خبر معركة غزة.. معايير النصر والهزيمة ..مصطفى عياط

الساعة 10:12 م|28 ديسمبر 2008

 

بدأت إسرائيل حربها المفتوحة على قطاع غزة، متسلحةً هذه المرة بغطاء عربي أقوى بكثير من ذلك الغطاء الذي سعى البعض لتوفيره لها على عَجَلٍ قبل انطلاق حربها الفاشلة على لبنان في يوليو 2006، وهو ما يجعل الساعاتِ القادمةَ على موعد مع تحركات عربية متوقعة، يكون عنوانها المعلن هو وقفَ المجازر الإسرائيلية في غزة، بينما مضمونها وهدفها الخَفِيّ هو ترجمة القصف الإسرائيلي من الجو، إلى أهداف سياسية يتم فَرْضُهَا على الأرض، عبر تقييد المقاومة، وإعادة سلطة محمود عباس مرةً أخرى إلى غزة، حتى تبدوَ المشكلة كما لو كانت فلسطينيةً فلسطينيةً، وليست قضيةَ شعب محتل يتعرض لعدوان غير مسبوق.

 

الغطاء العربي لمجزرة غزة تجلى في أوضح صوره في الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني إلى القاهرة، وبالتحديد لمقرِّ رئاسة الجمهورية؛ حيث أعلنتْ من هناك، وبحضور وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أن إسرائيل عازِمَةٌ على تغيير الوضع في غزة، وإطاحة حماس من الحكم، بل ذهبتْ ليفني لأكثر من ذلك، مُلَوِّحَةً إلى أن إطاحة حماس يُعَدُّ مصلحة مصرية، كما هو الحال لإسرائيل، وللمفارقة لم يُعَلِّقْ أبو الغيط على ذلك، لا في الأولى ولا في الثانية!

 

إهانة وسخرية

 

وبالطبع، فإنه من الوارد أن القاهرة لم تمنح ليفني الضوء الأخضر بضرب غزة، وأنّ الزيارة برمتها كانت فَخًّا إسرائيليا لتوريط القاهرة؛ حتى تبدو للعالم كما لو كانت موافقةً على تلك المحرقة، كما فعل مناحم بيجين مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في عام 1981؛ حيث طلب موعدًا عاجلًا للقاء السادات، وعقب اللقاء قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف المفاعل النووي العراقي، وهو ما دفع السادات للإدلاء بتصريحات عنيفة، اتهم فيها بيجين بتوريطه في الأمر، ومحاولة إظهاره كمتواطئ مع إسرائيل.

 

وهكذا، فإن الفخَّ الإسرائيلي- بافتراض حدوثه- يستوجب موقفًا مصريًّا عنيفًا تجاه سلوك إسرائيلي يَنُمُّ في حده الأدنى عن "عدم الاحترام"، وهو نفس الوصف الذي استخدمه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، تعليقًا على كون القصف جاء بعد أيام قليلة من استقباله لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في أنقرة؛ حيث أعطى أولمرت الضوء الأخضر لتركيا للتحرك في اتجاه تجديد التهدئة، ثم جاءت الغارات لتبدو أنقرةُ كما لو كانت متورطةً في الأمر، وهو ما ردَّ عليه أردوغان بغضب.

 

سقف العدوان

 

وإذا كانت إسرائيل قد وصفت غارات السبت بأنها مُجَرَّدُ بداية لعملية عسكرية قد تستغرقُ وقتًا طويلًا، متحدثةً عن عملية متدحرجة، بمعنى أن سقف ووتيرة العمليات سوف يرتبط بطبيعة الأوضاع على الأرض، فإنّ ردودَ الفعل، سواء من المقاومة الفلسطينية في غزة، أو من الدول العربية، سوف تبقى حاسمةً في هذا الأمر، فهدف الغارات الإسرائيلية لا يتوقف فقط عند قتل وجرح المئات من الفلسطينيين، وإنما هدفها الرئيس هو جباية ثمنٍ باهظٍ من حركة حماس والمقاومة، يتم بموجبه تفكيك بنية المقاومة، وصولًا إلى استنساخ حكومة سلام فياض جديدة في غزة.

 

وهذا الهدف يمكن لإسرائيل تحقيقه عبر أحد طريقين؛ الأول: أن تقوم باجتياحٍ كاملٍ لقطاع غزة، وإعادةِ احتلاله مرة أخرى، لكنّ هذا الطريق ينطوي على كلفة عسكرية وبشرية باهظة، كما أنّ المجازر التي ستُرَافِقُ هذا الاحتلالَ سوف تصيب صورةَ إسرائيل في العالم بضرر بالغ، وتُبَخِّرُ ما حققته في السنوات الأخيرة من مكاسب، عبر مسيرة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية ، كما أن ذلك سيضطر إسرائيل للزجّ بالآلاف من جنودها إلى مستنقع غزة الذي فرتْ منه قبل سنوات.

 

ومن المفارقة أنَّ هذا الخيار- ورغم كلفته البشرية العالية فلسطينيًّا- فإنه على المستوى الاستراتيجي يُعَدُّ أقل الخيارات سوءا بالنسبة للفلسطينيين ومقاومتهم، فهو أولًا يجعل الانقسام الفلسطيني جزءًا من الماضي؛ لأنه لن تصبح هناك سلطة تابعة لحماس في غزة، وأخرى موالية لفتح في الضفة، وإنما ستلجأ فصائل المقاومة في غزة للعودة للعمل السري مرة أخرى، وبذلك تتخلص من عِبْءِ السلطة الوهمي الذي أثقل كاهلَها في السنوات الأخيرة.

 

غطاء عربي

 

وبالطبع فإن إسرائيل تُدْرِك الكلفة الباهظة لهذا الخيار؛ حيث لن تجد بين الفلسطينيين مَنْ هو على استعدادٌ لِتَوَلِّي مسئولية غزة، ممتطيًا ظهر دبابات الاحتلال، وحتى إن وجدتْ من يفعل ذلك، فإنه لن يمتلك أي شرعية تُسَوِّغُ له ممارسة هذه المسئولية على الأرض، ولذا فإن الإسرائيليين يُفَضِّلُون الولوج إلى هدفهم، وهو تفكيك المقاومة وبنيتها التحتية، عبر الطريق الآخر، والمتمثل في: توجيه ضربات موجعة إلى مفاصل القيادة السياسية والعسكرية في حركة حماس، بهدف إجبارها على التخلي عن خيار المقاومة، والانخراط في صفقة سياسية مع الرئيس محمود عباس تُؤَكِّدُ على هذا المعنى، وهو ما يحتاج إلى غطاء عربي لتمريره.

 

وبالتالي، فإن سلسلة الاجتماعات العربية، والتي من الْمُقَرَّر أن تنطلق الأحدَ باجتماعٍ لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، ستبقى جزءًا من هذا الغطاء المطلوب إسرائيليا، إذا اقتصرت المشاركة الفلسطينية فيها على الرئيس محمود عباس وحكومته، واستمرّ استبعاد حركة حماس من المشاركة، فعباس ليس ذا صلةٍ بالمعادلة الحالية على الأرض في غزة، كما أن مواقفه في هذا السياق لا تختلف كثيرا عن مواقف إسرائيل.

 

ومن المؤسف أن الدول العربية التي تُحَمِّلُ الفلسطينيين جزءًا من مسئولية المجازر التي ترتكبها إسرائيل، بدعوى أنّ انقسامهم الداخلي قد سهّل مهمة الاحتلال، هي نفسها تنخرط في محاور دولية وإقليمية عمَّقَتْ حالة التشرذم العربي، وإلا فما الذي يعوق انتهاء القطيعة بين مصر والسعودية من جهة، وسوريا من جهة أخرى، خاصةً وأن الملف اللبناني الذي كان سببًا في حدوث هذه القطيعة قد جرت تسوية ملفاته العالقة، وقام الرئيس اللبناني نفسه بزيارة دمشق، كما ستَفْتَحُ السفارة السورية في بيروت أبوابَها خلال ساعات.

 

صدمة ثم انتقاء

 

أما فيما يتعلق بالوضع في غزة، فمن الواضح أن الغارات الإسرائيلية استهدفت حتى الآن، وبشكل مُرَكّز، المقراتِ الأمنيةَ في القطاع، بهدف فَتْحِ الطريق أمام حالةٍ من الفوضى، وشَلِّ قدرة حماس على ممارسة مهام الحكم، وذلك على غرار عملية "السور الواقي"، التي قام بها آرئيل شارون في الضفة الغربية، وانتهت بحصار الرئيس ياسر عرفات داخل مبنى المقاطعة في رام الله، وَسَطَ صمت عربي ودولي.

 

ويُتَوَقَّعُ أن يواصل الاحتلال غاراته، لكن بشكل انتقائي ومركز، مستهدفًا عناصر المقاومة وبنيتَها التحتية، من مخازن للأسلحة، أو ورش للحدادة، خاصةً وأن سلطات الاحتلال تعتقد أن سلسلة الغارات المنسقة التي شنَّتْها صباح السبت قد حققتْ هدفَهَا المتمثِّلَ في بثِّ حالةٍ من الرعب والخوف في صفوف سكان في غزة، ما يجعل حماسَ أكثرَ طَوْعًا للقبول بتدخل عربي، يُعِيدُ تجديد التهدئة، لكن وَفْقَ شروط إسرائيلية مُحَسَّنة!

 

حدود النصر

 

وفي ضوء ذلك، فإن صمود حماس وقدرتها على ضبط الأوضاع على الأرض، سوف يَبْقَى حاسمًا في تحديد مصير تلك المعركة، فالقتل مهما بلغتْ بشاعته ليس بمقدوره تحقيق نتائج على الأرض، إذا ما صمدت إرادة المقاومين، وتم تحصين هذا الصمود بالتفافٍ ودَعْمٍ شعبي، سواء في غزة أو الضفة. كما أنّ التركيز على فضح بشاعة جرائم الاحتلال في غزة، يجب ألا يُحَوِّلَ الأمر إلى مأساة ونكبة إنسانية تُزَعْزِعُ وتهبط الهمم، وإنما يجب أن يتم توصيفُ ذلك باعتباره ضريبةً واجبةَ الدفع لكل مَنْ يسعى إلى تحرير أرضه، وأن الدعم العرب والإسلامي للفلسطينيين هو أيضا ضريبةٌ واجبةُ الدفع، سواء بحكم الأخوة الإسلامية، أو حتى وَفْقًا لمصالح السياسة.

 

وكما فعل حزب الله اللبناني خلال حرب صيف 2006، عندما وضع عنوانًا متواضعًا وممكنًا للنصر، وهو: إفشال أهداف خطط إسرائيل - وكان له تحقيق ذلك الهدف بنهاية العدوان، حيث استمر الحزب لآخر لحظةٍ في الحرب في إطلاق الصواريخ، مُسْقِطًا الهدفَ الذي أعلنه أولمرت عند بدء الحرب- فإنّ حماس مُطَالَبَةٌ بنفس الأمر، فليس مطلوبًا من المقاومة الفلسطينية، ولا في مقدورها مَنْعُ قوات الاحتلال من إعادة احتلال غزة، كما أنه ليس بمقدورها مَنْعُهُ من قَتْلِ آلاف المدنيين العزل، وإنما المطلوب فقط هو الصمود، وتكبيد الاحتلال ثمنًا مُوجِعًا عن جرائمه، فذلك هو الطريق لتصليب الموقف العربي، وحرمان البعض من الْمُضِيّ في طريق التواطؤ لنهاية الشوط.