خبر حسابات حماس .. عبد الحليم قنديل

الساعة 05:07 م|29 ديسمبر 2008

ـ القدس العربي 29/12/2008

رغم محاولات استئناف التهدئة، والنشاط المفاجئ لدور الوساطة المصرية، وصيحات إسرائيلية تحذر من عواقب عملية عسكرية في غزة، فإن الانفجار بات وشيكا وبعنف غير مسبوق.

وقد بدت تصريحات السياسة على السطح كأنها تمهد لتفاوض يقبل الانزلاق لحرب، فإسرائيل تشكو إلى مجلس الأمن من صواريخ حماس، وسلطة عباس بدت في المأزق، توالي حرصها على تأكيد الرغبة في الحوار مع حماس، وتكثر من مناشداتها للقاهرة باستئناف جولات الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني، فيما بدت القاهرة حريصة على وصل ما انقطع مع حماس، واستئناف الاتصالات، وتنشيط دور اللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية، وفي وسط أجواء توحي بحرص واشنطن على مد أجل التهدئة في غزة .

وقراءة السطح الظاهر قد توحي بالرغبة في المزيد من التفاوض، المشكلة : أن الطريق بات مسدودا، فحماس لا تريد التهدئة بأي ثمن، وهي تدرك أن التهدئة المجانية تسحب من رصيدها، فما معنى أن تتوقف عمليات المقاومة المسلحة، وأن يتوقف إطلاق الصواريخ المزعجة، وأن تترك 800 ألف إسرائيلي عند مرمى صواريخها في أمان، بينما لا يحصد أهل غزة سوى البؤس واستمرار الحصار، وبينما لا تفتح المعابر إلا لأيام، وبينما ينزلق وضع غزة إلى حافة المجاعة الجماعية، وكأن التهدئة صارت قرينة للحصار، وهي الصورة العكسية بالضبط لما أرادته حماس، فقد أرادت حماس من التهدئة شيئين واضحين، أولهما : فتح المعابر مع العدو، والفتح الدائم لمعبر رفح بالذات، وثانيهما : أن تقتطع وقتا تضيف فيه إلى قوتها العسكرية وتنظيم جيشها، وقد تحقق الهدف الأخير دون الأول، وصارت حماس قوة عسكرية معتبرة، ولكن دون أفق سياسي يغري بمنافع من وراء وقف إطلاق النار .

وقد بدت حماس بإعلانها أولا عن نهاية التهدئة، وكأنها تستعيد زمام المبادرة، وصارت في وضع المطلوب لا الطالب المستجدي، فسلطة عباس توالي مناشداتها باستئناف الحوار مع حماس، والقاهرة التي خاصمت حماس تستعيد همزة الوصل بها، بينما تبدو إسرائيل في عين الحيرة، وتبدو أجواؤها مضطربة على مقربة من انتخابات عامة، وتبدو الأطراف الإسرائيلية كلها حريصة على كسب سياسي وانتخابي من حوادث غزة، ووسط اختلاط حسابات المكسب والخسارة، تذهب السيدة ليفني ـ زعيمة حزب كاديما ـ إلى مصر، وتبحث في تجديد وساطة القاهرة بشأن التهدئة وملف جلعاد شليط، بينما لا تبدو ليفني نفسها واثقة بأن شيئا ذا بال سوف يتحقق توا، وتنتقل من لغة الحمائم إلى لغة الصقور في غمضة عين، وتتحدث كثيرا عن ضرورة اقتلاع حكم حماس في غزة، وتطلق التهديدات بالحرب، وعلى رجاء الإضافة لرصيدها الخائر في مواجهة تقدم انتخابي ظاهر لحزب الليكود بزعامة نتنياهو، بينما يبدو أولمرت ـ رئيس الوزراء الحالي ـ في وضع البطة العرجاء، فقد صار بلا مستقبل سياسي بعد قضايا فساده المتكاثر، وليس من صالحه النفسي أن تبني ليفني مجدها على جثته .

هل تتورط اسرائيل

وبالجملة، تبدو حسابات السلاح في صالح حماس، فقد تستطيع إسرائيل بالفعل أن تنفذ عملية عسكرية خاطفة في غزة، وبقوة نيران وتدمير واسع النطاق، وقد حشدت قواتها على حدود غزة في انتظار تلقي الأوامر، لكن الاندفاع العسكري الإسرائيلي غير مأمون العواقب، فعملية خاطفة قد لا تكفي، والانزلاق إلى خيار السلاح قد يتصل إلى زمن يطول، وكلما طال وقت العمل العسكري كلما خسرت إسرائيل اكثر، وربما لذلك بدا حرص قادة الجيش الإسرائيلي على إطلاق صيحات التحذير، جابي أشكنازي ـ رئيس الأركان الإسرائيلي ـ أعلن تخوفه على حياة ومصير الجندي جلعاد شليط الأسير لدى حماس، وليست القصة ـ بالطبع ـ في حياة جلعاد، القصة الحقيقية في التخوف من تورط الجيش الإسرائيلي في حرب مفتوحة، فجماعات حماس ـ والفصائل الأخرى ـ مدربة جيدا على حرب العصابات، وتدرك أن مقتل الجيش الإسرائيلي في خوض حرب استنزاف طويلة المد، وأن نقل مسرح العمليات إلى الداخل الإسرائيلي سوف يقلب الطاولة، وربما لذلك يهدد قادة حماس باستئناف العمليات، وتلك إشارة ظاهرة لتهديد باستئناف العمليات الاستشهادية في مدن العمق الإسرائيلي، ويبدو التهديد بالعمليات الاستشهادية ردا مباشرا على خطط إسرائيلية معلنة قد تلجأ إلى الخيار الأسهل، وهو تنفيذ عمليات اغتيال لقادة حماس الكبار في غزة .

مأزق اسرائيلي

إذن، تبدو أجواء الحرب، أو حتى التهديد بها، مما يفيد حماس بأكثر مما تفيدها التهدئة غير المجدية، فقد صارت حماس 'رقما صعبا ' في معادلة الصراع مع إسرائيل، وبافتراض أن إسرائيل اغتالت بالفعل عددا من قادتها الكبار، فإن دم الشهداء الكبار يزيد من قوة حماس جيدة التنظيم، فحماس ليست مجرد حكومة في غزة، إنها تنظيم سياسي وعسكري معقد التركيب، وقصف النيران الإسرائيلية ـ مهما بلغت كثافتها ـ لا ينهي سيرة حماس، وربما يعزز الميل لتنفيذ عمليات استشهادية، فقد تحولت غزة إلى ' حماس لاند'، وإلى قاعدة عمليات ربما لم تتح لتنظيم فلسطيني من قبل، والمعنى أن ضربة إسرائيلية خاطفة قد لا تكون مؤثرة بما يكفي، وقد تدفع إسرائيل ـ بتلاحق الحوادث ـ إلى إعادة احتلال غزة، وهنا بالذات مأزق إسرائيل، فهي تستطيع أن تجتاح غزة، بينما لا تستطيع ان تبقى فيها بدون تكلفة دم لا تطيقها، ولا يطيقها القادة الإسرائيليون الذاهبون إلى انتخابات قريبة، فكل فشل محتمل للجيش الإسرائيلي يضيف إلى حساب الفشل المتضخم للسيدة ليفني، وربما يضيف لحساب النجاح المتوقع لحزب الليكود وقوى اليمين الإسرائيلي، وهذه الأطراف الأخيرة ـ حال فوزها الانتخابي ـ ربما تجد نفسها مدفوعة للتهديد بحرب أكبر، وهو ما يضاعف من خطورة مأزق إسرائيل التي ضاع 'شارون' آخر ملوكها في غيبوبة السنين .

ويبدو أن حماس تدرك القصة كلها، وأن حساباتها أقرب إلى الدقة هذه المرة، وقد بادرت بإعلان إنهاء التهدئة، لكنها لم تقطع الطريق تماما على فرص تجديد التفاوض، وربما بميل إلى التشدد أكثر هذه المرة، فهي لا تبدي استعدادا متعجلا لاستئناف الحوار مع سلطة عباس، وتعرف أن موقف عباس سيكون أضعف مع نهاية مدة ولايته الرئاسية، بينما تتجاوب مع مساعي استئناف الاتصالات، وتجديد الوساطة المصرية، وقد استجابت لطلب القاهرة بهدنة وقتية قصيرة، وربما لتأكيد أنها قادرة على ضمان التهدئة، وفي الوقت نفسه الذي لا تخشى فيه التفجير، أي أنها تضع الأطراف كلها تحت الاختبار، فهي تريد تفريج أزمة معبر رفح من خلال اتصالاتها مع مصر، وتريد ثمنا كبيرا بإطلاق سراح مئات الأسرى مقابل جلعاد شليط، وتريد ربط العناصر كلها في توليفة تفاوض متصلة، وتريد كسر الحصار تحت ضغط التهديد بانفجار، فليس لدى حماس ما تخسره لو جرى الانزلاق لخيار السلاح، بينما ستجد القاهرة نفسها في حرج أمام شعبها، وتجد إسرائيل نفسها في هلوسات الخوف من تكرار تراجيديا الصدام مع حزب الله، وعلى جبهة حماس هذه المرة.