خبر العمل العسكري البري على غزة ومأزق إستراتيجية الخروج ..عماد فوزي الشعيبي

الساعة 10:09 ص|04 يناير 2009

ـ عرب 48 ـ 3/1/200903

عند انتهاء مبكر لبنك الأهداف العسكرية الرئيسة لإسرائيل في غزة وبعد ثلاثة أيام على أبعد تقدير من بدئها لم يهيئ لإسرائيل إلا إما الاستمرار لفترة بضرب المدنيين لإضعاف الروح المعنوية والرواق الخلفي الداعم للمقاومة، أو الذهاب بعيداً في الدخول البري لمنطقة انفجار سكاني فيه عشرات آلاف المقاومين لطالما حلم رابين أن يستيقظ صباح ذات يوم ليراها وقد ابتلعها البحر.

فرقتان مدرعتان إسرائيليتان حشدتهما إسرائيل من أجل الهجوم البري المفترض أنه سيحسم الحرب ولكن السيناريوهات مفتوحة:

التقدم صعب جداً من قطاعات عمليات متعددة ولكنه ممكن من الشرق إلى الغرب في منطقة سهلية مفتوحة تبعد 7 كيلومترا عن غزة ولكن هذا الدخول لا يفسح في المجال أمام البقاء ويضع دبابات إسرائيل وقواتها في منطقة مكشوفة وهذا سيعني دخولا استعراضيا أمام الفضائيات ولكنه لن يحدث أي إنجاز عسكري وبالتالي سياسي.

التقدم الأمثل يكون إسرائيلياً عبر جباليا شمالاً إلا أن منطقة جباليا بعد اغتيال الدكتور نزار ريان صاحب نظرية الستار البشري،حيث صعد سكان بيته إلى السطح على أمل ألا يتجرأ الجيش الإسرائيلي على مهاجمته حين يكون في المكان مدنيون. وهو ما تمخض عنه تمسكاً من المقاومة بجباليا وهو ما سيؤثر نوعياً على المواجهة البرية هناك.

قد أصبحت خزاناً عسكريا وبشرياً سيجعل الدخول البري الإسرائيلي مكلفاً إلى أبعد الحدود. الواضح أن ترسانة مخزون حماس الإستراتيجية لم تصب بأذىً ومجرد استمرار الحرب واستمرار سقوط الصواريخ سيعني أن الإسرائيليين قد دخلوا في حلقة مفرغة، حاولوا أن يتهربوا منها عندما لم يعلنوا أهدافاً مسبقة للحرب خشية عند عدم تحقيقها في بدايات عملياتهم وفي خواتيمها أن يبدو الأمر بمثابة هزيمة استراتيجية. ففي التقرير الذي أصدرته قيادة جهاز المخابرات الإسرائيلية الشاباك بمناسبة نهاية السنة أن منظومات صاروخية متطورة ومقرات عسكرية أنشئت تحت الأرض خلال فترة التهدئة ، وقد تبين مؤخراً أن هذه المنظومات ومنظومات الربط والاتصال والحماية لم تتأثر. وهذا يعني قدرة حماس على الاستمرار وهو ما سيوقع قيادة إسرائيل في مأزق يفتح احتمالات العمل العسكري بصورة لافتة، فهي ستستمر في عدوانها الجوي وبنفس الوقت لن تقوم بأكثر من دخول استعراضي بين كر وفرّ.

هل سيوقف الإسرائيليون الحرب دون نتائج أم سيستمرون بها إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية وسط احتمالات مفتوحة إما تقضي على الاتجاه اليميني المتشدد أو تأتي به بديلا من حكومة الهزائم الإسرائيلية وذلك وفقاً لما ستأتي به مجريات الحرب وخاصة عند الانتقال من الصواريخ أرض- أرض إلى الصواريخ المضادة للدروع.؟

المعضلة التي تقف امام الجيش هي في أحد خيارين أحلاهما مدمّر: هل الدخول الآن بثمن واضح يتمثل في أن جنودا كثراً سيقتلون في مثل هذه الحملة ويدعي المؤيدون للحملة البرية بأن فضائلها عديدة وتتضمن ضربا حقيقا في مناطق اطلاق الصواريخ، في البنى التحتية وفي الانفاق أم التوجه نحو الانهاء السريع للحملة على خلفية الضربة الشديدة التي تلقتها حماس.  إذا يدرك الإسرائيليون ويقولون: إن الرجل الذي وقع الاختيار عليه على تحويل حماس الى جيش هو احمد الجعبري، وهو يُعتبر اليوم قائد الذراع العسكري. وقد بدأ الجعبري عملية تحويل الخلايا الارهابية الصغيرة الى وحدات عسكرية مرتبة: شمال القطاع تحت قيادة احمد غندور، مدينة غزة بقيادة رائد سعد، وسط القطاع بقيادة ايمن نوفل (معتقل الان في مصر)، خان يونس بقيادة محمد سنوار وجنوب القطاع بقيادة محمد ابو شمالة. بالتوازي مع الكتائب تعمل قوة بحرية تضم 200 نشيطا وقوة تنفيذية لزرع العبوات وإطلاق الصواريخ وجمع المعلومات،و تعد بمئات النشطاء.

جيش حماس، الذي يعد حسب التقدير الإسرائيلي نحو 20 الف مقاتل، يعمل اليوم حسب سلسلة قيادية مرتبة نسبيا. في السنوات الاخيرة، كاستخلاص للدرس من الاشتباكات مع جنود الجيش الاسرائيلي تعلمت المنظمة كيفية استخدام القوات المساعدة مثل مطلقي قذائف الهاون للتغطية على القوات المقاتلة. وقد نجحت في أن تهرب وسائل اكثر تطوراً كالصواريخ المضادة للدبابات من طراز كونكورس، ورشاشات ثقيلة تستخدم لاطلاق النار على الطائرات وكميات كبيرة من المواد المتفجرة ذات المواصفات العالية.

وأعدت حماس المنطقة لحملة برية من الجيش الاسرائيلي. فرجالها حفروا الأنفاق المتفجرة،و زرعوا العبوات الناسفة الكبيرة في محاور السير وأجروا تدريبات على القتال في منطقة مبنية. واضافة الى ذلك، تحسنت بشكل جوهري قوة الخلايا المضادة للدبابات لدى المنظمة وبنيت خنادق تحت أرضية تستخدم كمخازن للوسائل القتالية، القيادات ومواقع اطلاق النار، الرقابة واطلاق الصواريخ. ولا تزال بانتظار قوات الجيش الاسرائيلي منازل مفخخة، انفاق طعم مفخخة، ومخربين انتحاريين.  وقد روى ضابط كبير في الجيش الاسرائيلي قبل بضعة أشهر بان أحداً لا يستخف بقدرات حماس. وقال الضابط: "في السنة الاخيرة تعنى حماس كل القوت بزرع العبوات على طول القطاع. بعضها في حفر عميقة ما أن تمر عليها دبابة حتى تنفجر. كما توجد حفر لاختباء المقاتلين. نحن نتوقع شبكة قناصين مدربة مع معدات نوعية. ما يوجد لحزب الله في لبنان هرب الى غزة ايضاً".

المعروف أنه بعد ثلاثة من بدء حملة ما أسماه الإسرائيليون "الرصاص المصهور" في قطاع غزة، واسرائيل تبدأ بالبحث عن مخرج سياسي من الحرب. ولذلك فإن تنفيذ خطوة برية في القطاع سيكون بهدف تشديد الضغط على حماس ولكن الى جانب ذلك يتبلور رأي آخر في القيادة الأمنية في أن الحملة قريبة من استنفاد اهدافها وانه اذا كان ممكنا فرض تسوية مريحة نسبيا لاسرائيل على حماس فمن الافضل تبنيها بسرعة.  يعترف الإسرائيليون أن منظمة حماس بدأت تنتعش من الضربة التي ألحقها بها الهجوم الجوي يوم السبت،وامتصت الصدمة الأولى فيما تؤمن حالة الطقس الشتوية حماية جزئية لخلايا إطلاق الصواريخ من خطر الطائرات.

العامل الضاغط على إسرائيل يتمثل في أن الصواريخ قد أصابت عمقاً لم تشهده إسرائيل من قبل ما يعزز مبدأ انهيار المذهب العسكري الإسرائيلي الذي يقوم على نقل الحرب إلى أرض الآخرين ومقايضة العمق (المدني) الإسرائيلي بالعمق المدني لدى أعدائها؛ حيث يؤكد الإسرائيليون أنه في منطقة أسدود أُصيب -لأول مرة- مستوطنون بكاتيوشا بعيد المدى. وفي ناحل عوز قتل شخص واصيب آخرون جراء سقوط قذيفة هاون... والبقية كرت كالمسبحة.  وإذ تمتنع إسرائيل بشكل معلن رسمياً عن البحث في وقف النار الذي ينهي القتال، فإنهم عمليا، يحاولون بشكل حثيث خلق آلية تسمح باتفاق سريع على التهدئة. ويدور مع حماس حوار غير مباشر ومتردد.

ويبدي الإسرائيليون خشية من ما يسمونه المفارقة: حيث أن الاصابات في منظومة الاتصال بين قيادات الخارج وقيادات الداخل ، التي تضع المصاعب في وجه المنظومة العسكرية لحماس للعودة الى أداء مهامها على نحو تام، تعرقل ايضا تحقيق الهدوء، وهو قد يكون أمراً ظاهرياً تستفيد منه حماس لزحلقة الإسرائيليين نحو حرب استنزافية ونحو جنون الحرب البرية.  ويفتي الإسرائيليون أنه عندما ستتحقق تسوية، ستطالب اسرائيل بهدوء كامل على مدى الزمن. في المدى الابعد، يبدو أنها ستوافق على اعادة فتح معابر الحدود. ولكن الموقف الاسرائيلي الحالي لم يتبلور نهائيا بعد؛ إذ بينما يعتقد بعض من الوزراء بأنه يجب مواصلة ضرب حماس، فإن وزير الدفاع ايهود باراك ورئيس الاركان غابي اشكنازي أكثر حذراً من الذهاب بعيداً والمطلوب اليوم هو استراتيجية خروج وليس مزيد من الانغماس وهذا هو الفرق بين إدارتي حربي 2006 و2008-2009. فالإستراتيجيون من أصحاب القرار في إسرائيل من متضرري فينوغراد لا يزال الفشل الذريع في لبنان يؤثر على مواقفهم، ويريدون هروباً إلى الأمام ، أما العسكريون الإستراتيجيون أمثال باراك فيرفضون ويبدو أنهم لا يريدون أكثر من خروج بماء وجه فاتر!.

إن هدف الحملة في غزة، كما صيغ في المجلس الوزاري الإسرائيلي وفي الجيش الإسرائيلي هو "خلق واقع امني آخر في الجنوب، على مدى الزمن، في ظل تحسين الردع الإسرائيلي"، وهذا هدف مطاط لأنهم لم يعلنوا عن أهداف استراتيجيه للحرب إذ يستطيعون أن يقولوا إنهم قد أخرجو الترسانة الصاروخية من العمل ولا يكون هذا صحيحاً ولكنه سيكون مخرجاً قد تسمح به حماس تكتيكياً.  إن استراتيجيين من أمثال باراك يعرفون أن دخولاً برياً سيترافق مع اصابات غير قليلة. وهو قد ألمح بذلك في خطابه في الكنيست، حين شرح بان "لكل مقاتل يوجد وجه واسم وخصال خاصة به" والأمر يقف كجزء من الاعتبارات بالنسبة لاستمرار المعركة.  باراك كاستراتيجي ليس غريبا عن هذا الحساب العاقل؛ ففي 12 تموز 2006، بعد بضع ساعات من اختطاف الجنديين في جنوب لبنان، اتصل برئيس الوزراء ايهود اولمرت وحذره قائلاً: "من المهم جداً تحديد كيف ومتى تنتهي (الحملة) إذ كلما مرّ الوقت يزداد احتمال التورط"، وهذا التقدير بالتأكيد صحيح اليوم ايضاً.  وسيكون لنتائج الحرب الحالية، تماما مثلما لحرب لبنان الثانية، آثار بعيدة المدى على ميزان القوى في الشرق الأوسط. وعليه يقول الإسرائيليون بوضوح: في لبنان بات واضحا من انتصر. أما في غزة، فسنحصل على الجواب في الأيام أو الأسابيع القريبة القادمة.