خبر مقال للمفكر « علي عقلة عرسان » : ما الذي يليق بغزة..؟

الساعة 12:29 م|03 يناير 2009

 

ما الذي يليق بغزّة في اليوم الثامن من أيام الإبادة الصهيونية التي تستهدفها بالقصف والدمار والحصار، وما الذي يليق بالشهادة التي ترفعها رمزاً للجهاد ومنبراً للحرية وداراً للأحرار؟ هل يليق بها الحداد، أم البكاء، أم مناشدة الضمير العربي والإنساني المدفون في غياهب الصمت، أم النشيد والنشيج في وحدة صوت وصدى، أم الصبر والاحتساب.. أم كل ذلك مضافاً إليه جلال التضحية وشموخ الصمود في وجه الوحوش الصهاينة الذين يتكلمون عن الإرهاب والأخلاق والقيم والدفاع عن النفس وهم الإرهاب القذر، والكذب الصُّراح، وعفن العالم، وعار البشرية، والعدوان المجسد في كل صفحة من تاريخهم الأسود، وفي كل موقع دخلوه، وتحرك قاموا به، ولفظ أطلقوه، وكلمة كتبوها؟!

ما الذي تُراه يليق بغزة في اليوم السابع من أيام عرسها الدامي والإبادة الصهيونية التي تستهدفها بوحشية لا مثيل لها؟.

لقد كشفت الأيام العصيبة الماضية أن العدو الصهيوني استفاد إلى أبعد الحدود من التمزق الفلسطيني، وأحسن التوقيت، وحقق المفاجأة مستخدماً تمويهاً في مواقع وزيارات وتصريحات عربية وإسلامية، وأنه خطط منذ زمن، ونفذ بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأميركية التي لها ما لها من نفوذ وخطط وأهداف ومصالح في البلدان العربية والإسلامية، ولها تاريخ من الانحياز الأعمى الكراهية الحمقاء ضد العرب.

وقد حاول الكيان الصهيوني أن يقدم الكيان الصهيوني عدوانه على غزة على أنه مصلحة مشتركة لمن يعنيهم أمر المنطقة، وقد أشار بوضوح إلى أنه ومن يؤيدونه من العرب يخوضون معاً معركة ذات أهداف مشتركة، وأن من يهدفون إلى التخلص منه هو المقاومة العربية عامة والفلسطينية خاصة، ابتداء من اجتثاث حماس التي تأتي على رأس القائمة، وأن ينالوا مما يسمى محور المتطرفين العرب الذي تحدوه أن يتدخل لينقذ غزة إن هو استطاع؟ وجاء ذلك تصريحاً وتلميحاً من ساسة ومثقفين ومحللين وإعلاميين.. إلخ؟ ووردت إشارات في كلام رسمي إلى من لديهم "أجندة" نفوذ ومشاريع في المنطقة، والمعني بالأمر هو إيران التي تدعم المقاوم في غزة. والقضية محبوكة مع إدارة بوش في توقيتها ومداها وأهدافها وخطوطها الرفيعة، وموقف هذه الإدارة معروف وهو يتكرر، صورة طبق الأصل عما حصل في عدوان الكيان الصهيوني على لبنان عام 2006 مع فوارق تكتيكية. فقد صمتت على المذبحة، وأدانت الضحية، ومنعت أي إدانة لإسرائيل. وحين سقطت صواريخ صوتية على بئر السبع أعلن بوش أساه على جريح إسرائيلي، ولم ينطق بكلمة عن سقوط أكثر من أربعمئة شهيد فلسطيني وألفي جريح في غزة؟.  

لقد قالت صحيفة ها آرس الصهيونية "إن اولمرت أكد خلال جلسة شارك بها جميع رؤساء الأجالعرب.منية في الدولة العبرية إنّ العديد من قادة الدول العربية يحثونه على مواصلة العملية العسكرية وضرب حماس، وأنّه يتلقى الاتصالات منهم عبر قنوات مختلفة." ـ ما أشبه هذا بما قيل في عدوان تموز/آب 2006 على لبنان ـ  واستخدمت ليفني عبارة "معالجة قضايا المنطقة" في القاهرة قبل العدوان على غزة بيومين، وذلك يفيد بأن المطلوب هو رأس الحركة الإسلامية والمقاومة العربية ابتداء من حماس على الأقل لمعالجة هذه القضايا ومن ثم بيان إفلاس المقاومة وما يسمى دول الممانعة، وترسيخ التفاوض والتنازل.

وقالت ليفتي أيضاً من باريس في الأول من يناير 2009 " إنها تنفذ خطة تفيد المعتدلين العرب ."، و" "إنّ إسرائيل تعمل على مسارين، مساعدة السلطة الفلسطينية (برئاسة محمود عباس)، والعمل على استهداف حماس والحرب عليها". 

وربما فسر هذا كله مأزق مجلس وزراء الخارجية العرب الذي يمثل الأنظمة العربية ويجسد مأزقها، فهو لم يجتمع إلا بعد أن أعطى الوقت اللازم للعدو لكي ينجز معظم مهامه الرئيسة، واجتمع بعد فوات الأوان لمن يريد أن يحمي وينقذ، وحين اجتمع لم يتخذ موقفاً يوقف العدوان أو يلوح بإمكانية التدخل لوقفه، وإنما لجأ إلى مجلس الأمن الدولي الذي يعرف الجميع مسبقاً نتيجة اللجوء إليه.. ومن سأل من أبناء الشعب العربي عبر المظاهرات والبيانات والمنشدات، عن الأنظمة ودورها والجيوش ومهامها أجيب بقوة وقسوة وبصورة لا لبس فيها: " بأن كل جيش عربي هو لحماية بلده ونظام بلده، ولن ينجرّ لمعركة في غير الدفاع عن حدوده؟ ولن تفرَض على أي دولة حروب لا تقررها هي..".. وتلك قاعدة لا خلاف عليها ولا مزاودة فيها.. فالجيوش لحماية لأنظمة وليست للدفاع عن الأمة.. والأمة أصلاً مختلف بين الرسميين على من ينتمي إليها، ومن يمثلها، ومن يتكلم باسمها، ومن يدافع عنها، ومن..إلخ. ولا يوجد في يد كثير من الأنظمة أصلاً أي قرار إلا ما يُؤمر به أو يراد له أن يكون قراراً.

وفي موقف استباقي يدل على المأزق والإفلاس والعجز، جاء طلب تدخل تركية في الأمر لاستثمار علاقاتها الجيدة بأطراف عدة ـ ولست ضد مشاركة تركيا وتدخلها ولكنني أشير إلى مدى التمزق والغياب العربيين عن ساحة الإرادة والقرار والمبادرة البناءة في شؤون وأوقات تاريخية حاسمة ـ فتركية على علاقة جيدة بالكيان الصهيوني وبسورية وبحماس وبالولايات المتحدة الأميركية وإيران أيضاً، ولكن استمالتها إلى ما يسمى حلف المعتدلين لوضعها بمواجهة إيران، من خلال موقف ضد محور المتطرفين الذي تصنف فيه حماس، أمر غير ممكن فهي لن تنزلق في هذا الاتجاه لأن لها مشكلاتها وحساباتها الخاصة، وتعنيها العلاقة الجيدة مع إيران وسورية والمقاومة.. فالشعب التركي في العمق متعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بصرف النظر عن مواقف حكوماته، وقد أشار الرئيس أردوغان إلى المظاهرات التي خرجت لإدانة العدوان الصهيوني على غزة والتعاطف مع الشعب الفلسطيني في الكثير من المدن التركية.

وبعد فإنني أعود للسؤال الذي طرحته في مطلع كلامي:

ما الذي يليق بغزّة في اليوم السابع من أيام الإبادة الصهيونية والمحرقة التي تستهدفها بالقصف والدمار والحصار والنار، وما الذي يليق بالشهادة التي ترفعها رمزاً للجهاد ومنبراً للحرية وداراً للأحرار؟ هل يليق بها الحداد، أم البكاء، أم مناشدة الضمير العربي والإنساني المدفون في غياهب الصمت، أم النشيد والنشيج في وحدة صوت وصدى، أم الصبر والاحتساب.. أم كل ذلك مضافاً إليه جلال التضحية وشموخ الصمود في وجه الوحوش الصهاينة الذين يتكلمون عن الإرهاب والأخلاق والقيم والدفاع عن النفس وهم الإرهاب القذر، والكذب الصراح، وعفن العالم، وعار البشرية، والعدوان المجسد في كل صفحة من تاريخهم الأسود، وفي كل موقع دخلوه، وتحرك قاموا به، ولفظ أطلقوه؟!

ما الذي تراه يليق بغزة في اليوم السابع من أيام عرسها الدامي والإبادة الصهيونية التي تستهدفها بوحشية لا مثيل لها؟.

دم أطفالها المستباح لا يترك لذي ضمير راحة، واستغاثاتها المدوية لا تلقى استجابة شافية وتغرس في كل قلب مبصر سكين ألم وأشواك ندم، ونزيف جرحاها يمِدّ الأرض والذاكرة بما يثمر، لو أثمر، عزيمة وهمة وشجاعة ومواقف وطنية وقومية وإنسانية مشرفة.. والتواطؤ المكشوف عليها وعلى ما تمثله في الوجدان الواقع العملي والشعبي العربي الحي، يتركها وأهلها وعدالة ما تمثله، مرتعاً للوحوش وجحيم المحرقة التي يسعِّرها الصهاينة بأجساد أبنائها وعمرانها ومقاومتها العملاقة.. يريدون اجتثاثها وإطفاء شعلة نورها في الوجدان العربي.. وهي تأبى أن تستسلم أو تركع أو تغادر تاريخها.. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.. ويليق بها أن تكون رمزاً لإرادة المؤمنين بالله والحق والحرية والعدل والنصر المبين. وموقعاً متقدماً في النضال والوعي والانتماء، على المستويين العربي والإسلامي، فهي أرض رباط اليوم بمواجهة الاحتلال، وهي المقاومة المشروعة والمسؤولة التي يستهدفها العدو وحلفاؤه والمتواطئون معه من العرب.. إنها غزة الباقية ما بقي شعب عربي يرفض الهزيمة والاستسلام والانصياع لتخاذل الحكام، ويتصدى للمحتلين والمستعمرين وأعوانهم وعملائهم وأجرائهم، ويرفع صوته ضد الظلم والقهر ومن أجل الحياة والعدالة والنصر.. غزة الباقية على خريطة الجهاد والصمود والشرف.

إن غزة المقاومة التي هزَّت جماهير الأمة العربية والعالم الإسلامي وكل الشرفاء في العالم، وحركتها في تظاهرات شعبية خرجت في معظم العواصم، أعطت دفعاً قوياً لقضية فلسطين والمقاومة ضد الاحتلال وللصحوة العربية والإسلامية، وثبتت بجراحها أهداف الصراع والمواقف المبدئية لأجيال عربية قادمة، ودفعَت التطبيع مع العدو الصهيوني ودعاته ومروجيه والعاملين على ترسيخه إلى وحل الشوارع ومزابل التاريخ.. وعرّت الكيان الصهيوني وكشفت حقيقته البشعة أمام العالم، كما كشفت المتواطئين معه ولجمتهم.. ووضعت الأنظمة العربية أمام حقائق ضعفها وهزالها وتمزقها وعدم أهليتها لتمثيل الأمة وقيادتها، وأمام حقائق ولاء بعضها للعدو الصهيوني وحليفه الأميركي ولاء يعلها تستنصره على بعض أهل بيتها.. وغزة المضرجة بدمها صنعت لأمتها ولقضية فلسطين التي نذرت نفسها لها في وقت التفريط والتنازل.. الكثير الكثير، وتستحق أن تكون رمز المقاومة والصبر وعنوان النصر. 

ولو أن المقاومة الفلسطينية الباسلة وغزة التي قدمت أكثر من أربعمئة شهيد وألفي جريح وسيلاً من الدم والدموع، لم تخرج من هذه المعركة إلا بهذه النتيجة الشعبية الكبيرة وباستمرار إرسال الرمزية إلى عمق فلسطين المحتلة لكانت هي الرابحة في هذه الجولة من جولات الصراع العربي الصهيوني الذي سيستمر حتى التحرير الشامل لفلسطين.. كل فلسطين.   

وأؤكد ما دعوت إليه في اليوم الأول لبداية العدوان على غزة في دعوة عاجلة:

إن العدو الصهيوني يجسد اليوم طبيعته الوحشية وأداءه النازي ودمويته التاريخية، وجيش الاحتلال بلا أخلاق وينفذ أوامر ساسة بلا أخلاق، ويتابع مسلسل الإبادة بلا توقف.. هذه حقائق رسختها الوقائع على الأرض منذ بداية إرهاب العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني حتى اليوم.. وغزة المنكوبة تمر في واحدة من أقسى معارك المواجهة مع الاحتلال. العدوان الصهيوني مستمر وهذه إحدى ذراه الإجرامية، وتواطؤ أنظمة عربية مع العدو الصهيوني في عدوانه على غزة وتصفية حماس والمقاومة الفلسطينية، ولو بالسكوت على الأقل، أمر لا يمكن استبعاده ولا قبوله ولا تركه يمر من دون كشف وعقاب، كما لا يمكن قبول الصمت العربي والفرجة على الاستباحة الوحشية لغزة وأهلها بعد طول حصار.

الشعب العربي ومؤسساته غير الرسمية مطالب باتخاذ مواقف سريعة وقوية وحاسمة ضد العدوان الصهيوني، وصمت الأنظمة العربية، وضد تواطؤ المتواطئين، ومطالب أيضاً باتخاذ  مواقف واضحة وقوية ضد الجريمة الكبرى ومن يتفرج على الدم العربي المستباح..

إن استمرار وجود سفراء وسفارات ومكاتب "إسرائيلية" في دول عربية عار كبير وعلى الشعب العربي أن يمسحه عن وجه الأمة في أقطارها الآن وبكل الوسائل، واستمرار اتفاقيات ومفاوضات مع إسرائيل، وتزويدها بالنفط والغاز والمواد الأولية الأخرى.. جريمة بحق الشعب الفلسطيني والشهداء العرب والأمة العربية والتاريخ، والآن وقت وضع حد لهذا. إن الإرهاب الصهيوني ـ الأميركي لا يمكن أن يتوقف إلا بمواقف شعبية عربية قوية رادعة للعدوان والتواطؤ.. القمم العربية ليست رداً، والرسميات العربية الإيجابية مجهضة سلفاً بتدخل أميركي مرسوم ومجرب.

لا تسمعونا الصوت الصهيوني في إعلام العرب بعد الآن، ولا تساهموا في تبرير الإرهاب الصهيوني والجريمة العنصرية بنشر الأكاذيب الصهيونية والخضوع لإملاءات الإدارة الأميركية.. أسمعونا صوت الشعب العربي ومقاومته ورفضه للذل، وأرونا مواقفه على الأرض.. ضعوا الرسميين العرب أمام مسؤولياتهم الوطنية والقومية والإنسانية.. وإلا فالصمت أولى.    

لن تُهزَم المقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق، ولن تصفى قضية فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني. وستبقى فلسطين عربية في الذاكرة والوجدان والنضال اليومي إلى أن تعود كلها بلا استثناء لأهلها بكل الطرق والوسائل الممكنة، ومن يقود العرب إلى غير ذلك لا يمثل الشعب ولا الوجدان العربيين.

الحق معنا، والمستقبل لنا، ولن تموت إرادة التحرير فينا، ولن تسحق المقاومة.. والحرية تليق بالإنسان العربي ولا يليق به الذل أبداً، والصهيونية شر مطلق وإجرام مطلق وعدوان مطلق وإرهاب مطلق.. ولا يمكن أن نقبل هذا السرطان في جسمنا..

 الخيارات المنقذة مكلفة ولكل خيار ثمن.

إننا مع غزة، ومع خيار المقاومة، وضد الاحتلال والتواطؤ والعدوان..