار من الضفة باستثناء بعض المواد التي تُنقل للتغطية الإعلامية، بعد أن كان الرئيس عباس يَسخر من المعونات الإنسانية، ومحاولات كسر الحصار، ولا يعترفُ أصلاً بأن هناك حصارًا على غزة, وكذلك بدأَ تخفيفَ لغة الهجوم على حماس؛ لأن فشل المرحلة الأولى تعني تداعياتٍ ضخمةً لسلطة رام الله سيترتب عليها وضعٌ مُكلف لها، وخاصة بأن اعتقال ومحاصرَة المئات والآلاف من نشطاء المقاومة وتشديدَ القمع في الشارع الضفّي قد ضُيّق وشُدّد مع ساعة الصفر للعدوان, وانكشاف هذه الحالة دفع الشريكين لاستخدام غطاء الجامعة العربية لمعالجة فشل المشروع الأول.

ولذا لجأ طرفا التحالف العربيان إلى الجامعة العربية؛ سواءً لتعطيل القمة، رغم أنه لا يُتوقعُ منها موقفٌ ميدانيٌّ مؤثرٌ بالمطلق، ولكنّ اجتماع القمة والتغطيةَ الإعلامية لها وتسجيلَ موقف لا تستطيع أطراف التحالف حجبَه سيعطي زخمًا معنويًّا ولو محدودًا لصمود غزة، وهو ما لا يريده التحالف.

 

ولذا تم التركيزُ على إسناد الموقف المتداعي لحكومة مصرَ وسلطةِ رام الله؛ للخروج من المأزِق، والتهيئةِ للانتقال من مربع المرحلة الأولى, وأيضًا إبقاءِ الباب موارَبًا للحصول على تنازلٍ وخسارةٍ لحماس، تبدأ بتأسيس نهاية للمشروع التحرري في فلسطين بغطاء مجلس الأمن الذي لن يستطيعَ أن يفرض واقعًا لم تستطع واشنطن أن تفرضه، لأنه كان ولا يزال أحد آليات الهيمنة الأمريكية, فإذا كانت واشنطن التي تعيش مرحلةً انتقاليةً قد فشلت فماذا عن الحديقة الخلفية فضلاً عن تغيّر بعض قواعد اللعبة في قدرات وحضور أقطاب العالم الدوليين؟ وما قصدته هو أنّ مجلس الأمن لن يُنقذ التحالف المعادي لغزة، وستفشل المحاولةُ العربيةُ الرسميةُ لتحقيق هذا الغرض.

 

إسناد الصمود ومحاولة الالتفاف

 

ومع هذا التصدع في المرحلة الأولى وفشلِ المشروع الإسرائيلي تزامنت صورُ المحرقة مع تحرك الشارع العربي والإسلامي، نخبةً ورأيًا عامًا، وبرغم أنه لا يزال في موقع التقصير الكبير إلا أنه شكّل ضغطاً على الأرض، وقلقًا لبعض الدبلوماسيات العربية من تأثُّر استقرارها، وأيضًا طلب التحالفُ المتواصل مع الأطراف العربية الرسمية الأخرى باحتواء حركة الضغط الشعبي، حتى لا تمثّلَ سندًا معنويًّا أو ميدانيًّا على معبر رفح ودول الطَّوْقِ، وتساهمَ في تورط حرب العدوان الثلاثي، وانهيار إستراتيجيته الكلية.

 

ومع أن أحدًا من القوى الشعبية العربية لم يُطالبْ بعصيانٍ مسلحٍ ولا بانقلابٍ عسكريٍّ، ولكنْ بالسماح لحركة تضامنٍ متواصلةٍ عربيًّا تنتهي بفتح المعبر، وبالضغط على قوى العدوان - وهنا شريك عربي معه- من خلال التغطية الإعلامية الحقيقية وتفعيلِ السلاح الاقتصادي .

 

ولذا فقد تشكّلت ثقافةٌ لاحتواء الموقف التضامني لنزعه من تأثيراته بمشاركة بعض الشخصيات والتنظيمات الإسلامية، وهي تقوم على تحويل الخطاب التضامني من رفض العدوان بشراكة وتقصير عربي إلى أن القضية هي صراع وخلاف بين الفلسطينيين، ولذ ا فإن التضامنَ يكون بدعوتهم للوَحْدة، مع إلغاء ذكر الهدف الذي حدَّده الإسرائيليون أنفسُهم، وهو اجتثاث حماس كمشروعٍ تحرُّريٍّ أمميٍّ عربيًّا وإسلاميًّا, بمعنى أنّ هذا الخطاب الذي بدء تسويقه يهدِف لعزل حماس، وتحويلِ مشهد الصراع جانبًا، برغم أن العدو هو مَنْ حدّده، وأنّ الإسناد يعني أن تسند قيادةٌ مشروعَ المقامة الذي يستهدفه العدو، وتُدينَ شركاءَ العدوان، وتدعوَ للتوحّد كأبجدية لا خلاف في تقديرها بين الأمم، وأن تُرص الصفوف خلف من يقود مشروع المقاومة، حتى ينتهيَ العدوان، وليس بدء حوار مع مَنْ اصطف مع العدو, وإنما بتأكيد دعوة الطرف المتورط في العدوان أن يُقلع عن الشراكة الآن وليس غدًا، وحين يندحر العدوان يبدأ بعدها تداول الحوار الوطني وإلاّ فاستخدام دعوة الحوار في هذا الظرف له تفسير آخر, والالتزام بهذا الخطاب المحسوم مبدئيًّا لا يُلغي مشروعية التحذير من التورّط في أعمال عنفٍ خارج دائرة الصراع مع أنظمةٍ أو غيرِها، وهو أيضًا لا يُلغي الصلوات الصادقة لأجل الصامدين، والتبرعات التي تصل إلى مصادرها المستحَقّة, ولكن يجب أن لا يكون ذلك مستبطنًا لخطاب تحريضي أو تشكيكي في الصامدين.

 

الصمود المزدوج

 

وأمام كل ذلك الاضطراب من التحالف الثلاثي فإنّ صورايخ غراد والقسّام أظهرت أكبرَ تطورٍ في موازين الرعب وقدراتِ المقاومة، وهي تتجاوز كلَّ الأرقام الإسرائيلية المتوقعةِ وتضربُ أهدافَها وتُسقط قتلى وجرحى, ومع ذلك الزلزال الشديد الذي يعيشه الإسرائيليون ويحتاج إلى زيارة عاجلة من باراك أو ليفني بعد سقوط الصواريخ لمحاولة إقناعهم بالصمود, يُسقط هذا الزلزال ما تبقَّى من قدرات لدى الجمهور الإسرائيلي, وعليه فإن تقدم هذه القدرات ووصولهَا لأهدافها يجتمع معه محافظة حماس على قدرتها الاستراتيجية الهجومية الردعية أمام الزحف البري وخنق العدو في هذا الواقع وتطويراته المقلقة له.

 

 

المقاومة وتكريس التأسيس

 

ونصرُ غزةَ قد بدء من خروجها من المرحلة الأولى وقد انكسر التحالف ولم تنكسر في تلك المرحلة، وهو نصرٌ نسبيٌّ في الحسابات، ولكنه استراتيجي في الهدف النهائي, ولسنا هنا نقلل من حجم التضحيات القائمة والقادمة ونهر الدماء والفداء، لكننا نعرف ماذا يعني ما تنتهي إليه هذه المرحلة من الصراع مع الكيان الصهيوني من خلال دحرجة مشروع المقاومة إلى تثبيت قواعد المشروع التحرري لفلسطين على الأرض، ولجوء العدو وحلفائه لشروط الهدنة التي تشترطها المقاومة وليس الحلفاء، وهو تفصيلٌ سيكون لنا فيه حديثٌ آخر مستقبلاً، وغزة ومواكب شهدائها قد تقدمت للنصر، برغم كل المؤامرات وبأس العدو وخيانة القريب.